- عندما يبدو أن كل شيء يعاندك و يعمل ضدك، تذكر أن الطائرة تقلع عكس اتجاه الريح، لا معه. ( هنري فورد ). - دق جرس الساعة الرابعة المزعج معلنا بداية فترة الاستراحة، فخرج جميع طلاب السنة الثالثة مندفعين من الأقسام و تجمعوا في الساحة مشكلين أفواجا مبعثرة هنا و هناك، و تعالت قهقهات الضحك و أصوات تبدو قريبة و أخرى بعيدة، فيما اختفى الطلبة المعيدون مفضلين كالعادة الهروب من فوق سور الثانوية الخلفي، لأن الساعة الأخيرة تدرس فيها اللغة الفرنسية، و ليس لها أهمية كبيرة خلافا للمواد العلمية التي تحدد مصيرهم في امتحانا نهاية السنة و البكالوريا، و في الجهة المقابلة من الساحة انتشر طلاب السنة الأولى و الثانية و كانوا كالنمل تائهين لكل وجهته، شلة منهم خرجوا لتوهم يجرون مسرعين قاصدين المرحاض كالعادة، بينما فضل باقي الطلاب تشكيل أزواج ذكورا و إناثا لتبادل أطراف الحديث في أماكن منعزلة من فناء الثانوية. عاد رنين الجرس ثانية معلنا نهاية الاستراحة، و كانت الساحة شبه فارغة بعد أن فر المعيدون و اختبأ الباقون في المراحيض لإكمال سيجارة أو قراءة رسالة حب معطرة، و عاد الطلاب المنضبطون إلى الأقسام، بما فيهم الباقون من زملائي و كان أكثرهم فتيات، ولم أكن معهم طبعا، و فضلت مثل كل مرة أن أكمل الساعة الأخيرة في أحد أقسام السنة الثانية، فدخلت معهم القسم و هم ينظرون إلي باستغراب، و شيء من الخوف من ملامح وجهي التي توحي بكبر سني على عكس وجوههم البريئة الطفولية، ثم جلست في آخر طاولة وحيدا، لحظات فقط بعدها دخل الأستاذ متكاسلا فعم السكون و انقطعت الفوضى، و أرسل بنظره نحوي مستكشفا الوجه الجديد و سألني: "ماذا تفعل هنا يا أستاذ"، فضحك جميع الطلبة، وابتسمت الفتاة التي أعشقها في أول الصف، أجبته و أنا مازلت مسترخ في جلوسي: "أنا طالب في السنة النهائية و لست أستاذا، و أنا هنا لطلب العلم - و قلت لنفسي: " و قليل من العشق لا يضر و لا يؤثر في البكالويا" - قاطعني الأستاذ مستغربا: "و لماذا لا تطلب العلم في قسمك"، أجبت مبتسما: "يقولون يا سيدي أطلبوا العلم و لو في الصين"، ضحك جميع الطلاب و ابتسم الأستاذ الحازم، و ابتسمت حبيبتي و هي تنظر خلفها نحوي في آخر الصف، و كنت سعيدا لأنني جعلتها تبتسم، أشار الأستاذ المنهزم بيده إلى التلاميذ و هو يأمرهم بالصمت و إخراج الكتب منهيا بذلك الحوار الذي دار بيننا، متجاهلا وجودي في قسمه رافعا بذلك راية الهزيمة، و بدأ الدرس..، و كانت الفتاة الجميلة ذات العينين العسليتين تتابعه باهتمام كبقية زملائها، فخفت أن ينسيها اهتمامها البالغ بالدرس وجودي في أخر الصف، فكنت أصدر أصوات نحنحة في قلب الدرس لألفت الأنظار نحوي، فلم ينجح هذا الأمر، فقررت أن أجرب خطة ثانية، فقلت مخاطبا الأستاذ العجول: "إن نظري ضعيف، فهل يمكنني أن أجلس مع الفتاة في أول الصف"، فانطلقت ضحكات الطلبة مدوية اهتزت لها أرجاء القسم، ضرب الأستاذ الغاضب بيده على المكتب، سكت الجميع، ثم أمرني بلهجة حازمة ألا أتكلم مجددا، ..قاربت الساعة على نهايتها، ثم خفت أن يفسد الدرس ما جئت لأجله، فأخذت ورقة و طويتها صانعا بذلك طائرة ورقية و كتبت على جناحها أحبك، وعلى الجناح الثاني أنتظر رسائلك بفارغ الصبر، و أرسلتها عبر الهواء نحو عشيقتي، حلقت الطائرة ولفت تدور في فضاء الغرفة ثم اختارت وجهتها، و حطت و استقرت فوق رأسها الجميلة.