ان الحديث عن التواجد الروماني في منطقة الجلفة لا يمكن أن يكون كاملا دون التطرق الى أشهر هذه المواقع على الاطلاق ، ألا وهو موقع "كاستيلوم ديميدي" أو ما كان يعرف عند أهالي المنطقة ب "قصر البارود"، وذلك نسبة الى كون المكان مصدرا لأملاح البارود التي كانت تستخرج من أساسات البناء بحفر حفر عميقة، حيث تخلط هذه المادة مع الفحم والكبريت ليصنع منها بارود اشتُهرت به مسعد في كامل الصحراء لجودته العالية وكان يباع في قراطيس من القصب الجاف. لقد اعتقد الكثير من قادة فرنسا أثناء توغلهم في الجنوب في أراضي الجزائر أن التواجد الروماني ينتهي في السفوح الجنوبية للأطلس التلي أي في حدود الأراضي الخصبة و خط التماطر 400 ملم/سنة، الا أن شواهد كثيرة غيرت وجهة نظرهم. وكان لاكتشاف موقع "كاستيلوم ديميدي" وقعُ كبير حيث اعتبره المختصون في التاريخ الروماني في المغرب من أكثر الاجراءات العسكرية الرومانية جرأة وإقداما. ان أول من لاحظ موقع قصر البارود واهتم به هو الرائد في الجيش الفرنسي سوزوني (suzzoni)الذي كان قائدا على الأغواط ثم تلاه الطبيب روبود (REBOUD) الذي كان يقيم في "الرحى العسكرية" المقامة على واد الجلفة وذلك في سنة 1856 م في مقال بعنوان (ملاحظات آركيولوجية حول آثار الجلفة) لتتوالى زيارات العسكريين والمختصين الى المكان التي ساهمت في إفقار المكان من محتوياته. كما أقيمت به حفريات وكان آخرها حملتان قاما بهما عالم الآثار جيلبار شارل بيكار (Gilbert Charles Picard) في 1939م و1941م والذي كان مديرا لمتحف الآثار في تونس، حيث اعتبر كتابه الموسوم ب "كاستيلوم ديميدي" والصادر سنة 1947م من أكمل الأعمال وأهمها التي تخص مثل هذه التحصينات كما اعتبرت أعماله إضافة جادة حول المعارف المتعلقة بتاريخ الامبراطورية الرومانية خاصة فيما تعلق بسياستها العسكرية في الجنوب. و لكي يتسنى لنا الاحاطة الكاملة بتاريخ التحصينات العسكرية في الأطلس الصحراوي عامة و موقع "كاستيلوم ديميدي" خاصة، لا بأس أن نوجز تاريخ توسع الامبراطورية الرومانية في شمال افريقيا. بعد انتصار الرومان في الحرب البونيقية الثالثة والاخيرة سنة 146 ق م بمساعدة النوميديين بزعامة ماسينيسا وتدمير قرطاجة بالمقولة المشهورة التي بقيت وصمة عار على الغرب "يجب أن تُهدم قرطاجة" delenda est carthago، ظهرت أطماع الرومان التوسعية على حساب المغرب القديم، حيث أقيمت أول مستعمرة رومانية وضعت حدا لمخططات ماسينيسا للتوسع على حساب الأراضي القرطاجية و قد دعيت هذه المستعمرة فيما بعد بإفريقيا البروقنصلية التي شملت تونس والجزء الشرقي من الجزائر، كما لم تستمر الممالك النوميدية الحليفة لروما بفعل التنافس على الحكم بين ملوكها. وكانت روما تجد الذرائع لضم مزيد من الأراضي، حيث ضمت نوميديا فى سنة 46 ق. م بعد وفاة يوبا الأول. و بعد مقتل بطليموس ابن يوبا الثاني على يد الامبراطور كاليغولا سنة 40 م، ضمت روما موريطانيا الى أراضيها حيث قسمت هذه الأخيرة الى موريطانيا القيصرية وموريطانيا الطنجية لقد قسم الرومان بلاد المغرب الى ولاية من ولايات امبراطوريتهم وقسموها الى أربعة ولايات رئيسية ( افريقية، نوميديا، موريطانيا القيصرية، موريطانيا الطنجية) وعلى كل ولاية حاكم يتمتع بسلطات واسعة ومرتبط بحاكم المغرب العام ومهمته جمع الأموال الطائلة عن طريق فرض الضرائب الباهظة وبث بذور الخلاف والفرقة بين زعماء القبائل البربرية لإضعافها ومنعها من التفكير في الثورة على سلطانهم. خلال كل فترات الحكم الروماني لم تتوقف ثورات البربر ضد الرومان من ثورة يوغرطة (112/105ق م) الى تاكفاريناس (17/24م) و ايديمون (40/44م) وفيرموس (371 م) وثورات عديدة لقبائل نوميدية ومورية ... الى غاية عبور الوندال وهُم قبائل جرمانية من شبه الجزيرة الايبيرية الى شمال افريقيا سنة 429 م و سقوط قرطاجة سنة 435 م آخر معقل للروم في شمال افريقيا. ان اتصاف هذا الوجود بحالة الحرب تطلَّب استحكامات عسكرية فعالة قامت بها وحدات الجيش على مر القرون لحماية المؤسسات المدنية داخل المقاطعات من انتفاضات الجبليين من جهة وتحصين الحدود الجنوبية من هجومات القبائل الرعوية من جهة أخرى. و كان أهم هذه التدابير الليمس النوميدي والموريطاني الذي تمثل في بادئ الأمر بإقامة الأسوار حول الحصون والمعسكرات ثم امتدت تلك الأسوار لتشمل المدن وفيما بعد كل الاقليم الخاضع للسيطرة الرومانية. حيث اصطُلح على تسمية تلك الأسوار والخنادق والقلاع والتحصينات الدفاعية ب "الليمس" ونجد أن مفهوم الليمس تطور بعد الدراسات والأبحاث الحديثة والتي أجريت في مختلف المواقع ومكونات الليمس، ليشمل الى جانب الوظيفة العسكرية منه وظائف أخرى اقتصادية وعمرانية ، حيث اتخذت منه الادارة الرومانية احدى أهم آلياتها لتثبيت دعائم الاحتلال في المغرب القديم ولم يقتصر دور الليمس على الجانب العسكري فحسب، بل ارتبط بجوانب أخرى كالاستيطان واستغلال الأراضي فشكّل بذلك مؤسسة معقدة المكونات ومتكاملة الأدوار. ان الليمس النوميدي الذي أقامه أولا الحاكم تراجان (trajan) في القرن الأول الميلادي أدى الى انسداد السبل في وجه الرحل نحو اقليم الحضنة من جهة وانسداد الطريق امامهم باتجاه اقليم الرعي في جنوبي الأوراس قد جعل اعداد الجيتول البدو تتكاثر بهذه الجهة من سفوح الاطلس الصحراوي (جبال أولاد نايل والعمور) مما خلق ضغطا على السفوح الجنوبية للتل. لهذه الأسباب أقام الرومان حصن كاستيلوم ديميدي ليكون حربة رومانية مشهورة عند بوابة التدفق بين الصحراء والتل تراقب أي تسلل للمقاومين من الجيتول والمور، وبذلك تكون قد أحكمت قبضتها على منافذ الصحراء. شرع في بناء الحصن سنة 198م من طرف فصائل من الفليق الثالث الأغسطي والفيلق الثالث غاليكا ( عناصره سورية) في ظل حكم الامبراطور سيبتيموس سفيروس (septime sévère ) وهو ما نصت عليه النقوش اللاتينية المكتشفة في عين المكان، وقدّر عدد الجنود التي ضمتها تلك الفصائل بحوالي 300 رجل أغلبهم من المشاة كان على رأسهم القائد فلافيوس سوبروس (Flavius Superus). كما تواجدت أثناء بناء الحصن وحدة من خيالة البانوني (ala pannoniorum) تعدادها حوالي 500 رجل والتي كانت مهمتها على ما يبدو حراسة الورشة من أي اغارة للعدو وضمان الامدادات بالمؤونة وتشير الدلائل أنها غادرت المكان بمجرد الانتهاء من بناء الحصن. شغل الحصن من 198م الى غاية 225م من طرف رجال الفيلق الثالث الأغسطي التي لم يتجاوز عدد أفرادها 100 مرتزق وبعض الفرسان. ثم ان هناك كتابات تتحدث عن قدوم جنود تدموريين (palmyréniens) و خيالة من الفلافيان (Flaviennes) وذلك بين 226م الى غاية 235م ثم هناك مرحلة من الفوضى بعد اغتيال الامبراطور ألكسندر سيفير واستبداله بماكسيم (maximin) جعل الحصن يخضع الى رجال الفيلق الثالث الأغسطي و لكن الحصن لم يلبث أن أخلي سنة 238م بعد أن حلت فرقة الأغسطا الثالثة من طرف الامبراطور كورديان الثالث (Gordien 3). حيث جمع رجال الحصن كل ما يمكن نقله ويبدو أنهم قد أحرقوا الحصن أثناء مغادرتهم المكان حيث تظهر الحفريات التي اجراها بيكار في عامي 1939 و 1941 م آثارا للحرق في غرف وقاعات الحصن. خريطة توضح موقع الحصن المتقدم وتحصينات الليمس النوميدي والموريطاني "كاستيلوم دمد" لم يكن بالشكل الكلاسيكي المعهود في الحصون الرومانية، أي الشكل الهندسي المنتظم (مستطيل أو مربع) وانما كان له شكل غير منتظم، أخذ شكل سطح الربوة التي أقيم عليها. وكانت جدرانه بعرض حوالي مترين (02 م) مشكل من جدارين يملأ الفراغ الذي بينهما التراب وكانت حجارة الجدران من النوع المصقول (Moellons) قدرت مساحته الاجمالية بنصف هكتار مما يجعل منه مركزا لا يمكن أن تتجاوز سعته 300 رجل. كان على بابه الرئيسي برجان نصف دائريّين وممر رئيسي يمكن غلقه بسياج وكان يحوي غرف متعددة خصص منها للأعمال الحرفية كصناعة الفخار والحدادة ... من جهة الواد (واد مسعد) كان هناك باب أو اثنان صغيران يطلان على الواد بالإضافة الى ممر واسع في شكل حرف T والذي يمثل الفوروم (مكان التجمع). ووُجدت ضمن الحصن عدة معالم لطقوس عبادات مختلفة نظرا لاختلاف مواطن المرتزقة وديانتهم (محلية بربر، تدمرية، رومانية..) كما وُجدت به عدة غرف ودكاكين لإيواء الجنود ومزاولة الحرف الضرورية لتسيير ساكنة الحصن. مخطط توضيحي لمكونات الحصن الموقع: يظهر المخطط التوجيهي للتهيئة السياحية (SDAT 2030) الخاص بولاية الجلفة في جزئه الخاص بمسعد أن ما يوجد بالهضبة المطلة على "حي دمد" هو بقايا كاستيلوم ديميدي، وهذا غير صحيح والأصح أن ما يوجد في "قعدة دمد" هي آثار قرية بربرية (قصر) وقد تعود الى سكان دمد الأوائل قبل أن تبنى أسفلها دمد الحالية. أما قصر البارود (كاستيلوم ديميدي) فهو شمال واد مسعد (واد الحميضة) مباشرة بعد جسر طريق بوسعادة، فقد ادى استعمال حجارته في بناء "سد دمد" وشقّ طريق بوسعادة عبره الى اندثاره تقريبا ومازالت بعض من مساحة الربوة على حالها. خريطة قديمة (1929م) نوضح من خلالها بالسهم موقع قصر البارود ( castellum dimmidi)
صورة بالقمر الصناعي لموقع قصر البارود (castellum dimmidi)
صورة لتوضيح تموضع الحصن على الربوة كما تم تصورها حسب المخطط استخرج شارل بيكار بعد حفرياته في المكان مقتنيات كثيرة ونقوشات لكتابات لاتينية، عرضت في أماكن عدة كالمتحف الوطني لما قبل التاريخ والاثنوغرافية باردو بالعاصمة وحديقة والي ولاية الجلفة ومتحف الجلفة وأماكن أخرى. بعض آثار كاستيلوم ديميدي: بمتحف الجلفة لقد كان موقع دمد الروماني الوحيد الذي حظي بدراسة معمقة وما زالت هناك العديد من الكاستيلات و المواقع التي تعزى للرومان أو بتأثير منهم مثل حمام الشارف وبلدة الشارف والإدريسية (زنينة) والفج وحصن الجلفة الذي تحدث عنه الطبيب روبود (reboud) مبينا أنه كان في الجهة الشمالية للجلفة على بعد 02 كلم تقريبا وأنه كان بعرض و طول حوالي 45/40 م يحوي غرفا عديدة وبعض الأعمدة ومخلفات من الفخار، الا أنه مُسح تماما نظرا لوقوعه في الطريق. وهذا حال العديد من المواقع والقرى التي استُعملت حجارتها لترصيص الطريق وانجاز المعابر والجسور، فقد كانت الورشات في ظل الاستعمار الفرنسي آنذاك لا تجد حرجا في استعمال مواد تلك الآثار، فساهم ذلك في اندثار العديد من الشواهد والمعالم. صورة ملتقطة في 2009 لبقايا القرية البربرية في "قعدة دمد" وتظهر شجرة البطم قبل قطعها: المصور شويحة.ح المراجع: Dr. Rebound, "Notes Archéologiques sur les Ruines de Djelfa"- PICARD G-Ch., Castellum Dimmidi, Alger-Paris, s.d. (1947), 229- p., XIX pl. (publication fondamentale). محمد البشير شنيتي ،الجزائر في ظل الاحتلال الروماني (بحث في منظومة التحكم العسكري و مقاومة المور) ج1 Hartmayer,Notice sur le cercle de Djelfa RA n°29 1885 page144 جمال مسرحي، المقاومة النوميدية للاحتلال الروماني في الجنوب الشرقي الجزائري، مذكرة ماجستير جامعة منتوري قسنطينة 2008/2009 Y. Le Bohec, « Dimmidi », Daphnitae – Djado, Aix-en-Provence, Edisud (« Volume N°15), 1995, p. 2345-2349. » François de villaret, Siècles de steppe(jalons pour l'histoire de Djelfa)