يقال إن أرواح الأطفال تمتزج بأرواح الملائكة لشدة طهرها ونقائها، وهم تحت أديم هذه السماء الرحيبة يصنعون مواكب البهجة والمرح وقناديل الفرح اللذيذ التي تضيء ليالينا المعتمة، بيد أن قبح وجه الأيام بدروبها البغيضة والذي خلف بدوره الكثير من الجراثيم الاجتماعية المقيتة، حول حياة هذه الأطيار المغردة دوامة من البؤس والضياع إلا من رحم ربي، وقد ساهم فيها بشكل كبير ما يقدم لها من وجبات ترفيهية وفنية لا تليق ببراءتها وتوهجها وصدق دهشتها، وبدل أن تنمي طفولتها اليافعة وترتقي بحسها الإنساني نزلت بها إلى أوحال التمزق والبلادة وحاصرتها ببراثين القسوة، منها المسرح مثلا الذي بات هو الأخر قاحلا كخيبات الأمل .. لا أحد يماري اليوم أن هناك بونا شاسعا بين الواقع الفعلي للطفل في بلادنا و ما يعرض على خشبة المسرح وهو على قلته لا يفي بالغرض، فأغلب المواد المعروضة لا تكشف الستائر السوداء وربما القاتمة عن واقعه المؤلم بين البؤس النفسي والإهمال العائلي في أغلب الحالات، سيما في عصر السرعة وفي ظل اكتساح رهيب للوسائط التكنولوجية التي التهمت قداسة الأسرة بدفئها و حمايتها التقليدية، ناهيك عن فئة أخرى من عصافيرنا البريئة تلك التي تعيش حياة متخمة بالاستغلال والعنف تتخلل شعاب أفئدتهم الصغيرة جرعات كبيرة من الألم، من أنهكت الفاقة ولدغات الجوع طفولتهم واغتصبت حقهم الطبيعي في الحنان والحب، وهم يبحثون عن مرافئ آمنة يمارسون فيها طفولتهم المخطوفة فأين المسرح من هؤلاء، أما أطفالنا المبتلون بالمرض من أمراض نفسية وذهنية وتوحد وغيرها، فلا نكاد نلمس أدنى اهتمام فني وجمالي بهم وهم يكابدون وأولياءهم معاناة العجز والحرمان من العلاج التأهيلي ...كما لا نغالي إذا قلنا أيضا أن ما يقدم لهم من برامج متنوعة للرسوم المتحركة و تهريج وحركات بهلوانية لا يمكن أن تنتج لنا جيلا واعيا متحضرا يتحمل مسؤولية البناء والانجاز، وهي لم تغرس فيهم قيم ومعاني الحياة والعلم والأخلاق والبناء. مجرد أجواق و كثير من تهريج .. لا جرم إذن، أن أبو الفنون عندنا بات مجرد أجواق تنشد أغان تجرح براءة فلذات أكبادنا أكثر، تترنح بين العنف وحب إبراز القوة والأنانية أحيانا والسخافة والرداءة التي تعطل ملكة الفكر أحيانا أخرى وهي لا تختلف عن ما يعرض لهم على القنوات التلفزيونية اليوم، وحتى تلك الترفيهية التي تعد ضرورية لأنها تشبع طاقة المرح والحيوية لديهم فهي مجرد حركات مضحكة سمجة وقهقهات مؤقتة خالية الوفاض من رسائل مهمة تفيد في تنشئتهم، فكيف إذن نزرع فيهم معاني النبل والذوق السليم والجمال ومعاني الإنسانية بهكذا برامج؟؟، وكذلك بالنسبة للتمثيليات المسرحية فأغلبها عشوائي يركز على الطابع الاستهلاكي للحياة لا أكثر، تهتم بخبز البطون لا العقول ويتجسد أمام الطفل أن الحياة تافهة عبثية أرحام تدفع وأرض تبلع، وكان بإمكان المسرح وعلى أهميته الخطيرة أن يملأ قلوبهم الربيعية بحب التطلع والطموح وأن يرسم قوس قزح الأحلام في عيونهم المشعة توهجا وعطاء، كان بإمكانه أن ينفخ في روح الحياة بالكلمات واللقطات، غير أن ذلك بات بعيد المنال على ما يبدو والنتيجة القاتلة هي تكوين الطفل تكوينا متشنجا وقد يصل حد الضمور الفكري وهشاشة الهوية وتلك مصيبة ما بعدها مصيبة ... حرّي بنا وعاجلا، أن نمزق حجاب الغفلة عنا إذا كنا فعلا نفكر في مستقبل أوطاننا تفكيرا جديا، ونسارع إلى تثبيت أوتاد خيمة الطفولة تثبيتا جيدا من خلال إعادة ترتيب البيت الفني المعني بالطفولة ترتيبا سليما ببرامج مسرحية مختلفة ممتعة وهادفة في آن واحد، لأن الطفولة هي الأساس القوي الذي تبنى عليه الأمم وإذا لم نتدارك ذلك، فالخسران العظيم ينتظرنا جميعا.