تغيير ميزان القوى يكون ضمن عمل استراتيجي يزاوج السلام بالمقاومة عاد الدكتور سالمي العيفة، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة الجزائر في حواره مع «الشعب»، إلى القرار الذي أصدره الرّئيس الأمريكي قبل أسبوع بخصوص القدس، والذي دشّن من خلاله مرحلة أعلى من الإنحياز للكيان الصهيوني الغاصب. وقال الدكتور العيفة إنّ تطاول ترامب على الشّرعية الدولية ومنحه الكيان الصّهيوني ما لا يملك، جاء في خضمّ تراجع الموقف العربي الداعم للقضية الفلسطينية نتيجة حالة الوهن والتشرذم والضعف التي تعيشها البلدان العربية، خاصة منذ اندلاع «الرّبيع الدّموي». الدكتور العيفة عرّج على القرارات الدولية التي تؤكّد فلسطينية مدينة القدس، وأكّد بأنّ الضّربة التي لا تقتل فهي تقوّي، لهذا على الفلسطينيّين استغلال الفرصة لإتمام مشروع المصالحة، فرهان القضية اليوم هو وحدة المقاومة. ❊ الشعب: الانحياز الأمريكي لإسرائيل كان دائما حقيقة، لكن ترامب ذهب إلى أبعد الحدود، ما قولكم؟ ❊❊ الدكتور سالمي العيفة: حقيقة أنّ الانحياز للكيان الصهيوني لا يرتبط بأمريكا فقط، فهناك دول غربية كثيرة منحازة تماما لهذا الكيان، ولا بالرئيس ترامب فقط، فرؤساء أمريكا كانوا في الغالب منذ 1967 محل انحياز أيضا، ولكن هذا الانحياز مع ترامب أخذ شكلا أكثر جرأة وأكثر تحديا، وهذا الأمر يتغذى على بعدين أساسيين: الأول: يتعلّق بالعلاقة المتميّزة بين أمريكا والكيان الصّهيوني، والتي تسوقها إعلاميا على أنّها جزيرة ديمقراطية ضمن أرخبيل من الاستبداد والفساد والظلم والفوضى، طبعا هذه حقيقة واهية ولكنها تعتبر مبررا تستند له الولاياتالمتحدة في حماية ورعاية هذا الكيان بشكل مستمر، حيث أخذ هذا الدعم صورا عديدة سياسية واقتصادية وعسكرية ودبلوماسية. ويلاحظ في هذا الشأن أن أمريكا زودت دولة الاحتلال الصهيوني بمستوى من الدعم لا يقارن بما قدمته لأي دولة أخرى، منها مساعدات اقتصادية مباشرة جعلت منه دولة صناعية غنية متوسط الدخل فيها تقريبا يساوي ما هو موجود في كوريا الجنوبية أو إسبانيا. كما أنّ هذا الكيان الغاصب يتلقّى سنويا حوالي ثلاثة بلايين دولار كمساعدات أمريكية مباشرة دون أي مطالبة بتقديم كشف حساب عن كيفية إنفاق هذه الأموال، هذا إضافة إلى المساعدات العسكرية المباشرة أو غير المباشرة، بدعوى الخطر المشترك المتمثل في التهديدات الإرهابية، والتي تزعم أمريكا والصّهاينة أنّ منطلقها في الغالب الدول العربية، كما يحظى الكيان الصهيوني بدعم دبلوماسي معتبر، حيث توفّر الولاياتالمتحدة الدعم الدبلوماسي المستمر المتمثل في استعمال حق الفيتو في مجلس الأمن الدولي لعرقلة قرارات تكون فيها دولة الكيان الصهيوني محل نقد في قضايا صادمة للضمير الإنساني العالمي، كما تدخّلت الولاياتالمتحدة من أجل الحيلولة دون إدراجها ضمن برنامج عمل الوكالة الدولية للطاقة الذرية وإخضاع ترسانتها النووية للتفتيش أو المراقبة. وبهذا الخصوص نسجل تحوّلا في أشكال الانحياز الأمريكي مع وصول ترامب للسلطة بناءً على ما قيل أنه إلتزمات قدّمها خلال حملته الانتخابية أو ضغوطات ناتجة عن وضع ترامب السياسي المرتبط بمسألة التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية، ولكن الحقيقة كما يبرزه التحليل السابق أنّ هناك التزاما أمريكيا واضحا في هذا الجانب، لكن ترامب دشّن مرحلة أخرى من مراحل تطور هذا الدعم يسمح للكيان الصهيوني من دخول مرحلة أخرى من بسط النفوذ والسيطرة في المنطقة، مستفيدا في ذلك من حالة الفوضى والتشرذم والاقتتال التي تعيشها دول المنطقة، وبالتالي تكريس وضع يسمح بقبولها كجار. والثاني: يرتبط بما انتهي له البعد الأول من حيث تحول الموقف العربي من القضية الفلسطينية بشكل دراماتيكي بعد ما يسمى «ثورات الربيع العربي»، وفوضى الثورات المضادة التي أدخلت المنطقة في وهن وهوان، ومن حالة دعم واحتضان للقضية الفلسطينية إلى حالة تشرذم وتراجع في المواقف بل وإلى مدّ جسور التعاون مع الكيان الصهيوني بتدشين مرحلة جديدة من العلاقات الدافئة تتزامن والموقف الأمريكي المستجد من قضية القدس كعاصمة للكيان الصهيوني، وهو ما يؤكّد مرة أخرى أن خطوة ترامب تأتي في إطار رؤية جديدة للتعامل مع القضية الفلسطينية. قرارات تؤكّد فلسطينيةالقدس لكنّها دون آليات تنفيذ ❊ القدس مدينة فلسطينية وعاصمة دولة فلسطين، ما هي القرارات الدولية التي تؤكّد ذلك؟ ❊❊ أولا، يجب التّأكيد أنّ القدس هي مدينة فلسطينية وحق فلسطيني خالص بغض النظر عن قرارات الشّرعية الدولية، وينبغي التأكيد أن قرارات الشّرعية الدولية المرتبطة بالقضية الفلسطينية إنما جاءت لتبرير وضع قائم انتهي له وضع مدينة القدس في الجملة بعد احتلال الكيان الصهيوني للضفة الغربية، أما ما يتعلق بالقرارات الدولية التي تؤكد فلسطينية مدينة القدس. فللأسف لا توجد هناك قرارات في هذا الجانب لأنه كما سبقت الإشارة أن هذه القرارات جاءت لتشرعن وضعا قائما، أما ما صدر بشأن القدس من قرارات فهي كثيرة ومتنوعة ومع ذلك فإن الحماية التي تتلقاها دولة الكيان الصهيوني لم تجعل هذه القرارات ذات أثر في الواقع، وقد تنوّعت هذه القرارات بقرارات صادرة عن الجمعية العامة وعن مجلس الأمن وحتى من منظمة اليونيسكو، وفي هذا الشأن يمكن الإشارة إلى أهم تلك القرارات على سبيل المثال لا الحصر، ولعل أهم تلك القرارات هو القرار 181 الصادر من الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 نوفمبر 1947 والمعروف بقانون التقسيم، أكّد على تقسيم الأرض الفلسطينية إلى دولة عربية ودولة يهودية، مع وضع القدس وبيت لحم والأراضي المجاورة تحت وصاية دولية، ثم القرار 303 الصادر من الجمعية العامة في 1949، والذي أكّد على عدم اعتراف الجمعية العامة بإعلان إسرائيل القدس عاصمة لإسرائيل. وبعد 1967 صدر القرار 2253 تأسّفت فيه الجمعية العامة لقرار إسرائيل تطبيق القانون الإسرائيلي على القدس الشرقية، كما صدر من الجمعية العامة القرار 15 / 36 سنة 1981، والذي يعتبر أن أي تغييرات في منطقة القدس غير شرعية، ومخالفة للقانون الدولي، وتشكّل عائقا أمام تحقيق السلام العادل والشامل، هذا إضافة إلى قرارات أخرى مهمة، أما ما صدر عن مجلس الأمن، فهو أيضا كثير ومتنوع ولكن كثير من القرارات حال دون صدورها حق الفيتو الممارس من قبل الدول الكبرى وخاصة الولاياتالمتحدةالأمريكية، ومن أهمها القرار 242 الصادر في 22 نوفمبر1967، يدعو فيه مجلس الأمن الدولي إسرائيل للانسحاب إلى حدود ما قبل حرب 1967. وأيضا القرار 253 الصادر في 21 ماي 1968، وبموجبه يدعو مجلس الأمن إسرائيل إلى إلغاء جميع إجراءاتها التعسفية لتغيير وضع مدينة القدس، والقرار 271 الصادر في جويلية 1969 والمندد بمحاولة حرق المسجد الأقصى وتدنيس الأماكن المقدسة. كما صدر القرار 476 في 30 من جويلية 1980، ويعلن بطلان الإجراءات الإسرائيلية لتغيير طابع القدس. وفي 29 أوت من نفس السنة صدر القرار 478 المتضمن عدم الاعتراف بالقانون الإسرائيلي بشأن القدس، ودعوة الدول إلى سحب بعثاتها الدبلوماسية من المدينة، كما دعا القرار 1073 المؤرخ في 30 سبتمبر 1969 إلى التوقف والتراجع فورا عن فتح مدخل لنفق بجوار المسجد الأقصى، الذي أسفر افتتاحه عن سقوط عدد كبير من القتلى والجرحى بين المدنيين الفلسطينيين، وفي نفس الاتجاه ندد القرار 1322 الصادر في 23 ديسمبر 2000 بالتصرف الاستفزازي المتمثل بدخول أرييل شارون الحرم الشريف وأعمال العنف التي أسفرت عن مصرع 80 فلسطينيا. وفي 23 ديسمبر 2016 صدر القرار 2334، الذي يؤكّد أنّ إنشاء إسرائيل المستوطنات في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة منذ عام 1967 - بما فيها القدس الشرقية - ليس له أي شرعية قانونية، ومطالبة إسرائيل بوقف فوري لجميع الأنشطة الاستيطانية وعدم الاعتراف بأي تغيرات في حدود الرابع من جوان 1967. كل هذه القرارات على الرغم من انتصارها لبعض المواقف الفلسطينية بوجه عام، إلاّ أنّ صدورها بهذا الشكل ودون وجود آليات لإنقاذها على أرض الواقع يجعل منها أداة لشرعنة وضع قائم. ❊ ميزان القوى هو اليوم لصالح أمريكا وإسرائيل، فما وسيلة الفلسطينيّين لمواجهة غطرستهما وتعسّفهما؟ ❊❊ كل الشّعوب التي عرفت احتلالا لم يكن ميزان القوى في صالحها، ولذلك فإنّه إذا لم يكن ميزان القوى في صالح الفلسطينيين فيجب العمل على تغيير ميزان القوى هذا، ضمن عمل استراتيجي يؤكد على الحقوق والثوابت ولا يتجاوز الآليات المشروعة، والتي من أهمها كما قال الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات البندقية وغصن السّلام، أي المقاومة المسلحة المشروعة أولا ثم العمل السياسي الهادف من خلال وحدة الموقف الفلسطيني، ومد الجسور دبلوماسيا من أجل حشد مواقف أكثر قوة وصلابة في المؤسسات الدولية المختلفة. ❊ القدس لا تعني الفلسطينيّين وحدهم بل كل العرب والمسلمين، فما هي مسؤولية هؤلاء لمواجهة قرار ترامب؟ ❊❊ القضية الفلسطينية وفي القلب منها قضية القدس، ليست قضية تراب وطين، وإنما هي عقيدة ودين فهي تشكل بالنسبة للمسلمين جزءا جوهريا من عقيدتهم ومن تراثهم المشترك، ولذلك فالمسؤولية كبيرة خاصة على مستوى الشعوب. البوصلة اليوم هي بيد النخب الفاعلة في العالم العربي، وتحررها من الإرادة القاهرة مقدمة أساسية لتحرير القدس وكل فلسطين، وهذا يقتضي الضغط على الحكومات المختلفة من أجل أن تنسجم المواقف السياسية مع الحقوق والثوابت المبدئية. كما أنّ على الحكومات أن تدرك أن مصائرها مرهونة بيد شعوبها وليس بما تقوم به من تحالفات على حساب الحقوق والثوابت، دلت على ذلك حقائق التاريخ وتقلّبات الجغرافيا. رهان القضية وحدة الصفّ ❊ الأكيد أنّ المصالحة الفلسطينية حتمية في مثل هذه الظّروف؟ كيف تتوقّعون مآل قضية القدس؟ ❊❊ إنّ قرار ترامب يعتبر إعلان وفاة لمسار «أوسلو»، الذي أضرّ بالقضية الفلسطينية وفتح المجال واسعا أمام اختلافات كبيرة في الصف الفلسطيني، ولذلك على الفصائل الفلسطينية المختلفة استغلال هذه الفرصة في إتمام مشروع المصالحة خاصة وأنّه مشروع شرع فيه قبل هذا القرار الأخرق، وحدة الصف الفلسطيني هو رهان كبير ليس فقط بالنسبة للفلسطينيين وإنما لكل الشعوب العربية والإسلامية، وحتى للشعوب المحبة للسلام في العالم، والتي خرجت مندّدة بقرار ترامب، وهي بذلك تريد التأكيد على رفضها لهذا القرار وتطلب بشكل ضمني أو صريح بضرورة أن تنسجم المواقف الرسمية مع هذا الرفض، وفي مقدمة ذلك أن تكون مواقف أصحاب القضية الأساسيين واحدة وموحّدة. أما مسألة مآل قضية القدس، فقد صارت تشكّل ترمومتر تقاس به حيوية الأمة ومدى استعدادها للتجاوب مع هذه القضية، لقد فتح قرار ترامب الباب واسعا أمام موجة جديدة من المقاومة المشروعة بمختلف صورها، وأيقظ روحا جديدة في الأمة من أجل الانتصار لقضاياها الأساسية، لكن هذه الروح مرهونة بدءاً بإنجاز المصالحة الفلسطينية، والتأكيد على رؤية إستراتيجية يكون أساسها التأكيد على الثوابت والحقوق، والتنويع في الآليات المشروعة لاسترداد هذه الحقوق، ولابد من دور فاعل للنخب في العالم العربي والإسلامي من أجل دعم المقاومة الفلسطينية بكل أشكال الدعم المتاحة، وكذلك رأب الصدع الداخلي من أجل التصدي للمشروع الصهيو- أمريكي في المنطقة.