عاشت ولاية عنابة، الأسبوع الماضي، جرائم قتل مروعة لم تعهدها المدينة من قبل، فقبل اليوم كان الشجار والعراك يفك على مستوى عائلي وعلى مستوى عقلاء الأحياء، لتعود المياه إلى مجاريها تقريبا في نفس اليوم، بل ينسى الناس ما كان بينهم من خلاف يوما ما، حيث تجدهم يهبون إلى بعضهم البعض تحت أي ظرف.. قيم كانت أسمى ما يربط من أواصر الأخوة في المجتمع العنابي ويعززها، وإذا جاءت المناسبات الدينية كالأعياد يصطف الناس بعد الصلاة يعانقون بعضهم البعض، فلا تعرف من خالف من، يقول الحاج لخضر، وهو شيخ في الثالثة والسبعين من العمر، وجدناه بمسرح جريمة نكراء عاشتها بلدية الشعيبة راح ضحيتها شابان في مقتبل العمر.. بداية الجريمة كانت عبارة عن مناوشات سطحية ليتطور الخلاف ويشتد التعصب لأسباب يقول عمي لخضر أنها تافهة جدا، هكذا أصبح الرجل ينظر إلى أخيه بين هذه الأحياء الشعبية التي كم تسكع فيها هؤلاء في طفولتهم، بين لعب ولهو ومرح، ليتحول الإخوة الأعداء إلى ضحايا وجلادين.. أبدا، يقول عمي لخضر، لن نشارك هذا الشباب طيشه، ولابد أن تعود سكة هذه الأسر إلى مسارها السليم ولو تطلب ذلك استخدام قوة الردع، حقيقة شيء يدعو إلى الحزن استفحال هذه الظواهر الدخيلة على المجتمع العنابي، لأن سكان عنابة في منطقة الشرق الجزائري مشهورون بأنهم عصبيون، ومزاجيون، لكن قلوبهم بيضاء، ما تلبث نفوسهم تعود إلى طبعها السليم بعد زوال فورة الغضب، لكن أن يقدم الأخ والجار الذي هو أخ كذلك على سفك دم أخيه، فهذا أمر أصبح في غاية الخطورة، ويتطلب استنفار كافة القوى الحية في المجتمع من أجل العودة بهذا الشباب إلى قيمه السمحة، التي يستمدها من عاداته وتقاليده ودينه وتاريخه الثوري العريق، لا يظلم، وإذا ظلم يصفح عند المقدرة. في سياق متصل، شهدت كذلك عنابة جريمة قتل نكراء كانت ضحيتها شابة فارقت الحياة وقرين لها يرقد بمستشفى عنابة في حالة صحية حرجة جدا، كانا يتواعدان بأحد الأكواخ القصديرية، حيث أقدم شخص يقال أنه خطيب شرعي للفتاة على رشهما بمادة البنزين وإضرام النار في الكوخ بكامله. حقيقة، عقلاء المدينة أضحوا يدقون ناقوس الخطر أكثر من ذي قبل، أمام هذه المظاهر اللاإنسانية التي انتشرت في هذا المجتمع المتسامح منذ نشأة المدينة قبل آلاف السنين، إنها بونة التي استوعبت عدة حضارات إنسانية، كل واحدة منها ساهمت في إضفاء صبغة على جمال المدينة، ولم تعرف يوما هذه الظواهر المشينة، من قتل وسفك للدماء، وعصابات منظمة تستل سيوفها وتوجهها نحو صدور بعضها البعض. إنها علامات الجاهلية الأولى، وإذا لم يستدرك عقلاء المجتمع الأمر قد ينحو إلى اتجاه خطير، لأن هذه ظاهرة القتل بدم بارد في منحى تصاعدي، وهنا يقول الأستاذ عبد الرحمن، أستاذ علم الاجتماع “رجاء لا تحملوا رجال الأمن المسؤولية الكاملة، فهم لا يستطيعون أن يدخلوا بيوتكم ويربوا أبناءكم، ويرصدون سلوكاتهم صباحا مساءً، فليبلغ من رأى شيئا مريبا في سلوكات ابنه، فالدولة الجزائرية قائمة بمؤسساتها وهياكلها ومستشفياتها النفسية ومصحاتها العقلية، لا عيب في ذلك، إذا كان ابنك يعاني من خلل في سلوكه أو اضطراب نفسي، فالدولة لم تنشئ هذه الهياكل عبثا. من بدت عليه أعراض أو سلوكات عدوانية وغير سوية يوجه إلى المصحات العقلية، فليكفي الناس شره، ويحقن دماء إخوانه، ماذا جنى هؤلاء من هذه المجازر سوى زرع الضغينة والأحقاد”. ويضيف الأستاذ “أنادي وأناشد من مكاني هذا كأستاذ متخصص في علم الجريمة كل أصحاب الضمائر الحية من أفراد ومؤسسات ورجال دين وعقلاء ووجهاء، المجتمع الجزائري مجتمع سمح، متدين بطبعه، ينبذ الظلم، عودوا بأبنائكم إلى سبيل الرشاد، حاولوا كل على مستواه أن يعمل على اجتثاث هذا الورم الخبيث الذي بات ينخر عضد هذه المدينة السياحية الجميلة الخلابة والتي جمعتنا من كل مناطق الوطن لعقود، لم نعرف يوما أحدا أشهر سيفا في وجه أخيه، كما نراه اليوم بين شباب متهور مريض وطائش مخلفا ضحايا وأحقاد قد لا تزول. المجتمع في أمس الحاجة للتكاتف والتآزر والتضامن خاصة في هذه الظروف الدولية العصيبة التي تملي على كل مواطن جزائري أصيل أن يتمسك بأخيه والوطن”. ويقول أحد الأساتذة المتخصصين في التاريخ أن مكمن قوة وجمال وسحر مدينة عنابة هو ذلك الخليط بين العديد من الولاياتالشرقية، من أعماق الصحراء إلى جيجل، فقسنطينة، وكذا الحدود الشرقية لتونس بين مدينتي سوق أهراس وتبسة والقالة. هذا الخليط يمثل مجتمع عنابة، لم تعرف الولاية موجة عنف قط، ففي أصعب الظروف التي مرت بها الجزائر بقيت عنابة متماسكة تقريبا نسيج واحد رغم الاختلاف الكبير في تركيبة المجتمع، لكن امتزج الدم الجزائري ببعضه، فأعطى صورة رائعة للأجيال الجديدة لمدينة عنابة، أما هذه الظواهر العدوانية، فهي دخيلة على مجتمعنا المحافظ الذي يتوزع به أكثر من 100 مسجد ومؤسسة دينية كلها أقيمت بأموال وتبرعات أبناء هذه الولاية، لن نقف مكتوفي الأيدي، المجتمع أصبح مهددا بهذه الآفات بفعل تفشي البطالة وقلة الشغل، وكذلك ارتفاع مستويات العنوسة بين الشباب، لابد أن يقف المجتمع بعقلائه وقفة صدق، ويجيب على السؤال الكبير المحير، عما يبحث أبناؤنا اليوم؟ حقيقة أبناء عنابة مشتتين في الشوارع، بين أسواق الدلالة يبحثون عن لقمة العيش، عن الشغل، عن هامش يثبتون فيه حقهم في الحياة، حقهم في الإبداع، هامش يفتح لهم المجال على مصراعيه دون إقصاء ولا محاباة، يستقبلهم المسؤولون على مستوى الإدارات بالترحاب، يسمعونهم، يصغون انشغالاتهم، هم يبحثون ككل الشباب الذين أجرينا معهم بعض المقابلات عن حد أدنى من السعادة.. مأوى وشغل، ذلك ما يريده هذا الشباب المسكين، هكذا قال كريم شاب صاحب الثلاثين ربيعا، يقبع خلف عربة لبيع الخضر، يميل بها حيث مالت أشعة الشمس، كل خوفه من جفاف خضره أكثر من خوفه على أن تصيبه ضربة شمس.. قال كريم بلهجة عامية “راك تشوف راني لا دار لا دوار.. أعيل عائلة من ثمانية أفراد، إذا توقفت هذه العربة تتوقف أسرتي عن الأكل، أحيانا أبكي وأنا وحدي لأنني لا أعرف إلى متى ستصمد هذه العربة أمام برد الشتاء وحر الصيف، بات المدخول ضئيلا، المنافسة شرسة، العربات في ازدياد مضطرد، العمل وفرصه محدودة، أين المفر، أصبحت أكثر نرفزة، عدواني، أثور لأتفه الأسباب، لأنني أتحمل عبئا بات يقتلني أكثر من أي وقت مضى. تحملت المسؤولية وأنا صغير، لم أر من الحياة إلا الجانب البائس، أحس كل يوم وكأنني أتسول هؤلاء المارة لأبيع لهم، هم يعرفون أن هذه العربات تقف خلفها فئة كادحة، لماذا يتجاهل القائمون على مؤسسات المجتمع هذه الأسباب الحية الحقيقية، بينما يبحثون في أسباب واهية، كمن ينفخ في الرماد بحثا عن جذوة نار. المجتمع يعاني من غياب عدالة اجتماعية بين أفراده، زادت الهوة واتسعت فجاءت الجريمة لتملأ هذا الفراغ الرهيب، حقيقة تتباين المستويات المعيشية بتباين المستوى التعليمي، وكذا مستوى الدخل لدى الفرد، لكن المشكلة الأعمق أن ترى من هو أدنى منك مستوى تعليمي وأخلاقي، بطرق ملتوية تصبح له الأسبقية في التمتع بالسكن والسيارة والشغل، يقول أحمد من لاكولون “إنها الفوضى الخلاقة التي أفرزتها ممارسات فئات معينة بالبيروقراطية والمحاباة والرشوة والمحسوبية” . سوق الحطاب، كل يوم منتصب، الدلالة، شباب يبيع كل ما يباع، ما هو السوق الكبير الذي يزود هذا السوق يوميا؟ تقربنا من بعض الباعة، بعضهم يحمل موبايلات، والآخر يحمل آلات كهرومنزلية مستخدمة، ملابس مستعملة، أحذية، خرداوات، مفاتيح سيارات.. كل شيء يباع.. ببساطة أردنا إجابة عن سؤال وضعناه فخا، هو سؤال بسيط لكن الجواب عنه صعب، من يزود هذا السوق يوميا بهذه السلع المستعملة؟ يضحك “علي” الذي وجدناه يحمل حزمة موبايلات مستعملة ثم يقول “يا أخي نحن نعمل على المبادلة في البيع، المهم أنك في كل عملية تحقق هامش ربح يساعدك على تغطية تكاليف مصروف جيبك اليومي”، قلنا له لكن اليوم كل شيء يباع، وغدا من أين تتزود؟ ضحك مطولا وقال لنا بالعامية “هاك تعرف...” بمعنى السرقة والسطو، حقيقة نسبة 70 % من المواد والسلع المستعملة المعروضة بهذا السوق الشعبي مسروقة، خاصة الموبايلات، الأحذية، أجهزة السيارات... إلخ، المهم يضيف محدثنا وبالعامية دائما “ازرب بيع قبل ما تتحكم ....”، نعم بئس السارق يسرق بيضة، فتقطع يده، لكن ماذا عساك أن تفعل يقول علي، نحن نكافح فقط لكي نعيش، لا يوجد شغل وإلا لماذا كل يوم نتكبد هذه المعاناة وهذه المغامرة، حقيقة قد ينجو السارق مرة لكن لن ينجو من قبضة الأمن في كل مرة. من جهتهم، أصبح الأمر متعبا جدا بالنسبة لرجال الأمن، كل يوم في متابعة هؤلاء، لكن المعالجة الأمنية ليست الحل الناجع، هي ردع من جهة، لكن لابد من إيجاد البديل لهذه الفئة الحية من المجتمع يقول عمي صالح أحد الكهول له دورة مياه على مستوى السوق الشعبي “منذ أزيد من عشرين سنة وأنا في هذا السوق الشعبي لم أسمع أن نجح أحد من الشباب من هذا الشغل، يجب على الدولة إيجاد فضاء لهذه الفئة الحية من المجتمع التي يمكن أن تقدم الكثير للبلاد، هذا الشباب الذي يتمتع بالصحة والعافية، لابد من بناء مصانع وورشات له وإدماجه مهنيا، وتوفير شروط الحياة الأولية له خاصة السكن والشغل ليباشر حياته بصفة طبيعية، هذه المهن باتت المستنقع الذي يغرق فيه الشباب كل يوم، فهي توهمه بأنه يعمل، لكن في الحقيقة هو بطال. كما أن أكبر الآفات الاجتماعية تفرخ في هذا السوق، كل شيء يباع حتى الذمم، لابد من التفاتة جادة إلى هذه الفئة من الشباب وانتشالها من الضياع، فالشاب إذا غفل يجد العمر قد تقدم به، ولا يوجد بيده شيء، هنا يقف موقفا انتقاميا من الكل، حتى من نفسه، فيغوص أكثر في عالم الجريمة والرذيلة. ولا يكتوي بناره سوى محيطه وكل أبناء المجتمع.