فقدت فرنسا تصنيفها الممتاز »تريبل أ« وفق ما أعلنته بداية هذا الأسبوع وكالة ستاندرد أند بورز للتصنيف الائتماني ، وسرعان ما دخلت البورصات الأوربية والآسيوية في سلسلة تراجعات محسوسة قبل أن تأتي التطمينات من مراكز القرار الاقتصادي الفرنسية تماما مثل ما وقع عندما أعادت نفس الوكالة تصنيف الديون السيادية الأمريكية شهر أوت المنصرم . أسواق المال تغير سلوكها لاعتبارات كثيرة يغلب عليها الطابع النفسي وأثر التدافع المعروف بسلوك "السرب" بينما تتمتع المؤشرات الخاصة بالأسواق الأخرى بوضعية أفضل في التعبير عن حقائق الاقتصاد وبالتالي هي وحدها المعول عليها في التنبؤ باتجاهات التوازنات المالية والنقدية في منطقة اليوروزون وفي الساحة الفرنسية أيضا. فماذا يعني أن يتراجع الاقتصاد الفرنسي على سلم التصنيف الممتاز ؟ وماذا ننتظر من مشهد اعادة تصنيف 9 دول أوربية على صعيد الأسواق في العالم ؟ حدود السياسة النقدية في ظروف تراجع التصنيف الائتماني لا مفر من رفع سعر الفائدة على القروض الداخلية وعلى السندات الحكومية لتعويض النقطة المفقودة في تصنيف القدرة الائتمانية لفرنسا تماما مثل ما وقع في الحالتين اليونانية والايطالية ، واستجابة لشرط التوازن بين عرض القروض والطلب عليها في أسواق المال الخارجية ، وضع جديد للسياسة النقدية سيرفع من تكاليف الانتاج عن طريق الأعباء المرتفعة الجديدة على رأس المال ويدفع بأسعار التجزئة نحو الصعود في موجة أخرى من التضخم . وهكذا ستكون جميع الأسواق المرتبطة بفرنسا في مركز التأثر ليس من جانب الاستيراد حيث يتم نقل جزء من التضخم كما هي حالة الجزائر ، ولكن من جانب التصدير أيضا حيث ستؤدي الفائدة العالية الى تقليص الطلب على الاستثمار وبالتالي تقليص الطلب على المادة الأولية والطاقة واليد العاملة وهو ما يعني أوربا الشرقية ودول أوبك وشركات الانتاج التي تتمتع بسوق داخل فرنسا شأن شركة »أرسيلور ميتال« في الجزائر والتي كادت أن تشهر إفلاسها ساعات قليلة قبل اعادة تصنيف ديون فرنسا السيادية، ولم يجرؤ أحد على أن يبين للرأي العام علاقة الوضعية المالية للشركة الجزائرية الهندية المختصة في انتاج صلب الحديد باتجاهات الأزمة في منطقة اليورو . نعم نشعر جميعا في الجزائر بموجة جديدة من ارتفاع الأسعار في سوق السلع وخاصة في سلة المنتجات الغذائية واللحوم والمواد المشتقة من النفط والصناعات ، ارتفاعات تم التنبؤ بها لعوامل عدة : أولها السيولة المضافة في كتلة الأجور خارج حدود التوسع الانتاجي أو الطلب على الادخار المعد للاستثمار ، وثانيها ارتباط السوق الوطنية بمنطقة اليورو على سلم التجارة الخارجية بنسبة 57 بالمائة مما حولها الى ساحة جاهزة لاستيراد انعكاسات أزمة الديون السيادية لدى الشركاء الممتازين لبلادنا أي اسبانيا وايطاليا أولا ثم فرنسا في الأيام القليلة القادمة . منطقة التراجع الاقتصادي في أوربا قبل أن تقرر وكالة »ستاندرد أند بورز« المختصة في التصنيف الائتماني اعادة تصنيف الديون السيادية لفرنسا سجَّلت جميع دول منطقة اليورو تراجعًا حادًّا في تحقيق فرص شغل جديدة في الفترة التي أعقبت الأزمة المالية العالمية 2007-2008؛ مما رفع من مستوى البطالة إلى حدود مقلقة تبلغ في المتوسط 10.5 بالمائة، وتتراوح بين 6.5 بالمائة في ألمانيا و20.5 بالمائة في إسبانيا، وتصل إلى حدود 46 بالمائة في إيطاليا حسب إحصائيات نشرها مؤخرا مكتب الإحصاء الأوربي »أوروستات« . ويعود تراجع سوق الشغل في منطقة اليورو إلى وضعية تباطؤ النمو في الاقتصاد الكلي والناجم هو الآخر عن شُح السيولة في أسواق النقد جرّاء أزمة الائتمان وتراجع ثقة المودعين في الجهاز المصرفي وأسواق المال، وهروب الرساميل نحو أسواق منافسة وخاصة سوق الذهب وأسواق المعاملات قصيرة المدى أي المضاربة على المكشوف، وهو ما دفع بسعر الأوقية من المعدن الأصفر لتخطي عتبة 1700 دولار .? وما يؤكد وضعية شح السيولة في المناطق الاقتصادية الكبرى ومنها منطقة اليورو هو بكل تأكيد اللجوء إلى تمويل الخزينة من مصادر خارجية تتجاوز إمكانيات الناتج الداخلي الخام؛ حيث استثمرت الحكومات في آلية "طرح سندات الخزانة" ولكن بشكل واسع وغير مدروس حتى تجاوزت نسبة الدين العام إلى الناتج الداخلي الخام الحدود المسموح بها فوصلت في دولة مثل فرنسا الى مستوى 80 بالمائة . وضعية المؤشرات المالية للاقتصاد في منطقة اليورو تعكس بالضبط وضعية الاقتصاد الكلي؛ حيث تراجع النمو إلى نسبة الصفر في المائة خلال العام 2011، وألمانيا فقط هي التي سجَّلت نموًّا فوق الصفر ولكنه نمو طفيف لم يتعد 0.5 بالمائة الشيء الذي رفع من حدة القلق لدى هيئات الاتحاد ومنها البنك الأوربي الذي أطلق مؤشرًا جديدًا هو مؤشر المعنويات الذي يدرس درجة ثقة مؤسسات الضبط النقدي والمالي للاتحاد في نجاعة السياسات الاقتصادية للدول العضوة، وقد تراجع المؤشر المذكور في شهر واحد من مستوى 103 نقطة في شهر يوليو 2011 إلى مستوى 98.3 نقطة شهر أغسطس من نفس السنة. الحل العربي المتاح لن تجد دول منطقة اليورو ومنها فرنسا أفضل من الأسواق العربية التي تمر بلدانها بمرحلة التحول الديمقراطي لاختبار سياساتها الاقتصادية الجديدة ، فالبلدان العربية تمثل حجمًا سكانيًّا يزيد قليلاً عن 360 مليون نسمة، وتختزن في مجموعها 60 بالمائة من الاحتياطي العالمي من النفط، وهي دول هيكلها الإنتاجي والتكنولوجي ضعيف وتستورد 90 بالمائة من احتياجات السكان فيها، ويدها العاملة تقع جغرافيًّا ضمن منطقة العمالة الرخيصة، وبعضها مثل ليبيا ظلَّ مغلقًا أمام الاستثمارات الأوربية لمدة زادت عن 40 سنة وهو الآن يملك فرصًا واسعة يعرضها أمام الشركات الصناعية وخاصة أمام »توتال« الفرنسية ، وليس مستبعدًا أن تتحول المساعدات الأوربية لتلك البلدان سريعًا إلى أصول استثمارية جديدة وإلى طلب متزايد على التكنولوجيا وعلى التجهيزات الصناعية ما يتيح لدولة مثل ألمانيا فرصة ذهبية لحفز شركاتها الصناعية التي تمر بمرحلة ركود . لقد بينت وقائع التاريخ الاقتصادي بين الأمم أن الأزمات تتحول من منطقة لأخرى وأن مفاتيح حلها تكمن في استثمار التحولات والحروب وفي نسج علاقات دولية جديدة، وهو المشهد نفسه الذي نعيشه اليوم ولكن على خلفية التحولات في العالم العربي هذه المرة.