الثقافة السياسية في الجزائر هشة المضمون و سطحية الشكل , إنه الحكم الذي يناسب أكثر الممارسة السياسية و منتوجها طيلة ال 27 سنة الماضية . فمن حيث المضمون عجز لسياسيون عن إنتاج مشروع مجتمع قادر على فرض نفسه و مواجهة مشاريع منافسة , كما فشلوا في صياغة خطاب سياسي ينفذ إلى وعي المواطن و يساعده على فهم وضعه كفرد كامل الحقوق و إدراك أوضاع مجتمعه و ما يترتب عنها من واجبات .و بدلا من تكوين مناضلين أنضجتهم الثقافة السياسية للدفاع عن مشروعهم السياسي , اكتفى السياسيون باستئجار خدمات أتباع للقيام بأدوار و مهام مؤقتة في المواعيد الانتخابية ... أما من حيث الكم و الشكل , فقد سجل الملاحظون, أنه من بين أكثر من سبعين حزبا سياسيا تم اعتماده في الجزائر في عهد التعددية الحزبية , لم يكن عدد الأحزاب ذات التمثيل النسبي ضمن الهيئة الناخبة يتجاوز أصابع اليد, مما جعل بعض وسائل الإعلام تتعامل باستخفاف مع معظمها.فكان يكفي اتفاق 15 شخصا لتشكيل الهيئة التأسيسية لإنشاء حزب سياسي , الأمر الذي شجع موظفين سابقين وضباطا متقاعدين ومناضلين «تاريخيين» على إنشاء أحزاب خاصة بهم مستفيدين من الدعم الذي تقدمه الدولة . وظهرت في الجزائر أشكال عجيبة من الأحزاب, كالأحزاب العائلية التي تجمع الابن وأباه أو يتداول على رئاستها الزوجة وزوجها. وبقدر ما أكدت كثرة هذه الأحزاب المجهرية وجود قناعة لدى الشارع بعدم جدوى العمل الحزبي, بقدر ما رسخ أداؤها تلك القناعة التاريخية لديه. الثقافة السياسية تستلزم سياسة ثقافية و لأننا نمارس الثقافة بلا سياسة، ونشتغل بالسياسة بلا ثقافة, سيطرت الرداءة واستفحلت في كافة أجهزة المجتمع وتميعت الممارسة السياسية، مما فتح المجال واسعا أمام كل من هب ودب للحديث باسم المجتمع , لتتولي وسائل الإعلام (أجنبية أحيانا ) بنشر هذا الحديث على نطاق واسع و تسويقه على أنه يعبر عن موقف الرأي العام , حتى عندما يكون محتواه مسيئا للثقافة الجزائرية , و مناقضا لسياستها , و مشوها لتاريخها ,الأمر الذي لا يخلو من خطورة على انسجام المجتمع و استقراره . و قد عاشت الجزائر تجربة مريرة خلال العشرية السوداء , عندما ساد تحكيم الهوى و ركوب الفوضى , و غابت السياسة الثقافية , و الثقافة السياسية على حد سواء . من المسلمات المعترف بها حتى من طرف من تحملوا مسؤوليات القطاع الثقافي , أننا لا نمتلك سياسة ثقافية. و بالتالي فإن الارتجال يبقى في غالب الأحيان سيد الموقف في تسيير الشأن الثقافي. و هذا سواء كان على رأس القطاع من يسمون بالتكنوقراط و الذين يتعاملون مع الثقافة بذهنية و أدوات الإداريين بعيدا عن أي رؤية ثقافية أو عمق اجتماعي. أو كان على رأسه متحزب فيحصر دورها في نطاق رؤيته السياسية و بما يعود بالنفع على مذهبه الإيديولوجي فتضيع الثقافة بين العمل الإداري والهوى الإيديولوجي.و بغياب السياسة الثقافية تغيب كذلك الثقافة السياسية، سواء لدى النظام أو الحزب. لأن الشغل الشاغل لأي نظام في الحكم , هو الوقوف بالمرصاد للحزب باعتباره منافسا سياسيا له , و للمثقف لتفكيره النقدي حياله . كما أن الحزب، من جهته و بسبب السياسة الرسمية يظل موقفه من السياسة والثقافة معا محصورا في ما يمكن أن يعود عليه بمكاسب، سواء بالتواطؤ مع الغير، أو بالحلول محله تحالفا أو موالاة . و لذا لا يمكننا الحديث في التجربة الجزائرية أو العربية عامة , لا عن سياسة ثقافية ولا عن ثقافة سياسية. و تمثل الاحتجاجات و الإضرابات و الانتخابات و مختلف التظاهرات الحزبية أو الرسمية , الواجهة التي تنعكس فيها هشاشة السياسة و ضعف الثقافة . فحين يوظف الحزب أطفالا ونساء وشيوخ الأحياء الشعبية الفقيرة والبطالين لتوزيع مطبوعات الحملة الانتخابية للمرشحين و مراقبة صناديق الاقتراع و عمليات فرز الأصوات ، لا يمكننا الحديث عن ثقافة سياسية. وحين يمارس العنف اللفظي بين من ينشطون الحملة الانتخابية، لا يمكننا الحديث عن فهم ثقافي لاستحقاق سياسي يقوم على أساس تدافع الأفكار و لغة إقناع العقل و إشباع العاطفة و إيقاظ الإرادة النضالية . وحين تتشابه الخطابات والشعارات إلى حد التطابق، رغم اختلاف الأحزاب و«برامجها»، لا يمكننا الحديث عن رؤية ناضجة لتصور ثقافي ناضج يتيح التجديد في المؤسسات , و يؤخلق السلوك و يعيد للخطاب (الثقافي و السياسي ) مصداقيته , و يترك مجالا واسعا للمواطن (أو المناضل) للمساهمة في القرارات و الخيارات الكبرى. و يبقى تصحيح الوضع القائم مؤجلا... إذا كانت السياسة الثقافية منعدمة، فإن الثقافة السياسية بدورها مستحيلة, علما أن الأولى من مسؤولية النظام, بينما الثانية من مهام المثقفين والأحزاب والمجتمع المدني. وإذا تأكدنا من القطيعة المزمنة بين المثقفين والمجتمع السياسي، بدا لنا بجلاء أن المثقف، وهو يبدع أو يفكر أو يحلل، يتوجه بذلك إلى جمهور عريض وغير محدد هو القارئ أو المشاهد، و من ثم فهو غير معني بتأطير الناس أو توجيههم في نطاق مؤسساتي, فذلك , دور الحزب أو الجمعية. و لكن في غياب الثقافة السياسية, و السياسة الثقافية, يختلط الحابل بالنابل , ويصبح الهوى ثقافة و الفوضى سياسة .و ذلك لأن الحزب الذي يضطلع بمهمة التأطير الاجتماعي، يضع على قائمة مهامه، ليس الارتقاء بوعي الناس، وجعلهم يحملون ثقافة سياسية ما، من أجل بناء مجتمع المواطنين لا الأتباع، ولكن ينصب كل جهده من أجل النجاح في الانتخابات، وقد صارت الممارسة السياسية مختزلة في صناديق الاقتراع. لذلك فهو يشتغل بالثقافة والسياسة بكيفية لا تختلف عن النظام. فما هو الخطاب الذي يمكن أن ينتجه حزب في استحقاق انتخابي؟ ومن هم المناضلون الذين سيضطلعون بالتعريف بالبرنامج الذي يدافع عنه الحزب ويسعى إلى إقناع الناخبين به؟ و من هذا المنظور يمكننا القول أن تجربة التعددية الحزبية في الجزائر رغم ما توفر لها من إمكانات مادية و تشريعية و دروس الميراث التاريخي السياسي للحركة الوطنية , لم تؤسس لظهور ثقافة سياسية من شأنها تصحيح الممارسة السياسية في البلاد شكلا و مضمونا.