غياب الوعي حوّل المواطن إلى لقمة في «فم» سياسي غير مؤهّل القائمة النّسبية كرّست مبدأ الاختيار بعيدا عن الكفاءة والجدارة الشّارع السياسي اليوم مطلبي يفضّل خطاب الوعود يسمّيها البعض وعودا سياسية والبعض الآخر التزامات انتخابية، فيما يراها آخرون مجرّد أكاذيب وخدع سياسية في عملية «نصب» معنوية لسرقة صوت ناخب لجهة معيّنة، كرّستها فترة سابقة تزاوج فيها المال والسياسة في عقد قران «عرفي» ميَّع الممارسة السياسية إلى مجرّد «هفّ» النّاخب بوعود كاذبة أقسم أصحابها في مواعيد انتخابية مختلفة على تحقيقها، مستغلّين بذلك ظروفا اجتماعية قاسية يعيشها المواطن، خاصة في مناطق الظل والنائية للوصول إلى كرسي السّلطة، رغم أنّ السياسة نضال يومي من أجل تحسين مناحي الحياة وترقيتها. استراتيجية الخداع السياسي انعكاس منطقي لحالة الضّعف والوهن، اللّتين تسيطران على الحياة السياسية، فقد أكّد مختصّون ل «الشعب ويكاند» أنّ ابتعاد الأحزاب عن جوهرها في كونها مؤسّسات دولة تعمل على تكوين المناضلين والنّخب، وتأهيلها لتولي مواقع المسؤولية انعكس سلبا على عملية تشبيب الدولة بسبب ضعف التكوين السياسي للشباب. تومي: «السياسة..مهنة من لا مهنة له» أكّد أستاذ علم الاجتماع والديمغرافيا بجامعة الجزائر 2 ببوزريعة، حسين تومي، في اتّصال مع «الشعب-ويكاند»، أنّ الكذب هو دأب السياسيين في العالم حتى وإن كان بدرجات متفاوتة حسب مقتضيات كل حالة، فنجده يختلف من دولة إلى دولة ومن شخص إلى آخر، كلٌّ حسب مستواه، منصبه ونضاله السياسي، وقال إنّ معظم السياسيّين يعملون بمقولة «أكذب، أكذب، أكذب حتى يصدّقك النّاس». لكن السياسة في الجزائر تحوّلت إلى مهنة من لا مهنة له، فمعظم السياسيّين لا يملكون مهنة ولا تخصّصا ولا مستوى أكاديميا ولا نضالا سياسيا يمكّنهم من دخول معترك الحياة السياسية، فنجد شخصا يترشّح لمناصب على مستوى المجلس البلدي أو الولائي وحتى المجالس الوطنية، بل حتى الانتخابات الرّئاسية، لا يفقه شيئا في الممارسة السياسية حيث تجده في بعض الأحيان بطّالا لا يحسن كتابة اسمه، لم يمارس التّسيير والإدارة في حياته قط، لا يملك أي مؤهّل من المؤهّلات، رغم ذلك وبدون حياء يتقدّم إلى التّرشيح وكأنّ الأمر يتعلّق بلعبة، ولنا في مترشّحي رئاسيات 2019 قبل حراك 22 فيفري صورة واقعية عن ذلك. ولاحظ تومي أنّ ضعف التّكوين السياسي وافتقار المترشّحين للبرامج ولأبجديات إدارة السياسة أو الدولة، يجعلهم يلجأون إلى إطلاق سلسلة من الوعود الرنّانة، رغم أنّهم لا يعرفون شيئا عن وظائفهم في حالة نجاحهم في الانتخابات، فتجد الكثير من النوّاب غير ملمّين بالمهام الملقاة على عاتقهم في المجلس الشّعبي الوطني. وتساءل المتحدّث كيف لنائب أن يعطي وعودا بالسّكن، العمل وتحسين الظّروف المعيشية للمواطن، رغم أنّه لا يملك قرار البناء ولا قرار التوظيف ولا قرار تحسين الأجور ولا تحسين المعيشة، وإنما هو وسيط بين المواطنين أو النّاخبين الذين يمثّلهم في المجالس المحلية والوطنية، أما الجهاز التّنفيذي المتمثل في الجهاز الحكومي هو المعني الأول بتلك القرارات. واعتبر تومي غياب الوعي السياسي لدى المواطن أهم عوائق نجاح الديمقراطية في مجتمعات العالم الثالث، فعدم إدراكه لمعنى السياسة، الانتخاب والديمقراطية جعل منه لقمة سائغة في «فم» فئة تحاول صناعة المشهد السياسي، مضيفا أنّ بعض ممارسي السياسة يراها مجرّد لعبة وفرصة لإطلاق وعود كاذبة على مسمع المواطن، الذي لا يملك سوى خيار تصديقهم، فتراه يذهب إلى الانتخابات التّشريعية مثلا وهو غير مُدرك أنّ النّائب لا يملك سلطة القرار بل التّشريع فقط. في سياق متصل، لاحظ الأستاذ أنّ معظم المترشّحين على مستوى المجالس البلدية يترشّحون لخدمة مآربهم الخاصة، فكيف نفسّر ترشّح البعض للانتخابات المحلية رغم أنّ مؤهّلاتهم لا تسمح بأن يكونوا سوى موظّف بسيط، كيف لهؤلاء تسيير بلدية يفوق عدد سكانها 100 ألف نسمة مليئة بمشاكل التنمية والتهيئة؟ لذلك يكون الكذب وسيلتهم في حملتهم الانتخابية فيطلقون وعودا بإنشاء المدارس والتهيئة العمرانية، وكأنّهم سيحوّلون البلدية إلى جنّة، بالرغم من أنّهم لا يملكون من الأمر شيئا. «أغلب السياسيّين عندنا حفظوا من كتاب الأمير لمكيافيل سوى الكذب، أما الالتزام بالوعود فمسكوت عنه، بينما في الغرب وبالنّظر إلى الوعي السياسي يحاسب المواطن كل مترشّح للانتخاب على أساس برنامجه، فإذا لم يلب لهم الوعود التي قطعها على نفسه خلال حملته الانتخابية، لا يجدّد النّاخب ثقته فيه»، ولاحظ تومي أنّ المواطن في الجزائر لا يبحث عن البرامج، ولا عن إمكانية تطبيقها على أرض الواقع، مؤكّدا أنّ الديمقراطية ثمنها زهيد وثمارها كبيرة، أمّا النّظام الشّمولي ثمنه باهض وثماره مرّة. أحزاب تحيد عن دورها في التّكوين قال تومي إنّ الجزائر ومنذ التّعدّدية الحزبية إلى اليوم، معظم الأحزاب الموجودة إلا القليل منها لا تفقه أنّ الحزب مؤسّسة دولة لتكوين السياسيين، رغم أنّ فترة الأحادية التي سبقتها كان الحزب الواحد فيها على دراية ومعرفة وملمّ بهذه القضية في كونه مؤسّسة مهمّتها التكوين، لذلك كان يقوم بندوات وتربّصات وتكوين مغلق لإطاراته على مختلف المستويات، كالمحافظين واللّجان المركزية الولائية. أما بعد التعددية أصبح لمعظم رؤساء الأحزاب مآرب شخصية يطمحون إلى تحقيقها، تتأرجح بين مادية أو معنوية من أجل الظهور، أما التكوين فمغيّب عن برنامج عملهم، وحتى الجامعات الصيفية تحوّلت إلى مهرجان للقاء والأكل والشرب. وأكّد أنّ الضّعف الذي تعانيه الحياة السياسية، اليوم، كانت له آثار وانعكاسات سلبية خاصة فيما يتعلّق بالتّشبيب، فقد تحوّل إلى مهمّة صعبة بسبب غياب شباب له تكوين سياسي يؤهّله لإدارة الدولة، لذلك كان لا بد من دعم الدولة لهذه العملية بكل مؤسّساتها، وحثّ الأحزاب بالعودة إلى جوهرها الأساسي في تكوين وتأهيل وتدريب أطر الدولة. رخيلة: الحزب آلة انتخابيّة صرّح المختص في القانون الدستوري، عامر رخيلة، في اتصال مع «الشعب-ويكاند»، أنّ وجود الأحزاب مرتبط بمؤسّسات تكوينية عقائدية وسياسية همّها الأول تكوين أُطر مؤهّلة لتولّي مواقع المسؤولية والسّعي إلى السلطة، لكن كل ذلك لن يتم بالا بحياة حزبية تتسم بتكوين نضالي، وتزويد المناضل بمختلف المعارف في مختلف التخصصات لا سيما الاجتماعية والانشائية منها، بالإضافة إلى جعلها المناضل عضو فاعل وناشط في الحياة السياسية، مؤكّدا أنّه لن يتأتّى ذلك إلا بالنّدوات المكثّفة والأيام الدراسية والاهتمام بالأيام التاريخية، إلى جانب توعية مناضليها بالأحداث التاريخية الوطنية، المحلية والدولية. وتأسّف رخيلة قائلا «الجانب التّكويني كان موجودا في عهد الحزب الواحد لكن مع الانتقال من الأحادية إلى التّعددية، أصبح الحزب مجرّد اعتماد يوظف لآجال انتخابية، لدرجة أنّ العديد من العناوين الحزبية تنتظر في كل سنة انتخاب، وما زاد الطّين بلّة إهمالها للجانب التّكويني لمناضليها»، موضّحا أنّ التّعددية الحزبية حوّلت الحزب إلى آلة انتخابية وليس آلة للترقية والتكوين السياسي، ولا لترقية المفاهيم عند مكونات الحزب، فحتى اللقاءات النظامية للأحزاب اختفت من الحياة السياسية سواء كانت أحزابا كبرى أو صغرى. في نفس الوقت، أكّد المتحدّث أنّ إهمال الجانب التكويني انعكس سلبا على إدارة شؤون الأحزاب التي أصبحت بؤرا للصّراعات والخلافات والتناقض، عوض أن تكون أُطرا للتوعية السياسية وسط المناضلين، ونشر إشعاعهم على مستوى المجتمع. وأضاف المختص في القانون الدستوري «من الناحية الحزبية لم تتمكّن الطبقة السياسية من إنشاء أحزاب تتوفّر على المقاييس المطلوبة في الحزب السياسي كحزب يسعى للوصول الى السلطة والمشاركة في التمثيل على مستوى الهيئات والمؤسّسات المنتخبة، فقد تحوّلت إلى اعتمادات للإيصال». «فلا تمر أي حملة من الحملات الانتخابية إلاّ وتقع مشاكل في صفوف الأحزاب السياسية وانشقاقات بسبب الاختلاف على ضبط القائمة، والأساليب التي تتم بها هذه العملية لا سيما في نظام الانتخاب السّابق، الذي اعتمد القائمة النسبية أو الجزئية، فلم يكن الترتيب على أساس الجدارة والالتزام والكفاءة والأهلية ليكون المترشّح ممثّلا للحزب أثناء التنافس بل كان الترتيب لاعتبارات أخرى هي الجهوية، العشائرية والمحاباة، لتختم في النهاية بالرّشوة، وتساءل عمّا يقدّمه رجل تصدّر القائمة بالرشوة، وعمّا تنتظره منه سواء كسلوك مناضل أو الوفاء للحزب أو البرامج. الحياة الحزبية ليست مرتبطة بأجل انتخابي كشف رخيلة أنّ الحياة الحزبية مستمرّة غير مرتبطة بأجل انتخابي، لأنّها أعمال متواصلة الغاية، منها تكوين مناضل ناشط وفاعل في المجتمع العام، لكن الواقع السياسي مغاير تماما، حيث ساهمت بعض القوانين الانتخابية في تأزّمه، من بينها النمط الانتخابي السابق الذي يعتمد النسبية فقد أدّى دورا كارثيا في المجتمع، لأنّه نظام «اعتمد لتمثيل الأقليات القومية والمصلحية في أوروبا، وليس لتحتل الصدارة ولا تأسيس كتلة انتخابية، هي تمثيل فئوي لمهن ونشاطات ولأعراق وأفكار لكنها تخلّت عن هذا النظام منذ القرن العشرين، ولاحظ أنّ نظام النسبية اعتمدته الجزائر في غير الإطار الذي وجد من أجله، بالإضافة إلى عدم متابعة السلطات المعنية لتفعيل المواد الجزائية الموجودة في قانون الانتخابات بغية تحريك دعوى عمومية». في نفس السياق، قال رخيلة إنّ المدقّق في البرامج السياسية للأحزاب سيجدها إمّا صورة طبق الأصل أو مجرد أوهام ومبالغات، فعند وضع أهداف البرامج في أي مجال يتضمّنها لا بد من تحديد مصدر الاعتمادات، أدوات تنفيذها، إلى جانب ضرورة تسطير أهداف عقلانية. «فلا يعقل أن تكون حملة انتخابية لتشريعيات مثلا بوعود منح السّكنات وتهيئة الطرقات لكونها خارج اختصاص المترشّح لأنّ المشرّع لديه اختصاص المعالجة القانونية لقضايا المجتمع السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية، التنموية، الإعلامية والتربوية». وطالب المتحدّث السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات بتوجيه المترشّحين بعدم الانزلاق وراء تقديم وعود انتخابية غير موضوعية وغير عقلانية، حتى لا تفقد العملية الانتخابية أهميتها، لأنّ هكذا تصرف من المترشّحين تحت ضغط التنافس والوعود المعسولة له انعكاسات سلبية كبيرة على الحياة السياسية. وتأسّف في الوقت نفسه عن تحوّل الشارع السياسي الجزائري الى شارع مطلبي يفضّل خطاب الوعود، دون إغفال الوعود التي تُعطى في المجالس الخاصة بمناصب وامتيازات ومنافع، فرغم عدم الإعلان عنها هي موجودة. الإعلام لضبط وعود عقلانية قال رخيلة إنّ الوعود الانتخابية هي قاعدة من قواعد العمل الانتخابي لكن وجب عقلنتها بعيدا عن إعطاء وعود ببناء السكنات، وتعبيد الطرقات وتهيئة الأحياء والشّوارع لأنّها من صلاحيات السلطة التنفيذية وليس التشريعية، أما على مستوى البلديات يستطيع المترشّح الالتزام بها لكن في إطار ميزانية البلدية التي سيشرف على تسييرها إن نجح في الانتخابات المحلية. يجب وضع الوعود الانتخابية في سياق ميزانية البلدية ومداخيلها، فإذا كانت تعتمد في إدارة شؤونها اليومية على مساعدات الدولة لن يستطيع المترشّح إعطاء وعود بإقامة مشاريع كبيرة، نعم هو يسعى للتنمية لكن القول بإنشاء مشاريع محدّدة هو مسٌّ بمصداقية الانتخابات، لخلقها القَلاقِل فيما بعد، وكذا احتجاجات على المنتخبين لأنّهم لم يفوا بوعودهم الانتخابية، مع العلم أنّه لم يكن بإمكانهم تحقيقها منذ اليوم الأول، إلا أنّها مع ذلك تبقى مسجّلة عليهم من طرف الكتلة الناخبة. ولردّ الأمور إلى نصابها، أولى رخيلة أهمية كبيرة للإعلام والدّور الواجب عليه تأديته من أجل مخاطبة المنتخبين، بوجوب توظيف العقل في تقديم وعود يمكن تحقيقها على أرض الواقع، وفي نفس الوقت إقناع النّاخبين بعدم الانسياق وراء خطابات وهمية في إطار الرّسالة الإعلامية الملقاة على عاتقه.