عندما تخطف صعوبات الحياة براءة الأطفال، فان البحث عن دواعي هذا الخطف يتعلق بشكل أو بآخر إلى سياسة الحكومة التي تتبعها الدولة، فالطفل الذي يولد من رحم الحرمان و المعاناة سيكبر بمجرد أن يستشعرها فتُختلس طفولته و يصبح طفلا كبيرا عليه أن يتعب كي يحصل على قوت يومه ليعيش، فعمالة الأطفال هي الظاهرة التي استفحلت في الجزائر و الداء الذي عرفته ولاية الجلفة خاصة في العقد الأخير، ما جعلنا ننزل الى شوارع الجلفة و نرصد الظاهرة عن قرب . فقراء يحلمون بالبحر و لباس العيد ترتفع ظاهرة عمل الأطفال بالجلفة في الغالب مع دخول وقت الصيف الذي يعتبره الكثيرين منهم فرصة لجني و جمع المال من خلال الولوج الى عالم الشغل بشتى أشكاله، و مع حلول شهر رمضان المبارك الذي أصبح يصادف في هاته السنوات فصل الصيف فإن وتيرة النشاطات و المهن لديهم ترتفع أكثر، فما إن تقترب الى باحة السوق المغطاة وسط مدينة الجلفة الذي زرناه لأكثر من مرة تستمع الى أصوات الأطفال وهي تدعوك وتغريك بسلعها الغذائية المختلفة الأشكال بل تدغدغ أصواتهم المتعالية مشاعرك حتى تشتري منهم ما يريدونه و مالا تحتاجه في الغالب، و كأنهم تعلموا مبادئ التسويق الذي يُدرس اليوم في الجامعات من رحم أمهاتهم. فيصل صاحب ال 10 سنوات، من بين الأطفال الذي قابلناه و هو يبيع البقدونس و يتجول بها وسط السوق تقربنا ناحيته و هو يعرض سلعته علينا لنكتشف أنه من بين الناجحين في شهادة الابتدائي ويقطن بأحد الأحياء الفقيرة هنا بالولاية، و أثناء عملية البيع جلبنا أطراف الحديث معه عن عمله الذي اخبرني أنه يجني منه يوميا مابين 150 الى 200 دج، حيث يأخذ السلعة كما يقول من أحد التجار الذين يجلبونها طازجة كنوع من المساعدة و لم يشأ "فيصل" الحديث عن والديه عندما سألناه عنهما و اكتفى فقط بقول " أبي لا يجد عملا و أمي في البيت و أنا أريد جمع المال لأزور البحر مع الكشافة إن سمحوا لي، لأني لم أراه من قبل" ... طفل آخر صادفناه بالسوق المغطاة و هو يجر عربة متجها نحو إحدى محلات البيع بالجملة، تبعناه وراقبناه من بعيد و هو يحمل سلع احد الزبائن لينقلها الى بيته و رغم أن الطفل كان هزيل البنية إلا أنه كان يحمل موادا ثقيلة لا يكاد الرجل الكبير حملها بسهولة فتقربنا منه على أساس أننا نريد حمل بعض السلع أيضا لنسأله عن ثمن الجهد الذي يتقاضاه مقابل ذلك فأخبرني "سأحمل لكِ مقابل 120 دج"، فتظاهرنا أن المبلغ لا يساعدنا... ليعيد عرضه " حسنا سأحمل لك مقابل المبلغ الذي تريدين دفعه " لندرك مدى صعوبة العيش في زمن قد يستغل فيه تعب البراءة و هي تجاهد كي تكسب قوتها و زمن لا يأخذ فيه الأجير حتى حقه و إن كان طفلا في عمر الزهور . أما "سمية" ابنة 8 سنوات، فقد صادفناها في إحدى شوارع حي "بن جرمة" بالقرب من السوق المغطاة وهي تبيع أكياس بلاستيكية، كانت طفلة رثة الحال و علامات الكبر تظهر على وجهها الذي لفحته الشمس، أخبرتنا أن والدها لا يتحرك أبدا و أن أمها تبيع "المطلوع " للناس و أختها الكبرى تعمل كخادمة في إحدى البيوت كي تجلب لنا المال، فتساءلت عن سبب عملها مادام هناك معيل، لتخبرني أن أمها تطالبها بالعمل كي تكافئها فيما بعد وتشتري لها لباس العيد، و عن المدرسة تقول أنها تدرس لكنها تعيد السنة في كل مرة فالمعلمة التي تدرسها حسب قولها لا تحبها و تتعمد إعادة السنة لها، أما المبلغ الذي تجنيه سمية تقول" دائما أجمع 100 دينار في اليوم فقط " و تتحسر الطفلة أثناء حديثها عندما سُرقت حصيلتها في يوم فارط من قبل احد الأطفال الباعة الذين يتجولون أيضا في السوق... لا يحتاج ....لكنه يعمل ! جولتنا الميدانية قادتنا أيضا بعد الإفطار، حيث لاحظنا عدد الأطفال الذين ينشطون في بيع "الشواء" و الشاي و الحلويات و غيرها مما يستهلكه المواطن بعد وجبة الفطور، ليلفت انتباهنا أحد الأطفال و هو يبيع الفستق السودانى ( كوكاو) بأحد الأحياء الجميلة بالجلفة، و الحقيقة أن "فراس" الذي قابلناه و هو ابن 12 سنة لم تكن تبدو عليه حالة الفقر أو العوز بقدر ما كان طفلا مهذبا وأنيقا، تقربنا منه و هو في حالة بشاشة و انهماك مع زبائنه الذين اكتشفنا أنهم كانوا غالبيتهم من أبناء حيه و أصدقائه، فحدثنا عن حبه لممارسة البيع رغم أن والده يعمل كمعلم في الابتدائية و أمه ربة بيت تساعده على طهي الفستق السوداني ليقوم ببيعه و يزاول نشاطه الذي يقوم به في كل صائفة، حتى أن أحد أصدقائه فاجأنا و هو يدعونا أن نزور طاولته التي يبيع فيها " قلب اللوز " هو و أخوه لنشتري من عنده كما اشترينا من عند فراس و يخبرنا "هذه المرة سأشتري لباس العيد لوحدي" ، ما جعلنا نستغرب من هؤلاء الأطفال الذين يريدون تحمل و تعلم المسؤولية منذ صغرهم. الشارع الجلفاوي يرفض قهر الأطفال لكنه أيضا يشجع عملهم بعد مقابلتنا لفراس و أصدقائه في الحي، لفت انتباهنا موضوع عمل الطفل و هو غير محتاج فما كان علينا النزول مجددا للميدان، لكن هذه المرة للتحدث مع المواطنين حول رأيهم في عمالة الأطفال و البداية كانت مع عمي سعيد الذي يعتبرنا من بين زبائنه، يخبرني أن العمل ليس عيبا أبدا للأطفال بل و يشجعه أيضا بدلأ من أن يتسكع الطفل في الشارع و يرافق أصحاب السوء، و يحكي عمي السعيد عن تجربته وعمله و هو صغير، و هو اليوم بخير و صاحب أسرة كبيرة من الأبناء و الأحفاد، و لأن عمي السعيد قام بوضع مقارنة بين جيله و جيل اليوم قاطعناه بأن الوقت اليوم قد تغير و لا ينبغي أن يعيش جيل "الرقمنة" كجيل "الأبيض و الأسود" فيؤكد مجدد" يا ابنتي إن العمل ليس عيبا أبدا في أي وقت، و هي للصغير و للكبير" و عند تأهبنا للخروج عرفني عمي السعيد على أحد الأطفال كان برفقته و هو يقول مبتسما " هذا من بين أحفادي و هو يساعدني أحيانا في المحل "... حديث آخر أخذنا أطرافه عن عمل الأطفال مع إحدى النساء ممن كن يتجولن في سوق بن جرمة ، و كانت تبدو أنيقة المظهر ، فقصصنا عليها قصة "فراس" التي تساعده أمه على بيع الفستق السوداني فتقول مندهشة " يا لطيف !!، لا يمكنني أن أترك ابني يبيع الكوكاو و لا حتى حلوى، انأ أريد من ابني ان يكون شخصا كبيرا في المجتمع، فلو سمحت له بهذه الأعمال فانه سيتعود عليها منذ الصغر و ربما يترك الدراسة و يفشل في حياته و يصبح مجرد بائع في طاولة على رصيف شارع " أما رفيقتها التي كانت معها فذكرت "أن عمل الأطفال أمر لا يستوجب تماما فهو سيعلم الطفل السرقة، و كلام الشارع و أمور أخرى كثيرة "... من جهة أخرى يقول "قويدر"، و هو شاب بائع في إحدى المقاهي بالجلفة أن عمل الطفل ليس عيبا لكن لا يجب أن يزاول مهنة تكون خطيرة على حياته ، أو أن تجعل منه نكرة أمام الناس او حتى تؤثر على سلوكياته و تصرفاته فينحرف و تكون عواقب عمله وخيمة ، و هناك الكثير من الأطفال من انحرفوا وأصبحوا مجرمين و يقبعون في الأحداث اليوم . أطفال الجلفة عينة من العالم ... و" المجلس الأعلى للطفولة " من بين أهم النقائص في الجزائر إن الأطفال الذين يعملون بالجلفة و ممن رصدتهم " الجلفة إنفو" منذ بداية الشهر الكريم، لم يكونوا سوى عينة بسيطة عن عمل الأطفال في الجزائر و العالم أيضا ، فالظاهرة بطبيعة الحال ليست مقتصرة محليا، كما أن المنظمات الدولية التي تنشط على مستوى حقوق الإنسان و الطفل تكشف في كل عام عن إحصائيات خطيرة، و تتزايد يوما بعد يوم، و يعتبر 12 جوان من كل سنة يوما عالميا ضد عمل الأطفال... و قد أشارت تقديرات حديثة لمنظمة العمل الدولية هذه السنة تحديدا حول "عمل الأطفال بالبيوت" إلى أن نحو 10.5 مليون طفل في أنحاء العالم - معظمهم دون سن العمل - يعملون كخدم في المنازل، في ظروف خطيرة وشبيهة أحياناً بالرق وثمة 6.5 مليون من هؤلاء العمال الأطفال تتراوح أعمارهم بين 5 و14 سنة، وأكثر من 71 في المائة منهم فتيات ، علما أن تعبير كلمة "طفل" في اتفاقية 182 التي تعمل على حظر أسوأ أشكال عمل الأطفال و الإجراءات الفورية للقضاء عليها انه في مفهوم هذه الاتفاقية تطبق على جميع الأشخاص دون سن الثامنة عشرة، و هي الاتفاقية التي صادقت عليها الجزائر بتاريخ 09 فيفري 2001، كما أفاد آخر تقرير لمنظمة اليونيسيف لعام 2013 حول عمالة الأطفال إلى أن هناك واحد تقريباً بين كل ستة أطفال تتراوح أعمارهم بين 5 سنوات و14 سنة منخرط في عمالة الأطفال في العالم ، ما يجعل الإعلام و العديد من الدراسات الأكاديمية اليوم تقف عند الظاهرة التي استعصت كثيرا . أما على مستوى الجزائر فان الإحصائيات و الأرقام تبقى محل تباين و جدل كبير، فوزارة التضامن الوطني والأسرة في الغالب تتحفظ على الإحصائيات الدقيقة و الحقيقية حول الظاهرة رغم أن المنظمة العالمية للطفولة في سنة 2012 ذكرت أن الجزائر في مقدمة الدول التي تعرف ظاهرة عمالة الأطفال بشكل كبير قدر ب 1,8 مليون طفل . و في إحدى تصريحات وزيرة التضامن الوطني و الأسرة و قضايا المرأة "سعاد بن جاب الله" لوسائل الإعلام ذكرت بان من بين أهم النقائص المسجلة في مجال حماية الأطفال ورعايتهم من كل أشكال الأخطار هو "عدم إنشاء المجلس الأعلى للطفولة". كما أكد السيد عبد الرحمان عرعار رئيس شبكة ندى في إحدى حواراته للإذاعة الجزائرية أن شهر رمضان يزداد فيه عمل الأطفال و استغلالهم لحركة المواطن في هذا الشهر، و هذا يعود الى فقدان فضاءات لا تستوعب هذه الشريحة مما يستوجب ضرورة تطبيق و تنفيذ القانون لردع هذه الظاهرة . جمعيات الطفولة بالجلفة نائمة ...والظاهرة ستتابع تقربنا من بعض الجمعيات المحلية التي تركز في نشاطاتها على الأسرة و الطفل دون أن نذكر هويتنا وفي دردشة جانبية مع أحد العاملين بهاته الجمعيات أكد " أن عمالة الأطفال لا أحد يفكر في العمل عليها أو حتى رصدها و اغلب الجمعيات تعمل مع الطفولة المسعفة ، أو الأطفال اليتامى أو رصد المواهب في الجانب الثقافي"، ما جعلنا نتأكد من جهتنا أيضا أن الجمعيات غارقة في النوم و لا تعرف عن الظاهرة شيئا، و أن الظاهرة التي بدأت تتفشى بشكل كبير بالجلفة يجب أن تُتابع .