يُخطىء من يعتقد بأن اليمن خرج الى برّ الأمان بعد ان وقّع الرئيس علي عبد اللّه صالح في 23 نوفمبر الماضي بالعاصمة السعودية على اتفاق نقل السلطة الذي يقضي بأن يُسلم صالح سلطاته الى نائبه عبد ربّه منصور ويظل رئيسا شرفيا الى غاية تنظيم انتخابات رئاسية. المهمة صعبة رغم تشكيل لجنة الشؤون الاجتماعية فرغم الشروع في وضع قطار التسوية السياسية على السكة من خلال تنفيذ العديد من بنود المبادرة الخليجية بدءا بتشكيل حكومة وفاق وطني مناصفة بين الحزب الحاكم والمعارضة المنضوية تحت لواء “كتلة اللقاء المشترك” والتي يترأسها محمد باسندوة، لتدير المرحلة الانتقالية وتقود الى رئاسيات مبكرة مقررة في 21 فيفري القادم، ثم تشكيل لجنة الشؤون العسكرية وتحقيق الأمن التي بدأت مهمتها لإنهاء الانقسام داخل القوات المسلحة واعادتها الى ثكناتها وانهاء المظاهر المسلحة في مختلف مناطق البلاد، وهي مهمة شاقة وتعترضها العديد من العراقيل، فإن اليمن مازال يتحسس طريق الخلاص ويناضل للخروج من النفق المظلم وليطوي سنة من الأزمة السياسية التي تلونت بدم عشرات اليمنيين، الذين دفعوا ارواحهم ثمنا في سبيل التخلص من النظام الفاسد الذي حوّل بلدهم الى أفقر دولة عربية وأكثرها تخلفا، وتبعية لأمريكا. لقد اعتقد الكثير من المراقبين السياسيين بأن اليمن الذي أمضى سنة كاملة من الشدّ والجدب بين صالح ومعارضيه طوى فعلا مرحلة حرجة من تاريخه، ودخل مرحلة الانفراج السياسي لإعادة بناء نظام جديد، يقوم على رئيس الديمقراطية والنزاهة والمصداقية الشعبية، لكن هذا الاعتقاد يبدو مبالغ فيه والتفاؤل الذي يصبغه في غير محله، لأن الأزمة السياسية في اليمن مازالت تراوح مكانها، فصالح مازال يخترق الخطوط الحمراء التي تجعل منه رئيسا سابقا، ويتدخل في شؤون لم تعد من صلاحياته، وشباب الثورة انقسم على نفسه، وساحات التغيير أصبحت ملغمة بقنابل قابلة للانفجار في اي لحظة، وعناصر النظام المتنحي تصارع وتتحايل من اجل البقاء والاحتفاظ بمواقعها ومزاياها، لترتسم بذلك صورة قائمة لمستقبل اليمن الذي ظن الجميع بأنه يمكن أن يكون نموذجا تحتذي به الدول العربية التي تواجه أزمات التغيير، لتخرج الى بر الأمان عبر تسويات سياسية مماثلة او مشابهة للمبادرة الخليجية التي منحت الحصانة للرئيس صالح من اي ملاحقة قضائية، مقابل ان يتنازل عن مقاليد الحكم التي ظلّ يحكمها بقبضة من حديد منذ 33 عاما وكان ينوي توريثها لابنائه. صالح يخترق الخطوط الحمراء تتحدث مختلف التقارير الواردة من اليمن، بأن علي عبد اللّه صالح الذي خرج من الحكم تحت ضغط شعبه يريد ان يعود عبر النافدة، من خلال التدخل في صلاحيات نائبه عبد ربّه منصور حمادي وعرقلتها. وتشير هذه التقارير الى ان هادي حذّر الوسطاء من انه سيتوجه الى مدينة عدن الساحلية الجنوبية ويتخلى عن منصبه اذا واصل صالح واتباعه اعاقة عمله، كما توضّح بأن المتشددين في حزب المؤتمر الذي يتزعمه الرئيس المتنحي وجّهوا انتقادات حادة لنائب الرئيس في اجتماع الأخير، الذي دعا اليه صالح مع زعماء حزبه ووزرائه. وتدهورت العلاقات بين علي عبد اللّه صالح ونائبه بعد ان رفض هذا الأخير اوامر صالح بإعادة حلفائه الى وظائفهم، ليستعيدوا سيطرتهم على مؤسسات الدولة كما ظلوا يفعلون طيلة ثلاثة عقود، لقد تفاقمت حدة الخلافات بعد ان قرّر صالح استعراض قوته وقياس مدى شعبيته من خلال اخراج انصاره الى شوارع العاصمة صنعاء يوم الجمعة الماضي لأول مرة منذ توقيعه على اتفاق السلام بالسعودية، وهي خطوة استفزازية تزيد من توتير الشارع ومن سخط شباب التغيير الذي مازال متمسكا بحركته الاحتجاجية، مطالبا برفع الحصانة عن علي عبد اللّه صالح وتقديمه للمحاكمة ليدفع ثمن ما ارتكبه من جرائم في حق اليمن والشعب اليمني. ويبدو جليا بأن تراجع صالح عن مغادرة اليمن للسماح بتحضير الاستحقاق الرئاسي كما قال سابقا مرتبط اساسا بحرصه على إبقاء ابنائه واتباعه متحكمين في دواليب السلطة، وسعيه لإعادة تعزيز صفوف حزب المؤتمر الذي يرأسه، مرتبط بتمسكه القوي في العودة إلى الحكم الذي ألفه حتى أصبح جزءا منه ولا يقوى على مغادرته. ساحات التغيير على فوهة بركان ان هشاشة الوضع في اليمن لا تعكس فقط الخلافات الحاصلة في القمة بين الرئيس المجبر على التنحي علي عبد اللّه صالح ونائبه الذي يتولى مهام الرئاسة بالنيابة، وانما ايضا الخلافات التي تطفو على سطح ساحة التغيير بالعاصمة صنعاء بين شباب الثورة والتي ظهرت مؤخرا في شكل اشتباكات بالأيدي والعصي بين شباب تكتل احزاب اللقاء الشباب المحسوبين على جماعة الحوثين. وفيما تُطرح تساؤلات عن حقيقة ما يجري داخل ساحة التغيير وفيما اذا كان الانقسام يهدّد وحدة شباب الثورة وسيجهض حركتهم لاستعادة حقهم في محاكمة صالح، فإن الكثير من المراقبين يرون بأن الخلاف بين مكونات الثورة اليمنية لم يبق في شكله الطبيعي المشروع، بل تطور الى مشادات واشتباكات بالأيدي وهو مرشح لأن يتخذ منحنيات تصاعدية من العنف، تجعل لهيب الثورة يحرق ابناءها، وقصة الانزلاق الخطير الذي تشهده ساحات التغيير اليمنية يرويها النشطاء وطبعا بوجهات نظر متناقضة ومتضاربة تبعا للانتماء السياسي لكل ناشط، فالبعض يعزو تطور الخلاف الى صدام واشتباك، والى محاولة البعض الاستحواذ على الساحة بالقوة لتنفيذ اجندة خاصة معارضة لاتفاق التسوية السياسية القائمة على المبادرة الخليجية. والبعض يقول بأن هناك من يعمل على قيادة ثورة مضادة للثورة، ويسعى الى تحقيق مكاسب سياسية على حساب شباب الثورة. من خلال افتعال صراع داخل ساحة التغيير. شباب الصمود يرفض اتفاق التسوية جملة وتفصيلا وبين الطرفين هناك من يلخص القصة ويقول بأن المشكلة بدأت بين الشباب المساند لأحزاب اللقاء المشترك التي قبلت ووقعت المبادرة الخليجية ودخلت الحكومة الانتقالية، وبين ما يعرف بشباب الصمود المحسوبين على التيار الحوتي الذين رفضوا اتفاق التسوية جملة وتفصيلا، لأنه منح صالح واعوانه الحصانة القانونية من اي محاكمة او محاسبة والذين سعوا الى احتلال ساحة التغيير بصنعاء من خلال انشاء منصه ثانية لإذاعة بياناتهم بعد فشلهم في السيطرة على المنصة الرئيسية، وبالتالي اخفاقهم في الترويج لمواقفهم المعارضة للمبادرة الخليجية، وهو الأمر الذي عرضهم للضرب والاعتداء وتخريب منصتهم من طرف الذين لا يريدون الوقوف عند عقبة الحصانة، بل يصرون على القفز عليها ولانطلاق في اعادة بناء مؤسسات الدولة للخروج من حالة التوتر واللااستقرار التي فاقمت من تدهور الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية لليمنيين. وهذه الرؤى المتباينة ألهبت ساحات التغيير وأدخلتها في صراع ثانوي، قد يجهض اهداف الثورة السامية، ويعيق التحضير للانتخابات الرئاسية المقررة الشهر القادم. الأمر الذي يطرح عدة احتمالات بتأجيلها، وبالتالي استمرار حالة التأزم والتعفن التي يستغلها لصوص الثورة لمد نفوذهم الى مراكز القرار التي تسيل لعاب الانتهازيين والمنافقين، الذين يلعبون على جميع الحبال ويأكلون من جميع الموائد. الحصانة تسد منافذ الحل يبدو جليا كما قلنا في البداية الأزمة في اليمن لازالت تدور في حلقة مفرغة، والوضع مرشح لمزيد من التصعيد والتوتر، خاصة بعد ان اقرت حكومة الوحدة الوطنية الانتقالية قبل يومين مشروع قانون يمنح الحصانة للرئيس صالح يهدف تنحيته ووضع حد للحركة الاحتجاجية المناهضة له. فمشروع القانون الذي احالته الحكومة الى مجلس النواب لإقراره، يمنح بالإضافة لصالح الحصانة لكل من عمل معه في جميع اجهزة ومؤسسات الدولة المدنية والعسكرية والأمنية خلال فترة حكمه، وهم في الأساس ابناؤه واخوته الذين يقودون الجيش والوحدات الأمنية المسؤولة عن الهجمات التي قتل فيها المئات من المتظاهرين خلال 11 شهرا من الاحتجاجات والمظاهرات. مصدر الخوف من تصعيد قادم في اليمن يظهر واضحا من خلال تمسك المحتجين برفض اي حماية قانونية تعفي الرئيس صالح وبطانته من الوقوف امام العدالة لمحاكمتهم عن جرائم الفظيحة التي ارتكبوها بحق اليمنيين. ويبدو جليا ان شباب الثورة الذين لم يبرحوا الشوارع والساحات منذ فيفري الماضي وضعوا الحكومة الانتقالية في القائمة السوداء، وقرروا العمل على اسقاطها كونها كما يقولون تدعم امن وسلامه صالح وتعمل على طمس معالم الثورة والاستهزاء بدم الشهداء، وتحمي طاغية ومجرم حرب، ونوّهوا بموقف المفوضية العليا لحقوق الانسان في الأممالمتحدة التي نددت بمشروع قانون منح الحصانة لصالح، معتبرة ان أداة قانونية مماثلة من شأنها المسؤول دون ملاحقة اشخاص ارتبكوا جرائم دولية. وفي انتظار المستجدات، يبقى الوضع في اليمن مفتوحا على كل الاحتمالات، بما فيها التصعيد والعودة بالأزمة الى المربع الأول..!