تحولت معضلة ارتفاع الأسعار الاستهلاكية إلى ظاهرة مزمنة تمنع ترسيخ استقرار القدرة الشرائية وتعرقل ضبط توازناتها، مما يعيد طرح ضرورة أن تحاط حركية الأسواق بما يلزم من آليات الضبط والمراقبة، ليس على الأسعار وإنما على هوامش الربح التي لا تبدو تحت السيطرة، أمام جشع تجار لا يحجمهم قانون ولا وازع ضمير مستفيدين من مساحة سوق حرة تفلت من كل رقابة هي موجودة بصيغ مختلفة في اعرق الأسواق الرأسمالية. ولا يمكن لبلد مثل الجزائر يطمح لان يلعب أدواره المحلية والإقليمية، أن يستمر في تحمل تقلبات أسعار يجهل من يحددها في ظل أزمة مالية عالمية لا تزال تهدد المجتمعات برمتها، الأمر الذي يتطلب من الدولة باعتبارها ذات صلاحيات للضبط التدخل بما لا يتعارض مع روح اقتصاد السوق الاجتماعي لكسر جماعات الضغط ومافيا الأسواق من صناعيين ومستوردين وبالذات الذين ينشطون في قطاعات ترتبط بالأمن الغذائي، مثل مختلف المواد الغذائية كالزيوت والسكر وأسواق الخضر التي يعبث بها تجار الجملة بشكل فاق كل طاقة تحمل ولا يعقل أن تستمر في الإفلات من المراقبة إلى درجة أن أكثر من تساؤل يطرح حول عدم مبادرة الوزارة المعنية بفرض العمل بجدول التسعيرة الأسبوعي كما هو الشأن في البلدان الرأسمالية العريقة؟. هذه الأيام ومرة أخرى يصدم المستهلكون من عامة المواطنين بارتفاع سعر السكر والزيت الغذائي بنسبة لا يمكن تبريرها اقتصاديا رغم محاولة اختفاء المستفيدين بتقلبات السوق العالمية وقبلها فرضت مافيا مادة الاسمنت التي زاد عليها الطلب بفضل البرنامج الطموح لقطاع السكن الذي سطره برنامج التنمية الخماسي، بتكريس أسعار مرتفعة جدا لولا أن الدولة أخذت زمام المبادرة بتفعيل ضوابط الرقابة لكسر المضاربة . وفي خانة المواد الغذائية دائما خرج السردين من خانة الغذاء واسع الاستهلاك وفي المتناول، ليصبح مثل الجمبري وباقي الأسماك النبيلة التي يتلاعب بها محتكرو الصيد البحري، واذا ما صدقت الروايات فان الاسواق الفعلية للأسماك خاصة التونة والجمبري الملكي تنشط في أعالي البحر المتوسط بعيدا عن الشفافية. وفي نفس السياق فان أصحاب شبكات التبريد لم يقدموا للرأي العام الاستهلاكي وضعية نشاطهم إن كانوا يسهرون على تنظيم أسواق الخضر والفواكه من زاوية التصدي لأي ندرة أم انزلقوا إلى ممارسة الاحتكار والمضاربة بالتحكم في تموين الأسواق بوتيرة تحافظ على ارتفاع الأسعار بالضغط المباشر على قاعدة العرض والطلب. أما الأدوية فتلك قصة أخرى على اعتبار أنها مرتبطة بتدني وسوء التغذية الذي يدفع بزبائن كثر إلى مقصلة أسعار الأدوية المرتفعة بشكل جنوني يقف عندها المريض مكتوف الأيدي على اعتبار أن الصحة ليس لها ثمن كما يقول المثل، وبالطبع وجد محترفو استيراد الأدوية ضالتهم فتراهم يحققون موارد مالية دون أي قيمة مضافة تذكر، طالما أن السوق متوفرة مما يستوجب حلولا مندمجة لكسر شوكة المستوردين. وهنا يترقب المواطن مدى جدوى وفعالية خيار الإنتاج المحلي للأدوية والقدرة على إجبار المستوردين خاصة الكبار منهم حجما والمستفيدين من السوق الدسمة للأسف على إعادة استثمار جانب من الأرباح وهي هائلة في تركيب معامل إنتاجية فإلى أين وصل الملف لدى الجهات المعنية. تبقى الأسواق تفتقر للتنظيم والضبط مصابة بفيروس التهاب الأسعار متجاوزة المستويات المقبولة الأمر الذي يعتبر المعضلة التي تعترض مسار النهوض بالقدرة الشرائية وحمايتها من التلاعب الخطير، في حين يتطلب الموقف اليوم أكثر من أي وقت مضى وجود هيئة مستقلة لمراقبة تطور الاسعار وتدقيق تركيبتها بما يضمن السيطرة على الفوارق والهوامش، ومن ثمة منع أي تجاوز كما هو حاصل، حيث لا يعرف بالتدقيق نسبة هامش الربح الذي يمثل عنصر الضرر بالأسعار خاصة استثمارات إنتاجية خارج نطاق التحويل مقابل الانتفاع من السوق الدسمة، كما هو الشأن لمحولي الحليب مثلا الذين يمكنهم الانتقال إلى درجة عالية من الحس بالمسؤولية بالانخراط في انجاز استثمارات لتربية الأبقار عوض الاستمرار في استيرادها . كل هذا الا يدفع الى العمل لاحداث هيكل معين لمراقبة حقيقة الاسعار والسعي الى تفعيل مجلس المنافسة، في وقت ما ان تقوم فيه الدولة بخطوة ولو محتشمة لتنمية القدرة الشرائية بزيادات في الأجور إلا ويقوم صناعيون وتجار الجملة والتجزئة في مختلف القطاعات برفع أسعارهم فورا لتحصيل باليد اليسرى ما منحته الدولة باليد اليمنى بل قد يكون منهم من خزن مواد اولية بسعر قديم ليعيد إنزالها إلى السوق بالسعر الجديد والمرتفع جدا فهل من رقابة كفيلة بحماية روح المنافسة الشريفة؟.