ا يمكن للأفراح والاحتفالات التي تعمّ ليبيا بمناسبة الذكرى الأولى لانطلاق شرارة الثورة التي أطاحت بنظام العقيد معمر القذافي، أن تحجب الصعوبات والتحديات الخارقة التي تواجه القيادة والشعب هناك مع بدء عملية إعادة بناء الدولة وإقرار مؤسساتها، التي لم يكن لها وجود في العهد البائد أو كانت مجرّد واجهات تخفي وراءها حكم الفرد والاستبداد والطغيان . ويبدو جليا، بأنّه مثلما كانت الثورة الليبية صعبة واصطدمت بنظام بليد وعنيد، لم يكن من السهل اقتلاع جذوره الضاربة في عمق الزمن، فإنّ إعادة بناء ليبيا الجديدة والتخلص من إرهاصات الماضي تبدو هي أيضا صعبة، وتواجه جملة من التحديات والعراقيل التي دفعت ببعض المتشائمين إلى عدم التردد في إبداء تخوّفهم ممّا قد تشهده العملية برمّتها من إخفاقات بالنظر إلى انعدام التجربة الديمقراطية والمؤسساتية، والألغام الكثيرة التي تركها نظام القذافي وراءه. المليشيات...دولة داخل دولة ولعلّ أكبر تحدّ تواجهه ليبيا الجديدة هو قضية المليشيات التي ترفض التخلي عن السلاح، وحوّلت الكثير من مناطق البلاد إلى ما يشبه المقاطعات التي تخضع كل واحدة منها إلى سيطرة جماعة معينة، وحتى الآن تبدو القيادة الليبية المؤقّتة التي تتولّى السلطة من خلال المجلس الوطني الانتقالي عاجزة عن حل هذه الإشكالية، وتبقى كل جهودها منصبة على إقناع الثوار المسلحين بتسليم السلاح، والانخراط في الحياة العامة أو في صفوف القوات النظامية من جيش وشرطة تصطدم بالرفض القاطع والتعنّت الشديد، الأمر الذي يبعث الخوف في الصدور من إمكانية حدوث اصطدامات مسلّحة، واقتتال دموي بين المجموعات المسلّحة التي جعلت نفسها فوق القانون الغائب أصلا، خاصة وأنّ مناطق عدة في ليبيا شهدت بالفعل مواجهات دموية عنيفة، خلّفت قتلى وجرحى، والطامة الكبرى أنّ أبسط الخلافات أصبحت تحلّ بالسلاح. كما تطرح قضية الميليشيات والسّلاح المنتشر بين الناس كواحد من أكبر التحديات وأصعبها، بسبب عمليات الانتقام التي يمارسها بعض الثوار في حق أتباع النظام السابق، والتي جعلت جماعات حقوقية عديدة تدقّ ناقوس الخطر، وتدعو إلى وقف ممارسات التصفية الجسدية والتعذيب الممارس على نطاق واسع ضد آلاف المعتقلين من أنصار القذافي، والأفارقة السود الذين يؤاخذ عليهم نصرتهم للرئيس الراحل. وأصدرت منظمة العفو الدولية قبل أسبوع بيانا، وصفت فيه الثوار بأنّهم خارجون عن أيّ سلطة ويمارسون أفعالا شنيعة. المصالحة...التحدّي الأكبر وبالاضافة إلى مشكلة السّلاح والميليشيات، وغياب سلطة القانون والدولة، وتكريس الفكر القبلي والمناطقي الذي نسف وحدة الشعب الليبي، تواجه القيادة المؤقتة في طرابلس امتحانا عسيرا لإقرار المصالحة بين مواطنيها بمختلف انتماءاتهم القبلية والمناطقية، بما في ذلك أنصار القذافي الذين يجدون أنفسهم في وجه المدفع، يدفعون ثمن الخطايا التي ارتكبها القذافي طيلة العقود الأربعة الماضية. ولا يمكن تصوّر عملية المصالحة أمرا سهلا بل على العكس تماما، خاصة وأنّ شرخا واسعا امتد ليقسم أفراد الشعب الليبي بين من كان مع القذافي أو ضده، وخاصة في ظل ما يظهره الثوار من حقد وروح انتقام عالية ضد أتباع النظام المنهار، وأيضا مع الرغبة الجامحة في إقصائهم وعزلهم، ومنعهم من أي مشاركة في عملية إعادة بناء مؤسسات الحكم. وتتجلّى عوائق المصالحة حتى من خلال قانون الإنتخاب الذي يؤاخذه الكثيرون، واعتبروه عقبة في طريق الفئات الممنوعة من الترشح للاستحقاقات القادمة. ومن جملة هذه الفئات، الأشخاص الذين عملوا في الأجهزة الأمنية للقذافي وفي لجانه الثورية، وحتى الذين عملوا سفراء أو قناصلة، ولم يلتحقوا بصفوف الثورة، إضافة إلى من انتفعوا ماليا من نظامه أو نالوا شهادات من غير استحقاق. ولم يتردّد قانون الانتخاب في رفع الطاقة الحمراء، وإقصاء ذوي الجنسية المزدوجة. وهذه الممنوعات وقرارات العزل أثارت تساؤلات كثيرة عن إمكانية تحقيق المصالحة، انطلاقا من هذه القوانين والقرارات الإقصائية التي تستبعد فئات لا يستهان بها من المشاركة في رسم معالم مستقبل ليبيا الجديدة تعيد إلى الأذهان سياسة الإقصاء التي كان يمارسها النظام البائد. وإذا كانت المصالحة حاجة ملحّة للانتقال بليبيا من حالة الثورة إلى بناء الدولة، فإنّ تحقيقها يجب أن يمرّ عبر تجاوز الأحقاد وطي صفحة الماضي، وقبل ذلك وبعده بالابتعاد عن “ترسيم” وتقنين عملية الإنتقام من خلال القوانين التي تعزل وتهمّش أنصار القذافي وأبناء قبيلته، والتي ستدفعهم حتما إلى الانتقام المضاد، وتُدخل البلاد في مواجهة داخلية تأتي على الأخضر واليابس. أيّ خطر يشكّله أبناء القذافي...؟ رغم أنّ العديد من المراقبين السياسيين يعتقدون بأنّ عهد القذافي مضى واندثر، ولم يعد يشكّل أيّ خطر على ليبيا وشعبها، إلاّ أنّ بعض المراقبين يقولون بأنّ بقاء عدد من أبنائه على قيد الحياة خارج ليبيا، يشكّل تحديا لا يجب الاستهانة به، خاصة وأنّ الساعدي اللاّجئ في النيجر لوّح قبل أيام بانتفاضة ضد حكم المجلس الانتقالي، وباستنفار أنصار والده في ليبيا الذين وقفوا إلى جانبه حتى يومه الأخير، خاصة سكان سرت وبني وليد وأفراد قبيلة القذاذفة لاستعادة الحكم. ومن واجب القيادة الليبية أن تلتفت إلى هذا التحدي، فتحثُّ الدول المستقبلة لأبناء القذافي على إلزامهم الصمت، وعدم ممارسة السياسة أو أي تحرك مشبوه من شأنه التأثير على الوضع الليبي، كما عليها أيضا أن تعمل على إعادة إدماج أنصار الرئيس المخلوع، ولا تدفعهم بإقصائها وعزلها لهم إلى ركوب أيّ موجة لحمل السلاح، وقتال النظام الجديد أو ممارسة العنف والإرهاب. بناء المؤسسات يبدأ بالدستور بالموازاة مع العمل على إعادة الأمن والاستقرار إلى ربوع ليبيا، بدأت التحضيرات لانتخاب المؤتمر الوطني العام أي المجلس التأسيسي في جوان القادم، والذي يعرف على أنّه السلطة التشريعية المؤقتة للدولة الليبية في المرحلة الانتقالية. وسيكون للمجلس التّأسيسي للمؤتمر مهمّتان أساسيتان، هما صياغة دستور يجري الاستفتاء عليه، وتشكيل حكومة مؤقتة لحين إجراء أول انتخابات رئاسية. ويتألّف المؤتمر من 200 عضو وفق الاعلان الدستوري الصادر في أوت الماضي، ورغم أنّ قانون الانتخابات لم يشر إلى أيّ حصة للنساء، إلاّ أنّه نصّ على مبدأ التناوب بين المترشّحين من الذكور والمترشّحات من الإناث، مؤكدا بأنّه لا يقبل القائمة التي لا تحترم هذا المبدأ. ولا يمكن أن نتصوّر بأنّ عملية بناء دولة المؤسسات والقانون ستكون سهلة، فليبيا لم يكن لها أي تجربة في هذا المجال، والامتحان يبدو صعبا خاصة بالنظر إلى الظروف الأمنية الحساسة وسيطرة الميليشيات المسلّحة، والتي قد تضع سلامة وحرية الاستحقاق القادم وحتى نزاهته على المحكّ. والتحدّي يبقى كبيرا بالنسبة للانتقالي ليجسّد الالتزام بالمعايير الدولية للانتخابات، حتى لا تثار بعدها أيّة خلافات أو اختلافات تعرقل الانتقال من عملية بناء مؤسسات الحكم إلى بناء البنى التحتية شبه المفقودة، ودفع عجلة التنمية والاقتصاد ورفع الغبن عن الشعب الليبي، وتمكينه من قطف ثمار الثورة بعدما عاشه وما عاناه في جماهيرية القذافي المنهارة. وطريق الألف ميل يبدأ بخطوة، وليبيا قطعت نصف المسافة، وستصل حتما إلى مبتغاها بفضل سياسة التسامح والعفو والمصالحة والعمل.