في عزّ ثورة نوفمبر المجيدة، وما تلاها من انتصارات باهرة على جيوش الاحتلال، وفي الرابع من شهر مارس 1956 وما أعقبها من أيّام، عاش سكان تبسة الأبرياء أوقاتا مهولة وأياماً عصيبة وليال حالكة بالسواد، يطبعها الرّعب والخوف، جرّاء قيام الاحتلال الفرنسي بحرق سوق مدينة تبسة، بجميع محلاّته التجارية ومحتوياته فأضحت قاعًا صفصفاً، حيث بقيت ألسنة اللّهب وأعمدة الدّخان أياما، كما احترقت أجزاء المنازل القريبة منه. ولم يكتف العدو بذلك بل عمد إلى حرق وقتل مجموعة من خيرة شبان تبسة، بالإضافة إلى عمليات التنكيل والترويع والترهيب التي استهدفت المواطنين العزل. وقد أرّخت لهذه الجريمة أسبوعية «البصائر» التي كانت تصدر في تلك الفترة، وهذا قبل توقيفها بحوالي شهر، حيث كتبت في عددها 358 بتاريخ 16 مارس 1956: «..كانت مدينة تبسة مسرحا للحرائق التي أتت على قسم كبير ممّا يمتلكه المسلمون من مقاهي ومحلات تجارية، فباتت هذه الجهة أكواما من رماد وكدى من حجارة، وقد فارقها أصحابها هائمين على وجوههم في الفيافي أو ملتجئين إلى بعض المدن، هذا عدا الذين استعملت فيهم الأسلحة النّارية فتركتهم في الشوارع صرعى ما بين قتيل وجريح..». وقد قارن صاحب المقال في ذات العدد من «البصائر» بين المجاهدين الذين حملوا السلاح لمقاومة الغزاة، وبين الفرنسيين المعتدين: «فمن هو العنصري الأعمى يا ترى؟ الجزائري الذي حمل السلاح ولجأ إلى الجبل، ولم يمسّ أول الأمر أحدا من السكان الأوربيّين غير الجنود الحاملين للسلاح مثله؟ أم الحكومة المتمدّنة التي يقتل جندها عقب كل اشتباك من وجده في طريقه من المدنيين المسلمين الذين لا يحملون سلاحا ولا يملكون دفاعا؟». المجاهد سماعلي يروي... ارتُكبت هذه المجزرة الرّهيبة - التي تضاف إلى السّجل الفرنسي الحافل بالمجازر ضد الإنسانية - على إثر قيام المرحوم المجاهد سماعلي بوزيان المدعو (بوزيد) بتنفيذ عملية فدائية بطولية استهدفت مجموعة من أفراد العدو (من الشرطة واللفيف الأجنبي)، الذين عاثوا في تبسة وفي أهلها فسادا، وارتكبوا أفظع الجرائم، من خلال قتل ثلة من خيرة أبنائها والتنكيل بالكثير من مواطنيها، حسب صديقه المجاهد الشريف ضوايفية الأمين الولائي لمنظمة المجاهدين بتبسة. وقد تكفّل هذا المجاهد الفذّ بهذه العملية لتكون له شهادة فعلية ليثبت شجاعته وإقدامه وإيمانه العميق بعدالة قضية وطنه، وجسر عبور للالتحاق بصفوف جيش التحرير الوطني، وقد تطلّب منه التحضير للقيام بالمهمة على أكمل وجه مدة (20 يوما) للترصّد والتحرّي ومراقبة الأعداء المستهدفين بدقّة. ولنترك لمنفّذ هذه العملية يروي لنا كيفية تنفيذها في ذلك اليوم المشهود، استنادا إلى وثائق سُلّمت إلينا من قبل رئيس جمعية 04 مارس 1956 للبحوث التاريخية والدّراسات لولاية تبسة المجاهد علي بوقرة، ومن ضمنها شهادة المجاهد سماعلي بوزيان الخاصة بعمليّته البطولية، وفيها أكّد أنه في: «يوم الأحد 04 مارس 1956 على الساعة الثانية أو الثالثة تقريبا كنتُ جالسا بمقهى الطاهر عيساوي، وإذا بستّة أشخاص من اللّفيف الأجنبي يمرّون أمامي متّجهين إلى حانوت أحد المواطنين وهو بن الطيب عبد الله، مكثوا برهة ثم اتجهوا صوب قنطرة واد الزعرور، وقد كانوا غير مسلحين، عندها وضعتُ فنجان القهوة وعزمتُ على متابعتهم بنيّة قتلهم إن استطعت إلى ذلك سبيلا، وإن لم يكن فالموت في سبيل الوطن جهاد في سبيل الله، أمّا أنا فكنتُ متسلّحا بمسدس، ومرتديا «قشّابية» بيضاء ملطّخة. وبعد أن هممتُ بالسّير وراءهم رجع الأشخاص السّتّة، فتراجعتُ بدوري إلى المكان الذي كنتُ به، وعند رجوعهم وقفوا يتحاورون فيما بينهم، وإذَا بدورية أخرى تضمّ ستّة عساكر قدمت من الثكنة المجاورة لسوق المدينة بإيعاز عسكري وصلوا حتى الجماعة الأولى، شبّكوا السلاح وانضمّوا إليها مدة، ثم رجعت الدورية بمعية خمسة أشخاص من اللفيف الأجنبي..وبقي الشخص - الذي قتلتُه فيما بعد - وحيدا متّجها إلى وسط المدينة، وكان يحمل قفازات حمراء ويضع على عينيه نظارات. اتّبعتُ ذلك الشخص حتى وصل إلى وسط المدينة، ثم أرديتُه قتيلا، وما إن وصلتُ إلى حانوت أحد المواطنين يدعى (بويا) قرب الباب الكبير الذي يفضي إلى المدينة حتى وجدت شرطيين مسلحين وستّة عساكر يقفون بهذا الباب لتفتيش المارين، عندها هيّأتُ نفسي لتنفيذ المهمة خشية أن ينتبه الشرطيان إلى أمري. لم يبق بيني وبين الشرطة إلا بعض الأمتار، أمّا المسافة التي تفصلني عن الفرنسي فكانت لا تتعدّى المتر الواحد، وقد تعمّدتُ ذلك لأن المسدس الذي كان بحوزتي لا يحقّق غرضه إلا إذا كانت المسافة قريبة من الهدف، أخرجتُ المسدس وأطلقتُ الرصاص، سقط أرضا ورفع رأسه، فاقتربت منه لأنّني شككتُ ببقائه حيا لكنه سقط مرة ثانية، في هذه اللحظات اختلط الحابل بالنابل، وأخذ الناس يركضون في جميع الاتجاهات. في أثناء ذلك الفزع والرعب، وصلتُ إلى مقهى (أولاد دَرّاج) فوجدتُها مكتظّة بالمواطنين، فأمرتُهم بالخروج، لأن العاقبة ستكون سيئة لا محالة، ثم خرجتُ من المقهى عبر طريق القفّافة، عندها سمعت صوت رصاص العدو الذي بدأ بالقتل دون تمييز ودون شفقة أو رحمة، وصلتُ إلى نهاية الطّريق أين التقيتُ بأحد المسؤولين الذي سلّمتُ له مسدسي ثم اتجهت إلى حي الزاوية..». انتقام العدو.. أصيب الاحتلال بتبسة بهستيريا شديدة أفقدته صوابه بسبب نجاح هذه العملية النّوعية واختفاء صاحبها، فصبّ جام غضبه على سوق المدينة مصدر رزق الكثير من أبنائها، وليمنع التموين عن السكان، في حرب اقتصادية ضد الشعب، فقام بحرق محلاّت السوق عن آخرها، وقد امتدت ألسنة اللهب إلى منازل الأحياء القريبة منه، انتقاما من المواطنين العزل أصحاب هذه الدّكاكين، الذين كان يرى فيهم دعما لوجستيا للمجاهدين وللثورة. وبالإضافة إلى الخسائر المادية، فقد أسفرت عملية حرق السوق عن استشهاد ثمانية من أبناء تبسة، وهم الشهداء: بن خديم لزهاري، شعبور أحمد، زوّاي محمد بن الطيّب، بوزنادة محفوظ، لزرلي الهادي، عوايشية الطاهر، محمد راشدي ومضوي عبد الكريم)، وقد تم تثبيت أسمائهم في الجدارية المخّلدة للمجزرة. إلا أنّ هذا الانتقام الفرنسي لم يزد أبناء تبسة ومجاهديها الأحرار، إلا إصرارا وعزيمة على المقاومة والتحدّي، ومواصلة الرّسالة لتحقيق الهدف الأسمى وهو استرجاع السيادة الوطنية وطرد الغزاة، حيث عَقِب هذا التاريخ مباشرة التحق العديد من شباب تبسة بصفوف جيش التحريروبالمنظمة المدنية لجبهة التحرير الوطني، كما شهدت جبالها ووهادها وتلالها سلسلة من المعارك والاشتباكات والكمائن ضد جيش العدو، والعمليات النوعية التي استهدفت مصالحه الحيوية، ثأرًا للشهداء و للمواطنين العزل. صدى المحرقة في الشّعر خلّد عديد الشعراء الجزائريين هذه المحرقة في قصائد ومقطوعات شعرية فصيحة وشعبية، وتغنّى بها أبناء الشعب وبناته، وردّدتها الحناجر في المحافل والمنتديات وحتى في الأعراس الشّعبية، ومن ذلك ما جادت به قريحة ابن ميزاب الشاعر المجاهد صالح خرفي (1932 1998) وكان حينذاك بتونس، فبكاها شعرا وأرّخ لها بقصيدة مفعمة بالوطنية، حواها ديوانه «أطلس المعجزات»، أبرز خلال أبياتها الحقد الدفين الذي يكنّه الفرنسي للشعب الجزائري برمّته، وقد تجلّى هذا الحقد في حرق سوق مدينة تبسة على من فيه، حيث كتب وقلبه يعتصر حزنا من هول الفاجعة: رفعوك في ليل الكفاح منارا إذ غادروك أيا تبسة نارا في كل قلب نابض قد أضرمو ها يستفز أوارها الأحرار ما انهدّ ركن فيك، إلا والعرو بة قد تصدّع قلبها وأنهارا عبرات شيخ تأكل النيران أموا لا قضى في جمعها أعمارا زفرات قوم أبعدوا عن أرضهم ظلما فهاموا في القفار حيارَى تلك المآسي قد كفانا وقعها ليثير بين ضلوعنا إعصارا إعصار حقد في الجوانح كامن إن ثار دكّ الشر والأشرار صبرا (تبسة) إن شقيت بنار أوغاد بكأس الانتقام سكارَى سيزيح عنهم ظلمة الإسكار فجر للجزائر يبهر الأنظار لا تحزني للوكر إن عصفت جبا برة به، والسرب ريع فطارا فغدًا تؤوب الطير والآمال تحدو سربها فتجدّد الأوكار أما المجاهد الشاعر محمد الشّبوكي (1916 2005) ابن ولاية تبسة، وصاحب النشيد الخالد «بلادي يا أرض الجدود»، فقد ألهب حماس المجاهدين والمواطنين المدنيين على السواء بقصيدة خالدة، أطلق عليها عنوان «تبسة الصامدة»، وكان آنذاك مزجّ به في معتقل الجرف بنواحي المسيلة، وثّق لنا هذه المجزرة الجبانة التي حملت توقيع عتاة الجيش الغازي، وصوّر لنا لهيبها واستعارها، معرِّضا بالجيش الفرنسي الذي انهزم شرّ هزيمة في معركة ديان بيان فو بالفيتنام في مارس ماي 1954، وملمِّزًا بهذا الجيش الذي أطلق عليه الشاعر وكل الشعب آنذاك اسم «قَمِير»، كما مجّد تبسة وأبطالها الذين لقّنوا العدو دروسا في الشّجاعة والإقدام بساحات الوغى، ومبشّرا أبناء الجزائر بالنّصر المبين وبالفجر الجديد، فكتب بدمه هذه القصيدة التي منها: لفّها الليل واللهيب المسعّر ودخّان يعلو المنازل أحمر ودَهَى تبسة المجيدة هول روّع الآمنين ليلا وحيّر أحرقوا سوقها وعاثوا فسادا في حماها ومارسوا كل منكر أي جيش قد أشعل النار فيها ومشى في أحيائها يتبختر يقتل الأبرياء أنّى رآهم مثل (نيرون) في العتوّ وقيصر ذاك جيش قد فر من حرب (فيتنا م) أتانا هنا لكي يتعنتر وفلول قد شرّدتها (بيان فو) فانتحت نحونا لكي تتسيطر أترى تبسة الجريحة خارت واستكانت إلى الدمار المدبّر؟ أم تراها تجلّدت وتحدّت كل عات وكل وغد تنمّر وتصدّت للغاشمين تُريهم أنّها في الجهاد لا تتأخر؟ هكذا تبسة المجيدة باتت تتحدّى الذي طغى وتجبّر لم تفل النيران من عزمها الأق وى فقد صمّمت لكي تتحرر فهي حصن ممنع وستبقى قلعة للأحرار في سفح (أزمر) لا تبالي تهجّمات فرنسا إنها أقسمت بأن سوف تثأر تبسة المجد ساءنا خبر الحر ق ومضّ القلوب منّا وكدّر ضمدي الجرح وابشري إن فجر النّ صر قد لاح نُوره وتفجر يا دماء زكية سفحتهاقوة الظلم أنت مسك وعنبر أنتِ للنصر يا دماء ضمانا ت ورمز إلى المصير المقرّر إيه يا (تبسة) المحامد تِيهي بك جيش التحرير يزهى ويفخر واعلمي يا (قَمير) أنّا نهضنا وعزمنا بأنّنا سوف نثأر فاسعدي إن الرّحيل قريب ومصير البلاد حقا تقرر جدارية تخلّد الجريمة وفي سبيل الحفاظ على الذاكرة الوطنية ونقلها بأمانة إلى الأجيال، وإبراز الوجه البشع للاحتلال، وتوثيقا لهذه المجزرة ضد الإنسانية التي ارتكبها الفرنسي ببلادنا وفي مدينة عريقة ومجاهدة، فقد عمدت السلطات المحلية إلى إقامة جدارية رخامية، بوسط مدينة تبسة وبمحاذاة السوق الذي شهد ذات يوم هذه المحرقة، تضم نبذة عن الحادثة وأسماء شهدائها الثمانية وقصيدة الشاعر صالح خرفي..كما اعتادت ذات السلطات على إحياء ذكراها بصفة منتظمة، بحضور الأسرة الثورية وجمع من المثقفين والإعلاميين وعموم المواطنين.