سمع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر من مبعوثه الخاص إلى الخرطوم السيد صلاح سالم، أن السودان في مفترق طرق وأنه ضائع ضائع، الأمر الذي كان له بعده في تقرير السياسة المصرية تجاه السودان، وضعف مقادير الوحدة بين البلدين. وفي عهد الرئيس الراحل جعفر محمد نميري، تعوّد السودانيون على سماع جملة تتكرر في كل خطبه، تقول: إن السودان يمرّ بمنعطف خطير، وجاراه فيها غيره من السياسيين من بعده، في حين لم يكن للمثقفين والكتاب السودانيين تفاؤل أكثر بمستقبل تقاعسوا جميعا عن جدية السعي لجعله أفضل من الحاضر المأزوم. فتباروا في تنويع الكلمات وتركيع الألفاظ لتجسّد لحقيقة أن المنعطف جد خطير، حتى أصاب الناس اليأس من إمكانية التغيير. وقد تواردت في خاطري هذه الوصفات المتشائمة لحال السودان وأنا أطالع كتابا جديدا للسيدة هيلدا فرافيورد جونسون، وزيرة التعاون الدولي النرويجية السابقة ونائبة المدير التنفيذي لليونيسيف، بعنوان: خوض غمار السلام في السودان، القصة الخفية للتفاوض الذي أنهى أطول حرب في أفريقيا. تروي فيه أسرار وخفايا التفاوض، في منتجع نيفاشا بكينيا، بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان. وتصف فيه هذا البلد العربي الأفريقي بأنه على مفترق طرق، وأنه مقبل على انقسام محقق، استخرجته من باطن الاتفاق الذي تم بين الطرفين، قائلة: يمكن للدولة أي السودان أن تشهد في وقت قريب انقسام أول دولة أفريقية منذ الحقبة الاستعمارية. وذلك لسبب بسيط، وهو أن اتفاق السلام الشامل لعام 2005 وضع ضمانات الاستفتاء على تقرير المصير لجنوب السودان، الذي تم بالفعل في التاسع من جانفي 2011، وتمخضت عنه ذات النتيجة المتوقعة. ولا ينتظر الناس إلا تأكيد إجراءاته العملية بإعلان تحقيق الفصل التام في التاسع من جويلية 2011، وكل تفاصيل القصة مروية في صفحات هذا الكتاب الشاهد على: لقصة المفاوضات بداية نعم، للقصة عند السيدة هيلدا محطات ووقفات، تقول إنها بدأت بمكالمة هاتفية يوم 31 أوت 2003 من السيد علي عثمان محمد طه النائب الأول لرئيس جمهورية السودان آنذاك، معبّرا لها فيها عن همومه وقلقه لأن التفاوض وصل إلى طريق مسدود بين وفد الحكومة والحركة الشعبية، رغم ما تحقق من اختراق تاريخي في جويلية 2002. وقد كان لتك المكالمة ما قبلها، حيث التقى علي عثمان بوزيرة التعاون الدولي النرويجية هيلدا جونسون لأول مرة في روما خريف عام 1997، عندما كان وزيرا للخارجية السودانية. وفي ذلك اللقاء، عبّر عن رغبته في رفع مستوى التفاوض مع الحركة الشعبية، ليشمل شخصه وزعيم الحركة جون قرنق. كانت خطته التي طرحها على هيلدا جونسون أنه سيحضر الجنازة الرسمية لنائب الرئيس الكيني بنيروبي، وسيكون ممتنا إذا استطاعت هليدا أن ترتب لقاء مع الدكتور جون قرنق أثناء وجوده في نيروبي. وقالت الوزيرة النرويجية إنها لم تعد عثمان بأي شيء، ولكن أكدت له أنها ستحاول، وربما كان سبب التردد نظرة الأوروبيين إلى السيد علي عثمان باعتباره رجل الخرطوم القوي، الذي كثيرا ما يعمل خلف الستار، في حين أن قرنق، الذي التقته هيلدا للمرة الأولى أثناء رحلة إنسانية إلى بحر الغزال في 1998، لم يكن رافضا ومترددا للحوار فقط بل كان متشككا في أن تفضي المفاوضات لأي حل مع الخرطوم، ولكنه وافق بعد أن حثه ثلاثة ضباط. وأسدوا إليه النصح بضرورة مقابلة علي عثمان، وكان على رأسهم سلفاكير ميارديت. جاء علي عثمان لحضور مراسم جنازة نائب الرئيس الكيني على رأس وفد كبير، وأصر قرنق على أن يقتصر اللقاء على التحيات القصيرة والعابرة، ولكن ذلك اللقاء الذي بدأ صامتا، قد بللته زجاجة الماء، التي كانت الشاهد الوحيد، الذي يقبع في المسافة الفاصلة بينهما، وكأنها ترمز للمسافة بين دماء الضحايا والمعاناة وأشواك السلام. وما كان من قرنق إلا أن بادر وصبّ الماء في كوب نائب البشير. ومن حينها، مرت مياه كثيرة تحت الجسر، وتم تدشين خط ساخن بين الزعيمين حتى توجت المفاوضات باتفاقية السلام الشامل، التي تصفها هيلدا جونسون بأنها مولود طبيعي للتمازج الكيميائي والشخصي لهذين الزعيمين، ولمواقف الفريقين المفاوضين. الكاتب لاعبا لا تبدو هيلدا جونسون في هذا السِفْر القيم ككاتب عادي يصف أحداثا كان شاهدا عليها، أو رويت له، وإنما كانت لاعبا رئيسيا أعد الحلبة، وحشدت المنظمين والداعمين والشركاء، وجمعت بين الفريقين ليخوضا غمار السلام، وكانت عِماد التوسط، وموفرة التسهيلات والضغوط، ومقدمة المقترحات المحفزة لاتفاق السلام الشامل. وقد لعبت دورا محوريا في كل العملية، منذ البداية وحتى النهاية، مثلما سبق لها أن شاركت على نطاق واسع في جهود بناء السلام وعمليات ما بعد الأزمة، بعدد من البلدان في أفريقيا وآسيا وأميركا الوسطى، التي تمرّ بمرحلة انتقالية، ولا سيما في أفغانستان وسريلانكا وتيمور الشرقية وغواتيمالا ومنطقة البحيرات الكبرى. وقد عُرفت السيدة هيلدا جونسون بأنها مدافع قوي عن حقوق الإنسان والقضاء على الفقر وإصلاح برامج المساعدات الدولية، وتشارك بنشاط في الجهود الرامية إلى بناء تحالفات من أجل التغيير. وعملت بشكل وثيق مع القيادة العليا للأمم المتحدة، والمؤسسات المالية الدولية ومنظمة التجارة العالمية وقادة الدول النامية، حول تحقيق أفضل سياسات التنمية لصالح الفقراء. وكانت السيدة جونسون الرئيس المشارك للتحالف العالمي من أجل أفريقيا لعدة سنوات، وكانت أيضا عضوا في اللجنة الرفيعة المستوى بشأن التمكين القانوني للفقراء برئاسة مادلين أولبرايت. وشغلت منصب عضو في فريق العمل في جامعة أكسفورد في المملكة المتحدة للطاقة، ومساعدات التنمية والسياسة الخارجية، برئاسة اللورد كريس باتن، الحاكم البريطاني السابق لهونغ كونغ. بين محارب الحرية والإسلامي الحذر توزّع الكتاب، بعد تصدير كوفي عنان ومقدمة المؤلفة التي تحدثت عن الحرب الأهلية في أفريقيا، عشرة فصول، تتابعت عناوينها كالآتي: الثلاثية (الترويكا)، وتقرير المصير، والسلام صنع في خطر: الصراع والاتفاق على المشتركات، والمواجهة، ومن أعداء إلى شركاء في السلام، وخطوة إلى الأمام، وإحكام الصفقة، وأول طعم السلام، والإنجازات والخاتمة، والتحديات؛ بالإضافة إلى فهرس مليء بالإشارات المفيدة. ورغم المعلومات الغزيرة والتفاصيل الكثيرة التي انطوت عليها صفحات هذه الفصول، فإن تقييمها لثلاث من الشخصيات المحورية في اللعبة السياسية السودانية يمثل خصوصية لقراءة مواقفها هي من طبيعته وما يمثلون بالنسبة لها وللقضية موضوع المعالجة. فقد تناولت بإسهاب دراسة الخصائص الشخصية لكل من قرنق وعلي عثمان وقدرتهما على صنع السلام في السودان. ورغم التباين، الذي لاحظته، والاختلاف الظاهر بين شخصيتيهما فإنهما يتشابهان في الذكاء والتكتيك والنظر الإستراتيجي، فكلاهما يملك تاريخا حافلا في التمرد ضد السلطة في شبابهما الباكر: الأول في جامعة الخرطوم، والثاني في مدرسة رمبيك الثانوية. ففي حين تغلب على جون قرنق خصائص الفنان، من حيث القدرة على صنع المفارقة ومخاطبة الجمهور لساعات طويلة على المسرح المفتوح، تسيطر على علي عثمان شخصية القاضي، الذي يميل إلى استدارة الرأي والتثبت والتأني وعدم التعجل لإصدار الأحكام، وهو أقرب في طبعه إلى الخصوصية منه إلى الانفتاح والعمومية. ولكن تحيزها ظهر في وصف قرنق بمحارب الحرية، ونعت علي عثمان بالإسلامي الحذر، تقديرا لموقفها المتوقع من الصفتين. ولم تنس السيدة هيلدا أن توجه حكما قاسيا لشخصيتين أخريين هما الزعيم الإسلامي المعروف الدكتور حسن الترابي، والدكتور رياك مشار نائب رئيس حكومة الجنوب. فقالت وهي تصف زيارتها للخرطوم عام 1998، في الوقت الذي يبدو فيه رياك مشار معزولا بالقرب من القصر رغم سلطته ومنصبه الرسمي، كانت هناك شخصية أخرى تمتلك كامل القوة والتأثير والنفوذ ولكنها متخفية وراء الظلال. بالطبع هذه الشخصية هي حسن الترابي، الذي كنت أدرك جل تاريخه السياسي. وتقول إنها عندما علمت لاحقا بالخلافات والعلاقة المتدهورة بين الترابي وعلي عثمان، سعدت لذلك واعتبرته إشارة إيجابية. ونقلت شهادة علي عثمان التاريخية، بأن الترابي لو كان على سدة الحكم لما تم التوصل إلى اتفاق سلام مع الحركة الشعبية. الحقيقة المحزنة قال الأمين العام السابق للأمم المتحدة السيد كوفي عنان في تقديمه للكتاب: إنها الحقيقة المحزنة أن يكون خوض غمار السلام دائما أصعب بكثير من شن حرب. ولحسن الحظ، فإنه هو الأصلح والأكثر جزاء، فقد استغرق اتفاق السلام الشامل، الذي أنهى الحرب الأهلية الثانية في السودان في 2005، نحو ثلاث سنوات حتى ينضج. وما كان يمكن أبدا أن يتم التوقيع عليه لولا إصرار وتفاني عدد قليل من الأفراد من السودان والمجتمع الدولي الأوسع. ومن بين من ساهموا من المجتمع الدولي، هيلدا ف. جونسون، التي كانت في ذلك الوقت وزيرة التنمية الدولية النرويجية، والآن نائبة المدير التنفيذي لليونيسيف، والتي برز دورها لجهودها التي لا تكل للمساعدة في جمع الفرقاء معا. بيد أن الحقيقة، التي تسببت في حزن أكثر وأعمق ولم يتطرق إليها الكتاب، هي النتيجة المفجعة للسودانيين، إذ باعدت اتفاقية السلام الشامل بين أبناء الشمال والجنوب أكثر مما باعدت بينهم سنوات الحرب، وعملت على تعزيز مشاعر الجنوبيين من أجل الانفصال والاستقلال، رغم عدم وجود فوائد ملموسة تؤدي إلى الاستقرار في وضع الجنوب الهش فعلا. وكانت هناك ثغرات واضحة في التمويل، الذي تعهدت به الدول المانحة للشمال والجنوب. كما تم تقليص التمويل الإنساني، أو تم نقله إلى دارفور، وخفض الخدمات الأساسية في كثير من الحالات. وما جاء منها كان بطيئا، أو بعد فوات الأوان، فشكلت كل هذه الإخفاقات نفسية المواطن ونظرته لحصاد السلام، وساهمت في تحديد طبيعة التطور السياسي لقضية جنوب السودان، التي بدأت بمطالب بسيطة في العدالة والتنمية واحترام الخصوصية الثقافية إلى انفصال درامي لأكبر دولة عربية في أفريقيا. حكمة التوقيت لم يعد لكشف الأسرار في الثقافة الغربية ميقات غير معلوم، إذ أنها تنشر يوم تقال، خاصة إذا كان في ذلك سبق ومصلحة متأتية من حكمة التوقيت. وفي ذلك مفارقة كبيرة بين الغرب المفضوح والشرق الغامض، فقد جاء في الأخبار أن الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون بادر الزعيم الصيني ماو تيسي تونغ، عندما التقاه لأول مرة في بكين، بسؤال عن الثورة الفرنسية، وكان رد ماو مقتضبا جدا، حيث قال: إن الوقت لا يزال مبكرا للحكم عليها، مختصرا المسافة بين علاقة الطرفين بتقييم أحداث التاريخ. وهذا يصدق على نشر أسرار حدث بجِدَّة المفاوضات، التي أفضت لاتفاق السلام الشامل بين الفرقاء السودانيين. فالحدث لم يصنف بعد في خانة التاريخ الذي تُكشف أسراره، وإنما هو حاضر بين الناس بتفاصيله وتعقيداته، ومتعلقاته، وإيلام جراحاته، ولكن بالنسبة للسيدة جونسون، فقد جاء في وقته تماما، وتناسب محتوياته وأسراره خفايا الدور الذي لعبته هي شخصيا في تحقيق السلام في السودان، الذي ربما نصطلح عليها غدا بعملية تحقيق الانفصال. وحكمة التوقيت تتلخص في أن الكتاب سيجد حظه في الترويج والاهتمام والاطلاع، ونصيبه المقدر في المبيعات والأرباح. كما أن رسالته ستجد، هي الأخرى، طريقها للنفاذ إلى قلوب وعقول المعنيين بأمر حراسة مشروع الدولة الوليدة في جنوب السودان، بعد أن أخفقت رؤية الدكتور جون قرنق في خلق السودان الجديد، التي لم تخف تعاطفها الكبير معها، حسبما نقلته السطور.