تستعيد مختلف القنوات والصّحف والقلوب المرهفة وهي تتذكّر رحيل الموسيقار والشّاعر والمغني عبد الحميد عبابسة، هذا الهرم العملاق والشّمعة التي لا تنطفئ أبدا. ملأت ألحانه الشذية قلوب الملايين داخل الوطن وخارجه، نافس فيها مطربي جيله وعمالقة الفن الأصيل، على غرار أحمد خليفي، عبد الرحمن عزيز، رابح درياسة وآخرين، وكان التنافس بين هؤلاء تنافسا شريفا، وهو الخروج بالأغنية الجزائرية آنذاك إلى برّ الآمان، وعبد الحميد عبابسة واحد من الذين انفردوا بلون متميّز في الطّرب واللّحن والغناء، والدليل أنّ أغنية «حيزية» بعثت روحا جديدة في فن عبد الحميد عبابسة، الذي يبقى رمزا من رموز الأغنية الجزائرية. صوت متميّز اخترق ذاته تمر الذّكريات والشّهور والسّنين، إنما الفن الخالد يبقى مرصّعا في قلوب عشّاق الفن النّظيف للموسيقار والمغني عبد الحميد عبابسة، الذي يعتبر من المبدعين القلائل في الفن الصّحراوي والعصري، هذا الصوت الذي أعطى للأمّة الجزائرية داخل الوطن وخارجه الكثير من المجد والافتخار ما عجز عنه الكثير من مطربي جيله، لقد كان فنّانا مبدعا في أدائه للألحان الشذية التي تتسرّب في قلوب من أحبّوه وأحبّوا فنّه، حيث استطاع أن يخترق ذاته الخاصة المنفردة ليعبّر عن رؤى شمولية تهم الوطن الجزائري برمّته، وهذا ما تجده في الأغنية التّاريخية «حيزية». تأثّره بالفن الشّرقي يقولون عن الفنان عبد الحميد عبابسة أنّه تأثّر بالفن الشّرقي نظرا للقاءاته المتكرّرة مع الموسيقار فريد الأطرش في باريس، لكن رغم هذا حاول أن يخرج عن هذا التّأثر تدريجيا، وصنع لنفسه بصمته الخاصة في مجال التّلحين والغناء. التّجديد لعبابسة رغم فوضى التّجديد الارتجالي والانبهار بالغرب، إلا أنّ عبد الحميد عبابسة حافظ على شخصيته الفنية الجزائرية مع التّجديد والتطوير بأصالته ووضوح هويّته وانتمائه أن يكتب تراثه ليخلص هذا التراث الموسيقي من ابتذاله، وينفض ما علق به من تشويه، والدليل أن كل ألحانه وأدائها كانت تصب دائما في عمق التراث الموسيقي الجزائري المحض. الدولاب الموسيقي لديه يؤكّد كل الذين عرفوا الموسيقار عبابسة أنّه كان مجتهدا ويبحث عن أساليب الأسلاف في استبدال الدولاب الموسيقي التقليدي بتقنيات تعبر عن القصيدة ككل، وتصور الأحاسيس والمعاني بروح شعرية شفّافة، لقد استطاع بعبقريته أن يطوّر النّغمة الموسيقية ذات الخصوصية الجزائرية الممزوجة بالنّغمة الشّرقية ذات النّوتة العالمية. المتابع لأعمال الفنان المرحوم عبد الحميد عبابسة يجد البصمة النّاجحة في سماء بيت هذا الفنان، الذي ترك وراءه نخبة من أبنائه وبناته كفنانين بامتياز على غرار فلة، نعيمة، نجيب وصلاح الدين كل هؤلاء أبدعوا ولازالوا يبدعون في المجال الفني داخل الوطن وخارجه. رأيه في أبنائه يقولون بأن عبد الحميد يواكب دائما، يبعث بأبنائه للأفضل والأحسن في المجال الفني، وهو يعتز كثيرا بأبنائه الذين تركوا بصمة فنية رائعة على غرار فلة صاحبة الصوت الجميل والأداء الرائع، وتعتبر أحد نجمات الغناء الجزائري والعربي، دون أن ينسى عبد الحميد نعيمة والأخوين نجيب وصلاح الدين، هذا الأخير الذي أصبح فيما بعد موسيقارا كبيرا، وكان له شرف اختياره من طرف الفنانة الكبيرة فيروز ليقود الفرقة الموسيقية التي صاحبتها في إحدى حفلاتها في باريس، وهذا ما تحدّث عنه من عرفوا عبد الحميد عبابسة، المشجع المتواصل لكل الفنانين الشباب، كما كان له الفضل في صقل موهبة أبنائه وبناته لمواصلة المسيرة الفنية بنجاح، كما كان ايضا من المقربين من زميله رابح درياسة الذي يكن له كل التقدير والاحترام. توقّفه عن الغناء بعد كل النّجاح الباهر الذي أدّاه، إلا أنّ المرض ألزمه أن يتوقف عن الغناء، لكنه بقي مبدعا في الكتابة والألحان، حيث ألّف عدة سيناريوهات تصلح لتتحوّل إلى أعمال درامية من مستوى «حيزية»، وهذه الأعمال أعطاها المرحوم عناوين متنوّعة مثل «صابرة»، «ريم الصّحراء» و»عقاب الضّمير»، ونحن بدورنا نثمّن هذه الأعمال ونتمنى أن تجد من يأخذ بيدها ويخرجها من مكتبة النّسيان الى الواقع المعاش، ويقول الذين عايشوه عن قرب أنه كان يريد من خلال هذه الأعمال أن يترك أثرا طيبا في هذه الدنيا، لكن أخلاق عبد الحميد وفنّه الرائع كسب بهما الرهان، وحب الملايين له ولفنّه جعله يبقى متربّعا على عرش الأغنية العصرية والأناشيد الوطنية التي غنّاها عبر ربوع الوطن وخارجه. السّيرة الذّاتية لهذا العملاق يتيم الأم وهو في سن العشر شهرا، نشأ وترعرع في بسكرة حيث تعلّم الفرنسية في المدارس الابتدائية بقسنطينة وهو في سن الثمانية ثم عمل في مطبعة الشهاب لعبد الحميد بن باديس. عشق الفن الشّرقي وهو شاب يقول كل من عرف هذا الفنان العملاق والذي عشق الفن الشرقي في سن مبكر، وهو ما جعله يتفوق في فن التجويد الرائع، إضافة الى هذا كان يستمع كثيرا لأغاني أم كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش الذي تلاقى معه في أكثر من مناسبة في باريس، حيث كان النّجم فريد يتردّد كثيرا على باريس، وكان أغلب الفنانين الكبار يتلاقون مع فريد على غرار أحمد وهبي وآخرين ممّا جعل عبد الحميد وآخرين مولوعين بالعزف على العود حيث أصبحت هذه الآلة رمز كل فنان كبير على غرار عباسة. انتقاله إلى العاصمة في 1930 انتقلت عائلته الى العاصمة، فبدأ يتابع دراسته في مدرسة الشبيبة التي كانت تابعة لجمعية العلماء المسلمين. من خلال تجوالنا مع صفحة الذّكريات الفنية، اكتشفنا عدة أمور لم نكن نعرفها على هذه القامة الفنية، والحمد لله حاولنا بقدر المستطاع أن ندق باب البحث ونعرف بأن عبد الحميد التقى مع الشاعر الكبير محمد العيد آل خليفة وعرض عليه نشيدا وطنيا تغنّى به الشعب الجزائري إبان الثورة وبعدها «عليك مني السلام يا أرض أجدادي»، فقام بتلحينه وعلى طريقة الموسيقار عبد الحميد عبابسة المعروف بألحانه المتميزة. عشقه للآلات الموسيقية رغم أدائه الرائع للأناشيد والأغاني، إلا أن عشقه للعزف على الآلات الموسيقية كان حاضرا في دمه، فبدأ العزف على آلة البيانو بالأميرالية بالعاصمة،كما تعلّم أيضا العزف على العود وآلة المنفخ بعدما أصبح فارس زمانه في العزف، فتطوّرت موهبته واتجه نحو التلحين، فبدأ بقصيدة الشاعر الكبير مفدي زكرياء «فداء الجزائر»، يقولون بأن عبابسة ومفدي كانا صديقين. شهرته فاقت كل التّوقّعات في 1936 اشتهر بالأغاني الوطنية، حيث غنى في تلمسان وبالضبط في ساحة الخدام أمام 12 ألف شخص نشيد «فداء الجزائر»، هذا النشيد الذي نال شهرة كبيرة لدى الأوساط الشعبية في الجزائر لأنّه كان يعبر عن مآسي وطموحات هذا الشعب العظيم، حيث أبدع عبد الحيمد عبابسة في غنائه. رغم الحصار الذي تعرّض له من طرف المستعمر إلا أنه كان بطلا في التأليف والتلحين والغناء، حيث ألّف عدة قصائد، 1942 «طالب عليا»، 1944 «قصيد بالراحة» و»حيزية» التي عرفت شهرة كبيرة على المستوى الوطني وخارجه. وفي 1945 عملاق الأغنية الوطنية استنكر مجازر 8 ماي 45، وفي 1946 غنى في باريس أغاني وطنية حساسة أزعجت الفرنسيين فزجّ به في السجن رفقة الشيخ الحسناوي لمدة سنتين. إن عبد الحميد عبابسة كان مغوارا وفارسا بارعا في اللّحن والشّعر والغناء، حيث كرّس حياته لفنّه ووظّف كل طاقاته الفنية خدمة لوطنه وفنه إلى غاية 1984، حيث ألّف سيناريو سينمائي ل «حيزية»، كما له أكثر من 35 قصيدة متنوعة ما بين الأناشيد الوطنية والأغاني، حيث زادت شهرته بأغنية «حيزية» التي أخذت حيّزا كبيرا في سماء الأغنية الجزائرية. وفاته عبد الحميد عبابسة صال وجال عبر ربوع الوطن وخارجه، وخلّد اسمه في قلوب الملايين الجزائريين داخل الوطن وخارجه، حيث كسب الرهان أيام الزمن الجميل وحقّق المعادلة الصعبة وغنى لكبار الشعراء مثل محمد العيد آل خليفة ومفدي زكرياء، وترك وراءه رصيدا فنيا رائعا، كما ترك ثروة بشرية فنية هائلة يشهد لها الجميع، إنه الأب الروحي لعائلة عبابسة، عبد الحميد الذي ولد في 15 / 12 / 1918 ببريكة بباتنة، وتوفي في 15/ 05 / 1998 بالجزائر عن عمر 80 سنة. مات عبد الحميد عبابسة، لكن فنّه بقي خالدا وما تركه من أثر فني وطني وعصري وصحراوي ستتحدّث عنه الأجيال، لكن إرثه الفني يبقى خالدا إلى الأبد.