طالما كانت تحدِّثُ أحفادَها عن آبائهم الّذينَ كانوا يتحلَّونَ بالمروءةِ و الشّهامةِ ،و حبِّ الضّيفِ و نصرةِ المظلوم،و محبَّتِهم للأرض،و دفاعِهم عن العرض؛و كلّما ترأى لها أحدُهم لتؤنّبَه على حماقةٍ،أو تمدحَه على فضلٍ إلاّ و يراها ممسكةً بالمفتاح المُدلَّى على صدرها بقوّةٍ ؛ فمنذ أنْ أبصرتْ عيونُهم الدّنيا لم يروها بدونه قطّ !!..كانت تتميّز به عن باقي عجائز القرية ،كما كانت ذاتَ كلمةٍ و هيبةٍ كبيرتين تجعلانها محلَّ اهتمامٍ و خوفٍ و تقدير. .. و كلّما أعجبها صنيعُ أحدِهم _ يعاودُها ذكرى الأجدادِ _ و تودُّ مجازاتَه ،تقولُ له في شموخٍ و كبرياء: _" أ تَرى هذا المفتاح ؟..إنّه عزيزٌ على قلبي لأمرٍ ما في نفسي،و لكنّكَ بصنيعِكَ الجميلِ هذا أعزُّ و أغلى ! " .. لم يكنْ أيٌّ منهم يدري مدَى تعلُّقِ جدّتِهم بالمفتاح ،و لا لِمعنى بقائِه معلّقًا طولَ هذه المدّةِ لا يفارقُها لحظةً واحدة !! ..و ذاتَ ليلةٍ شتويّةٍ ،و هم يتدفّأون و يتسامرون ،خطر ببالها أن تختبرَهم ، قائلة : _ " أحبّائي؛ ماذا لو سألتُكم عن سرِّ هذا المفتاح ؟..و ماذا لو أهديتُه أحدَكم !؟ " ..كانت دهشتُهم عظيمةً ،و فرحتُهم بنيلِ مفتاحِ الجدّةِ أعظمَ !..و همَّ الجميعُ بالبحث عن لغزِه العجيبِ ، ثمّ دبَّ الخَوَرُ و اليأسُ إلى نفوسهم بعدَ رفضِ جدّتهم لكلِّ أجوبتهم و تفسيراتهم ،و لمّا عجزوا ؛قالت لهم في سكونٍ ،طالبةً منهم الانتباهَ و الصّمت : _ " أحبّائي؛ هذا المفتاحُ هديّةُ جدِّكم " صلاحِ الدّين" _شيخِ القريةِ و كبيرِها _ أهدانيه حينما صرعتُ سارقًا غريبًا عن القريةِ ،تسلّلَ إلى زريبته لسرقةِ شياهِه ،بينما كان الرّجالُ في السُّوق الأسبوعيّةِ،و لا أحدَ هنا غيرُ النّساءِ و العجائزِ و الأطفال ". ..حينها ردَّ عليها أصغرُ أحفادها_كان يلعبُ بالمفتاح في حجرها _ ردًّا جعلها تضمُّه إليها ضمًّا رقيقا : _ ".. هذا كلُّ ما في الأمر ؟!"...كان استنكارُ حفيدِها ينبئُ بخطبٍ ما !..قبَّلتْه، ثمّ أجلستْه حيالَ عينيها ، و قالت و هي تنظر إليهم جميعا : _" ما يهمُّ في هذا الأمر؛ أنّ مفتاحَ الشّيخِ " صلاحِ الدّين" كان يُخبِّئُ سيفًا ذهبيًّا بصندوقِه النّحاسيِّ العتيق،يعود إلى قرونٍ مضت.اِحتفظَ به،و أوصى بالمحافظة عليه سنواتِ حياته، و لمّا صرعتُ اللّصَّ كانت هديّتُه _ أي المفتاح _ علامةَ تقديرٍ منه لكلِّ مَنْ ينافحُ عن الحِمى و العرض ، و ها أنا أراني ما عدتُ قادرةً على ثقلِ المسؤوليّةِ ، و أشعرُ بقُربِ أجَلي، و أودُّ أنْ تحملوها عنّي..". .. أطرقَ الجميعُ رؤوسَهم؛ كانت كلماتُها مؤثّرةً ،ألجمتْ ألسنتَهم.إنّها تحدِّثُهم عن أمرٍ لا يفهمونه ،و لكنّ الدّمَ المتدفّقَ بعروقهم جعلهم يتحسّسونَ عمقَه..و لتُزيلَ سرابَ الغموضِ عن كلامها الغريبِ.. أردفت : _ " لابدَّ _ يا أحبّائي _ أن تكون لكم غايةٌ في هذه الحياة؛و من أهمِّ ما يجبُ أن تقوموا به هو المحافظةُ على وجودنا و قيمنا بالأخلاق و العلم و المحبّة ؛و ما هديةُ جدِّكم سوى تعبيرٍ حقيقيٍّ عن تقديره لِي و حُسنِ ثقتِه فيَّ ؛ كما أودُّ أن أقدّرَكم الآنَ و أُحسِنَ الثّقةَ فيكم و الظّنَّ بكم..هل فهمتم ؟ ". ..عادَ الصّغيرُ مرّةً ثانيةً يستوضحُ الأمرَ بسُؤالٍ عجيب : _ " و لِمَ المفتاحُ ؟..و ليس السَّيف يا جدّتي ؟!". ..أجابته _ و هي تحدّقُ في عينيه البرّاقتين _ ضاغظةً على كتفه الهزيل : _" بُنيَّ؛ ليس المفتاحُ إلاَّ رمزًا ،كنتُ أعلّقُه على صدري ترونَه كلَّ يومٍ ،حتّى يبعثَ في نفوسِكم السّؤالَ عن سرِّه و معناه ؛أمّا مفتاحُ حياتِكم السَّعيدةِ فهو الكفاحُ من أجل الوطن ،و حبُّ ترابه،و الاعتزازُ برجالاته و حرائِره و إنجازاته".. ..نظر كلٌّ إلى صاحبه،و شيءٌ ما يجولُ بخواطرهم..!! ثمّ وقفَوا وقفةَ رجلٍ واحدٍ، مُمسكينَ بأيدي بعضهم البعض..عندها رفع أكبرُهم سنًّا يدَهُ إلى السَّماء ، و قال: _ " جدَّتي ؛ نعاهدكِ على أن نحافظَ على الأمانة ما حَيِينا؛ و من الليلةِ سيكون لنا هدفٌ نبيتُ على مناهُ ، و سيكونُ المفتاحُ المعلّقُ بصدركِ ،و السّيفُ المكنونُ بصندوقِ كبيرِ القوم ، حِرزًا يمُدُّنا بالأمان ،و عزمًا يهبُنا قوّةً و مهابة..". ..علمتِ الجدّةُ لحظتَها بأنّ أحفادَها قد وصلتْ رسالتُها إليهم.ابتسمتْ _ متأمّلةً في وجوههم _ ثمّ سرَى القبولُ و الرّضا بقلبها ،و بعدها استأذنتْ لتنام َ،تاركةً إيّاهم يكملونَ سهرتَهم و سمرَهم ،مستقبلةً القبلةَ ..هامسةً في نفسها: _ " لكَ الحمدُ و الشّكرُ يا الله؛ و إن مِتُّ الآنَ فسأموتُ و أنا مرتاحةُ البال..!! "..قصة / الوَصِيَّة..!