عرَّف أحد المفكرين العرب السياسة بأنها «كل نشاط يجعل من الإنسان إنسانا أفضل « , و انطلاقا من هذا المفهوم البسيط , فإن السياسة هي ؛ أن تجعل الفلاح و العامل و الأستاذ و التاجر و الجندي و ربة البيت ؛ أن تجعل كل هؤلاء و غيرهم من أفراد المجتمع , أفضل مما هم عليه, من حيث مردودهم المهني, و من حيث وضعهم الاجتماعي. و بالتالي فإن السياسة لا تنحصر في تأسيس أحزاب و تجنيد مناضلين و خوض غمار الانتخابات و ارتجال خطابات و توزيع الانتقادات يمينا وشمالا , و إنما مهمة السياسي إذا ما تمكن من تأسيس حزب تكمن في أن يجتهد ليجعل من نفسه أفضل رئيس حزب و يسهر بعد ذلك ليكون حزبه أفضل حزب و مناضلوه أفضل المناضلين و برنامجه أفضل البرامج , حتى إذا أضحى له ممثلون تحت قبة البرلمان , أدرك أن مسؤوليته أصبحت أكثر عبئا , لأنه مطالب بأن يجعل برلمانييه أفضل البرلمانيين . و إذا كانت الأحزاب هي الإطار التنظيمي لممارسة السياسة , فإن السياسي يمكنه الاستغناء عن هذا الإطار ليمارس السياسة ضمن أشكال تنظيمية أخرى , أو بشكل مستقل , بعد الآفاق الواسعة و اللامحدودة التي أتاحتها وسائل التواصل الحديثة, عبر شبكة النت. و هي مهمة ليست في متناول أي سياسي,وجوده و عدمه سواء, سياسي معياره العشوائية و الانتهازية غالبا في تحديد مواقفه , و أسلوبه الارتجالية في صياغة خطاباته, و أداته الشعبوية لاستمالة الجماهير؛و إنما هي من حظ السياسي المهتم بجوهر و لب السياسة بالتعريف الوارد أعلاه , لا بقشورها . و يعرّف الحزب بأنه» مجموعة من المواطنين يؤمنون بأهداف سياسية و إيديولوجية مشتركة و ينظمون أنفسهم بهدف الوصول إلى السلطة و تحقيق برنامجهم «. و الحزب بهذا المفهوم يشكل واجهة النظام السياسي في أي بلد , لأنه عبر الأحزاب و ما تنتجه من أفكار و ثقافة سياسية وما تبلوره من مفاهيم إيديولوجية و ما تنشئه من تنظيمات ,و ما تطوره من برامج تمس مختلف مناحي الحياة , من خلال كل ذلك تساهم في تشكيل رأي عام حول العديد من القضايا الوطنية و الدولية , و تمنح بذلك مكانة لها على الساحة السياسية تمكنها من بلوغ أهدافها في الوصول إلى السلطة من أجل تجسيد برنامجها على أرض الواقع . و الوصول إلى السلطة ,بالنسبة لمثل هذه الأحزاب ليس متروكا للحظ أو للصدفة , و إنما هو نتيجة نظرة استشرافية لقيادات الحزب متدرجة المراحل واضحة الأهداف محددة الوسائل . و كلما فشلت قيادة في تحقيق التقدم المسطر طاقة التعددية أضحت محدودة الاستيعاب لكل مرحلة في مسيرة الحزب , تركت المجال لقيادة أخرى بعد مراجعة أسباب الإخفاق و مواضع الخلل في النظرة الاستشرافية , التي عليها في هذه الحالة استدراك التأخر المسجل في تجاوز كل مرحلة , حتى لا يذهب الهدف النهائي للخطة الاستشرافية أدراج الرياح .و على أساس هذه التعريفات يمكننا قياس مدى مطابقة المشهد السياسي الجزائري لمقتضيات الممارسة السياسية السوية شكلا و مضمونا ؛فمن حيث المضمون عجز السياسيون عن إنتاج مشروع مجتمع قادر على فرض نفسه و مواجهة مشاريع منافسة , كما فشلوا في صياغة خطاب سياسي ينفذ إلى وعي المواطن و يساعده على فهم وضعه كفرد كامل الحقوق و إدراك أوضاع مجتمعه و ما يترتب عنها من واجبات .و بدلا من تكوين مناضلين أنضجتهم الثقافة السياسية للدفاع عن مشروعهم السياسي , اكتفى السياسيون باستئجار خدمات أتباع للقيام بأدوار و مهام مؤقتة في المواعيد الانتخابية . أما من حيث الكم و الشكل , يمكننا ملاحظة, أنه من بين أكثر من 76 حزبا سياسيا تم اعتماده في الجزائر في عهد التعددية الحزبية , لم يكن عدد الأحزاب ذات التمثيل النسبي ضمن الهيئة الناخبة يتجاوز أصابع اليد , مما جعل وسائل الإعلام تتعامل باستخفاف مع معظمها. فكان يكفي اتفاق 15 شخصا لتشكيل الهيئة التأسيسية لإنشاء حزب سياسي مما فتح باب السياسة على مصراعيها لتأسيس أكثر من مائة حزب قلصت عددها عمليات التطهير , التي ينبغي أن تتواصل لإزالة كل حزب عجز عن الحصول على مقاعد في المجالس المنتخبة رغم مشاركته الدائمة في الاستحقاقات الانتخابية . بل الأحزاب ذاتها ينبغي أن تكون لها الشجاعة و الجرأة على وضع حد لنشاطها و حل نفسها إن هي عجزت عن إقناع الناخبين بتزكيتها لتمثيلهم في المجالس المنتخبة . لقد كان الرهان على التعددية الحزبية ليس فقط من أجل تجديد المشهد السياسي ذي الوجه الوحيد , و إنما لإثرائه بوجوه متعددة وفي حدود المعقول ضمانا للفعالية والأداء الأفضل و هما أهم ما تتميز به الأحزاب الغربية عموما تأطيرا وإنتاجا فكريا وسياسيا وتنظيما وقرارات و ممارسة سياسية على مدار أيام السنة . و ينبغي التمييز هنا بين نوعين من الممارسة السياسية؛ممارسة تسعى إلى تحقيق الأفضل للمجتمع من حيث التصورات الفكرية المأمول تحقيقها، والمثل الأخلاقية و المبادئ الإنسانية و الحقوق و الواجبات ...؛و ممارسة سياسية مغايرة لا تقوم على المبدأ بل على المصلحة، و لا همّ لصاحبها سوى احتلال المواقع التي تسمح بالوصول إلى المصالح بكل أنواع التحايل على الواقع السياسي. عصر السياسة المتعددة الوسائط و هو ما ينطبق على كثير من الأحزاب التي أنتجتها التعددية السياسية في الجزائر , مع بعض الاستثناءات غير المكتملة. و من هذا المنظور يمكننا القول أن تجربة التعددية الحزبية في الجزائر رغم ما توفر لها من إمكانات مادية و تشريعية و دروس الميراث التاريخي السياسي للحركة الوطنية , لم تؤسس لظهور ثقافة سياسية من شأنها تصحيح الممارسة السياسية في البلاد شكلا و مضمونا و توجه الأحزاب نحو الاندماج بدلا من التشظي و الانشقاق و نحو النظرة الاستشرافية التي لا تستعمل أدوات الشرط و التسويف و إنما أدوات التوكيد سواء بالنسبة للوصول إلى الحكم أو لتجسيد البرامج البديلة . أي أن السياسيين التقليديين تشبثوا بقشور السياسة , متمسكين بالمناصب و ما تتيحه لهم من مكاسب , على حساب تشبيب القيادات , و مواكبة مستجدات التكنولوجيات الحديثة , توسيع مجالات النضال السياسي و أدواته , مما اضطر الأجيال الناشئة إلى اعتماد قنوات بديلة لإظهار مواهبهم السياسية عبر الحركة الجمعوية , و مواقع التواصل الاجتماعي و العمل الخيري التضامني و نشاطات المنفعة العامة , و حملات التوعية و التحسيس. فالسياسة ليست مجرد طموح شخصي للوصول إلى الحكم , و لا تنحصر في خندق المعارضة من أجل المعارضة , كما أنها ليست مجرد حصول على بطاقة انخراط في هذا الحزب أو ذاك , و حضور الاجتماعات و المهرجانات , و إلقاء الخطابات , و شغل الكراسي الأمامية في المناسبات , و إصدار البيانات , وتنشيط اللقاءات و الندوات الصحفية في الصالونات و التنافس في الانتخابات و التزاحم في طوابير الترشيحات و احتكار الوظائف السياسية, فالسياسة أكبر من كل ذلك , لأنها تقاس بمدى الجهد الذي يبذله السياسي يوميا في نشاطات مجدية ونافعة للمجتمع ؛ أي أن يكون قدوة فيفعل ما يقول ؛و يقول ما يعرف , و يشارك هموم و تطلعات مختلف الشرائح الاجتماعية . و باختصار فالسياسة تتلخص في مدى خدمة السياسي لوطنه , خاصة و أن الويب أقام جسرا فيما بين السياسيين و بينهم و بين المواطنين الذين أضحى في إمكانهم التحاور فيما بينهم و مناقشة محتوى البرامج السياسية و الوعود الانتخابية و انتقادها أو تأييدها مباشرة عبر البرامج التفاعلية ... إنه عصر السياسة المتعددة الوسائط التي لا مكان فيها لأحزابنا التقليدية المدعوة إلى التحول , إلى أحزاب عصرية مواكبة لمتطلبات الألفية الثالثة و على جميع الأصعدة (تنظيمية , سياسية , انتخابية, اجتماعية, شعبية...) و الأمل ألاَّ يطول انتظار مثل هذا التحول المنقذ للحياة السياسية و الحزبية منها على وجه الخصوص , حتى لا تستمر الأجيال السياسية في توارث تقاليد الفشل, أو المغامرة في انتهاج مسالك سياسية مجهولة العواقب .