رؤية جديدة للعقيدة العسكرية الأمريكية طرحها الرئيس باراك أوباما، حدّد فيها أولويات توجه الولاياتالمتحدة في غضون المرحلة القادمة، التي ستكون ترسانتها موجودة في آسيا مع الاعتماد على التطور التكنولوجي في هذا المجال. ويتساءل الملاحظون عن الخلفيات الكامنة وراء هذه النزعة العسكرية الحديثة، خاصة مع إبراز المجال الحيوي الذي تتبلور فيه وهي قارة آسيا، علما أنّ هذه الجهة من العالم لا تحمل أي بؤر توتر جديرة بأن تكون محل كل هذا الاهتمام ماعدا النزاع التاريخي بين الكوريتين. فلماذا هذا الانتقال الأمريكي إلى آسيا؟ يجب أن ننطلق من بديهية هنا وهي أن آسيا تعتبر من الفضاءات الحساسة المدرجة في العمل العسكري الاستراتيجي الأمريكي، وقوات هذا البلد لم تغادر أبدا هذه المنطقة منذ الحربين العالميتين الأولى والثانية. ويرى الأمريكيون بأنّ تاريخهم العسكري مرتبط أشد الارتباط بآسيا، ولا يمكن الفصل بين الطرفين. وما تزال حتى الآن صور “الكاميكاز الياباني” عالقة في أذهانهم ولاصقة بمخيلتهم خاصة في ميناء »هاربورت«. وكل هذه التضحيات من أجل تحرير هذه القارة من الآلة العكسرية اليابانية لم تذهب سدى، بل أن كل مسعى أمريكي في هذا الصدد يدمج آسيا في هذا النطاق الواسع، كما أن ما تكبّدته القوات الأمريكية من خسائر فادحة في الفيتنام، يدفعها دائما إلى التحلي بالحذر. وذات القناعة متوفرة حيال كوريا الجنوبية، هذه الشعوب لا تستطيع حتى الآن بناء جيوشها (اليابان وكوريا الجنوبية)، خاصة وكل مبادرة في هذا الشأن تستدعي ترخيصا من قبل البنتاغون بناء على استسلام اليابان وكذلك ألمانيا في أوروبا عقب الحرب العالمية الثانية. هذه الحيثيات جديرة أن نذكر بها من باب أن التاريخ يشكّل ركيزة أساسية في المنظومة السياسية والعسكرية الأمريكية، ولا يمكن إقامة أي مشروع مهما كان نوعه بدون مرجعيات في هذا الإطار. وبالنسبة للأمريكيين فإنّه ليس هناك فراغ في أي سياسة قبلية أو بعدية، كل الحلقات مترابطة ومتصلة ببعضهما البعض قصد الإعداد للمستقبل. اليوم المعطيات تغيّرت تغييرا جذريا، لم تعد هناك حرب باردة ولا تعايش سلمي، لقد انهار جدار برلين “رمز” التقسيم التقليدي بين معسكرين، وتحول الاتحاد السوفياتي إلى روسيا، بلد كباقي البلدان في الجمهوريات المترامية الأطراف، تأثيره اليوم ليس كالبارحة ولكن استطاع أن يعطّل كل الأعمال التي يراد لها أن تسير وفق إرادة البعض، وفق ما يتمتّع به من حق النقض “الفيتو”. هذا الغياب لروسيا سمح للولايات المتحدة أن تدرج آسيا ضمن أولوياتها خلال الفترة القادمة، وهذا ما يوحي ضمنيا بأنّ المنطقة مقبلة على تطورات على أكثر من صعيد، وإلاّ لماذا يترك الأمريكيون باقي العالم ويولون الاهتمام لآسيا، ولابد من التأكيد هنا بأنّ منذ مجيء باراك أوباما إلى البيت الأبيض وهو يبدي امتعاضه من السياسات الصينية على أكثر من صعيد (العسكري والاقتصادي والمالي)، معتبرة إيّاها مصدر قلق لكل ما ينوي الأمريكيون القيام به على المستويات السالفة الذكر. ومن جهتها، فإنّ الصين لم تفوّت هذه الفرصة، منتقدة السياسة العسكرية الجديدة للولايات المتحدة بمنح الأولويات لمنطقة آسيا. وفي هذا السياق، فإنّ القادة العسكريين بالبنتاغون على وعي ملموس بأن الصين تزداد تطورا في المجال العسكري، ولا يمكن للولايات المتحدة أن تترك هذا البلد بعيدا عن المراقبة، وضروري استراتيجيا أن يوضع تحت المجهر لمعرفة كل منطلقاته المستقبلية، خاصة مع التغيير الحاصل في كوريا الشمالية والعمل على زعزعة استقرار هذا البلد، علما أنّ النزاع يزداد اتساعا بين البلدين في كل المجالات. ولابد في هذا الإطار، أن نذكر بأن الشغل الشاغل لأوباما منذ توليه إدارة البيت الأبيض، هو تعقّب الظاهرة الإرهابية في كل بقاع العالم، ولا ندري إن كان هناك إرهاب من نوع آخر في آسيا تتخوف الولاياتالمتحدة من ظهوره منتهجة العمل الوقائي أو الاستباقي، ماعدا ما يجري في أفغانستانوباكستان. وفي هذا الصدد، يجدر القول بأن أولى المؤشرات تؤكد بأن أمريكا تود أن تنهي صراعها مع الطالبان، وهذا من خلال دعوة هذه الحركة إلى فك الارتباط مع القاعدة. وهناك مساع حثيثة من أجل فتح مكتب للطالبان بقطر قصد وضع تراتيب أولية لحوار بين الطرفين لوقف الأحداث الدامية في هذا البلد. وذات الموقف ينطبق مع الحركات المتطرّفة في باكستان، فمنذ مقتل أكثر من 26 جنديا باكستانيا في غارة لطائرات أمريكية بدون طيار توقّف سلاح الجو الأمريكي عن قصف مخابئ تلك الجماعات، وهو مؤشر على احتمال تقارب بين الجانبين. وهذا الخيار العسكري الأمريكي لم يكن اعتباطيا، بل هو نابع من تفكير عميق وسديد، يستبعد المواجهة المسلحة، لكنّه يبعث الراحة في نفسية الحلفاء في القارة الآسيوية تجاه التهديد الصيني، الذي تحذر منه الولاياتالمتحدة. وهذا لا يعني بأنّ هناك تنصّلا من مسؤوليات أخرى في قارات أخرى، وإنما الخبراء العسكريون الأمريكيون تأكدوا بأن انهيار ما يعرف بالحرب الباردة هو الذي يسمح لهم بالتواجد في كل مناطق العالم، بالوزن الذي يريدونه مع العلم أن الصين لن تترك “أوباما” يعبث بالمنطقة كما يرغب في ذلك. والجميع يتذكّر أنّ الصين استولت على طائرة أمريكية اخترقت أجواء هذا البلد، وعندما طالبت بها الولاياتالمتحدة أعيدت لها مفكّكة على شكل قطع غيار، وذات الشيء حدث مؤخّرا مع إيران عندما اعترضت طائرة بدون طيار، فأين ستسير المنطقة مع تقوية وتعزيز الوجود الأمريكي...؟