في مقدمة كتابها حول ألبير كامو، والصادر في الولاياتالمتحدةالأمريكية، تقول عائشة كاسول في جوهر حديثها: ''كان الرجل كبيرا وطلبناه بالقليل، اعتراف شرعي··· في هذا البلد الذي شهد مسقط رأسنا، كنا ننظر للرجل الذي كان يكبر بعيدا عنا، أن ينظر إلينا ويعترف بنا على أننا أمثاله''· بداية لا بد من الاعتراف، ودون أي غموض، لم يكن ألبير كامو جزائريا، كما لم يبد الرغبة في أن يكون جزائريا· كانت ولادته في عائلة منحدرة من أصول إسبانية من ناحية والدته، ما جعله يصبح شديد التمسك بالاندماج وسط الجالية الفرنسية الأوربية، من خلال الجهود المبذولة في الدراسة في الوقت الذي كانت فيه أفراد الجالية الأوروبية واليهودية المولودين في الجزائر عازمون على المضي في حياتهم، إلى جانب السكان المحليين· كان يطمح كامو أن يتم قبوله من الجالية الفرنسية، غير أن النقلة النهائية نحو فرنسا كانت خلال الحرب العالمية الثانية· في هذه المرحلة فقط ولأول مرة بدأ شعوره العميق بالتعصب لصالح ثقافته الفرنسية وتمسكه بالهوية الفرنسية، والتي أكدتها فيما بعد في مقال صحفي في أكتوبر 1955 أسابيع فقط قبل عودته للجزائر لإطلاق دعوة لهدنة في حق المدنيين· في المقال الصادر بجريدة ''ليكسبريس'' في 6 جانفي 1956 يتحدث ألبير كامو لأول مرة بصراحة، ودون غموض، عن اختياره لأن يكون فرنسيا: ''فرنسي المولد وبدءا من 1940 فرنسي عن قناعة واختيار إرادي· وسأظل فرنسيا مادام الألماني ألماني والروسي روسي، وعليه سأتحدث بما أنا عليه، فرنسي''· كرس ألبير كامو مجمل أعماله السردية والوصفية للجزائر، وذلك إلى غاية تاريخ توجهه لباريس، حيث سيعمل في مجال الصحافة من خلال تسيير مجلة ''كفاح'' ما بين 1942-.1946 فقد كانت الغالبية الكبرى من كتاباته مرتبطة بالجزائر خلال فترة إقامته بالعاصمة الجزائرية· كانت جزائر استعمارية بطبيعة الحال، إلا أن ثقل المشكلات كان جليا· لم يسع ألبير كامو لغض البصر عما كان يعانيه الجزائريون المحليون، على العكس من ذلك سعى للحديث عنها وكشفها بطريقته وبأسلوبه، شجاعة وأخلاق· كانت الجزائر حاضرة في نصوص ألبير كامو بصفتها موضوعا حقيقيا وكذلك موضوعا مجازيا، عمل مرتبط بالحياة وبالذاكرة· الأكيد أن اهتماماته مركزية بالنسبة للجزائر، التي كانت حاضرة في جل قصصه القصيرة: الزفاف، الصيف، المنفى والمملكة· تماما كما كانت حاضرة في روايته: الغريب، الطاعون وكذك في المقالات الصحفية والروبورتاجات· لكن للأسف كانت الجزائر غائبة كموزع عن كتابات كامو الفلسفية والمسرحية· بدت الطبيعة الجزائرية والديكورات الواردة في كتابات ألبير كامو منبعا للراحة والتأمل، مثلما هو الحال مع الريف، المدن، المقاهي، الآثار، الفنادق··· نادرا ما تكون هذه الأماكن الجزائرية باعث للحركة أو مكانا للنشاط· كان الفضاء الجزائري بالنسبة لألبير كامو فضاء للراحة، قلما تكون فضاء للمواجهة والنزاع· يعبر كامو في كتاباته عن اكتشاف جمالي، بلد ينظر له على أنه الأرض الموعودة· بالطبع في مثل هذه الأجواء يظل الجزائري العربي مبهم الملامح، لا يتكلم، لا يتفاعل ولا يعبر عن نفسه· بالكاد يمكن التعرف عليه من خلال الزي، في الغالب برنوس حين يكون في الريف وبالبدلة الزرقاء الصينية حين يكون في المدينة· الجزائر التي يصفها ألبير كامو إلى جانب كونها جميلة، فهي حقيقية، ليست مجرد ديكور خيالي خارج الوقت· هي جزائر الجمهورية المحتضرة، الثالثة والرابعة، والتي لم تنجح في بلوغ الديمقراطية وترقية مستعمراتها· هي، إذن جمهورية الفرجة، التي تلجأ حكومتها العامة للتقاليد الفلكلورية لإحياء احتفالية مرور مائة سنة على احتلال الجزائر، من خلال استعراضات الغجر، قارئات الكف وغيرهم ممن التفوا حول الباشا غوات المتذللين والخاضعين للاستعمار· كانت سلطات الاحتلال تبني البلد للمعمرين وتحاول صياغة التاريخ لإبعاد الأساطير التي كانت تملأ أذهان الناس· في تلك الأثناء كانت كتابات كامو تتجه نحو نوع آخر من الأساطير، وبالتحديد الإغريقية منها من خلال الكتابة حول سيسيف، أوديب، بروتي··· أكانت عقدة الذنب أم تأنيب الضمير الذي دفع بكامو للتغاضي عن الواقع وتفضيل الكتابة عن الأساطير· اختار ألبير كامو أن يسير في ركب مؤرخي الاستعمار على غرار جيزال وقرنيي، دون إبداء أي نوع من الانتقاد والعمل على بناء أسطورة جزئرية داعمة لأسطورة الاحتلال الجالب للحضارة· كان المعمرون يحلمون بخلق عالم جديد، على شاكلة ما تغنى به جاك كابو، الذي أورد سيرة المعمين الذين غزوا أراضي الهنود الحمر، في ما بات يعرف بغزو الغرب· على هذا المنوال كان المعمرون الفرنسيون يحلمون ببناء عالم جديد خاص بهم في الشمال الغربي من إفريقيا· كان هذا الحلم أشبه بحلم إيجاد الأتلنتيد، تلك القارة الأسطورية التي أوردها أفلاطون في كتاباته والتي أعاد فكرة البحث عنها الكاتب بيير بنوا· في ذات الوقت كانت بداية المقاومة من طرف أوائل الروائيين الجزائريين الفركوفونيين يضعون ملامح شخصيات تاريخية لمقاومة التزييف· ففي العام الذي كان فيه ألبير كامو يتحدث في روايته عن شخصيات أسطورية، رواية ''بروميتي'' عام ,1946 كان روائيون جزائريون يتطرقون لشخصيات تاريخية جزائرية مثلما فعل في ذات السنة جان موهوب عمرو الذي أعاد للواجهة شخصية يوغورطا، وهي نفس الشخصية التي تحدث بلسانها الروائي محمد شريف ساحلي· في حين أن كاتب ياسين يتحدث عن عبد القادر الصديق المنهزم أمام الامبراطورية· كانت الكتابات الاستعمارية تحاول تكريس فكرة الاحتلال الجالب للحضارة، والتي كانت تركز على كون إفريقيا السوداء المنطقة العربية منطقة للأسطورات بالدرجة الأولى، وهي الفكرة التي يستمر للأسف البعض إلى غاية اليوم يرددها دون إدراك خطورتها· كانت كتابات ألبير كامو تندرج في إطار هذا التزييف التاريخي والممجد لدور الاحتلال الحضاري· كان واضحا أن كتاباته تسير في اتجاه كتابات لويس برتران وروبير روندو، بل أكثر من ذلك كانت لديه الرغبة في التفوق عليهم في رسم صورة لجزائر خيالية ''جزائر تحمل عبق نوستالجيا الأباء''، ولكن لما كان كامو يتيم الأب لم يكن يجرؤ على استذكار جزائر الأب· لم تكن صور تيبازة ولا جميلة قادرة على محو تلك الصورالتي كان يلتقطها كامو في مقاهي القصبة الموريسكية للجزائريين وكأنهم أسود استعصى ترويضها· لم يكن لإبن المعمر أن يجد مكانا له في تلك الأجواء، إذ لم يكن ينتمي لها· كانت الأحداث بعد ذلك كفيلة بأن تبرهن لألبير كامو أن الاحتلال لم يكن مهمة لجلب الحضارة وإنما مذبحة تاريخية لم تقتصر على اغتصاب بلد واحد بل قارة بأكملها، قارة أنجبت أسماء لامعة من أمثال باتريس لومومبا، سيكو توري، موديبو كايتا، نيلسن مانديلا، مصطفى بن بولعيد و كريم بلقاسم· كامو يكتشف الحقيقة البشعة للتاريخ من خلال أسطورة الاستعمار الكئيبة بين سنتي 1939 و1956 قام ألبير كامو بزيارتين لمدينة تيبازة، وقد سجل التغيير حتى المعالم التاريخية· كان كل ما تملكه الطبيعة من جمال وتناغم يؤكد على أن التاريخ في طريقه لانتهاج مسار آخر وأن الأدوار ستنعكس، تماما كما أن الاحتلال كان يحتضر· عام 1950 يقوم ألبير كامو بزيارة إلى موندوفيا لم يتسن له معرفة تفاصيلها، حيث كان شاهدا على التحولات التاريخية التي باتت تؤكد قروب نهاية الاستعمار، ذلك أنه مع مطلع الخمسينيات بدأ صوت سلاح يدوي، وصولا إلى عام 1954 تاريخ انطلاق ثورة التحرير· كان ألبير كامو يخشى أن يطاله حكم التاريخ من خلال مطالبته بالتعبير عن رأيه صراحة تجاه بشاعة الاحتلال· فقد سبق لكامو أن لمس وشهد بأم أعينه هذه البشاعة المرتكبة في حق الجزائريين في قلب العاصمة، في حي بلكور بالضبط، حيث كان يقطن في منزل جدته· كما شهد في تلك المنطقة خلال فترة العشرينيات والثلاثينيات صعود التيار الوطني الجزائري· وقد تأكد له هذا الصعود في جنازة الشاب أرزقي الناشط في نجم شمال إفريقيا، والذي سقط في سجن المحتل جراء التعذيب، فقد شهدت الجنازة حضور حشد ينبئ بالتفاف الشعب مع التيار الوطني· خلال أحداث الثامن ماي ,1945 وأمام بشاعة الوقائع يشعر كامو أنه أمام حتمية تاريخية تجبره على اتخاذ موقف محدد، بعدما أن قال التاريخ كلمته وأسقط القناع عن ممجدي الأساطير الاحتلالية· غير أنه بعد حصوله على جائزة نوبل كان قد قام باختياره في أن يظل وفيا لتلك الأساطير المزيفة والقائلة بأن الاحتلال كان جالبا للحضارة·