رغم مرور 54 سنة على إندلاع ثورة أول نوفمبر التحريرية وتحقيقها بعد سبع سنوات ونصف السنة من الكفاح المسلح الذي ضحت فيه الجزائر بمليون ونصف المليون شهيد أهدافها في الحرية والاستقلال، فإنها لاتزال في ظل تواصل الأجيال محلّ بحث وتمحيص. ومع أن الجزائر المستقلة تخوض اليوم معركة البناء والتشييد، فإن الثورة التحريرية ما تزال محلّ إستهداف وتآمر شديدين وصل إلى حدّ التشكيك في حجم تضحياتها الجسيمة، ولعل آخر حلقاته تمجيد فرنسا الرسمي للاستعمار البغيض. من جهة، والاستمرار في رفضها الإعتذار عن جرائمها بالجزائر طيلة 132 سنة من الاحتلال والإقرار بالتالي بمبدأ التعويض. فرغم أنها فرضت على ألمانيا من قبل تعويضها عن خسائرها بالحرب العالميتين الأولى والثانية، فإنها تستمر في إزدواجية معاييرها عندما تطلب تركيا بالإعتذار عن إبادة الأرض المزعومة، الأمر الذي ترفض تطبيقه بالنسبة للحالة الجزائرية. وحول هذه المواضيع وغيرها من المسائل ذات الصلة الوثيقة بالثورة التحريرية وتداعياتها اليوم، خصّ السيد السعيد عبادو الأمين العام للمنظمة الوطنية للمجاهدين جريدة ''الشعب''، بحوار شامل فيما يلي بقية نصه: نوجه نداءا لشبابنا المتعلم للبقاء إلى جانب شعبه ليفيدوا بلدهم حتى يخرج من دائرة التخلف الشعب: تكفلت الدولة من السنوات الأولى لإسترجاع السيادة الوطنية بفئة المجاهدين وذوي الحقوق، هذه الفئة التي ملأت الفراغ الذي تركه الرحيل الجماعي للمحتلين. ماهو تقييمكم لدور البناء الذي قام به المجاهدون في بناء الدولة الحديثة بعد الإستقلال؟ ولماذا لم تنعكس هذه الروح البناءة على شباب اليوم؟ ❊ السعيد عبادو: بالرغم من الظروف القاسية التي عانى منها المجاهدون وتضحياتهم خلال مواجهتهم للقوات الاستعمارية أثناء الثورة التحريرية، فإنهم بعد الاستقلال لم يترددوا في وضع القواعد الأساسية بجدارة لبناء الدولة الجزائرية على أسس صحيحة ومتينة، ورغم أن غالبيتهم لا يتوفرون على تكوين علمي وثقافي بإستثناء وطنيتهم حتى النخاع، فإنهم لم يبخلوا بأي مجهود من أجل بناء الجزائر. وبفضل عملهم هذا، أصبحت بلادنا اليوم تضمّ عددا كبيرا من المقدرات البشرية في مختلف المجالات بفضل تخطيط المجاهدين في بداية الاستقلال. ولنا الثقة فيها، ومتأكدون بأن هناك تواصل بين الأجيال، ومثلما حرر جيل أول نوفمبر الجزائر من إحتلالا دام 132 سنة، فإن الأجيال الصاعدة ستواصل دورها في بناء الدولة الجزائرية الحديثة. ولهذا نقول، إن معركة التحرير مرتبطة تماما بمعركة البناء والتشييد، ومن ثم فإن معركة التحرير لا يكون لها معنى إذا لم تنجح في معركة البناء والتشييد، لماذا لا، وقد شارك الشعب في الثورة التحريرية ليعيش حرا في نظام ديمقراطي ليستفيد من خيرات هذا الوطن. ونستغل هذه الفرصة لنوجه نداءا لجميع الإطارات وكل الشباب، خاصة الذي له تخصصات ومعارفه عالية وفي إمكانه أن يفيد البلاد حتى يخرج من دائرة التخلف أن يبقوا في الجزائر ويناضلوا إلى جانب شعبهم الذي هو في حاجة ماسة إلى جهد أبنائه البررة ليستفيد من ثقافتهم وخبرتهم. ويحزّ في نفوسنا كمجاهدين أن نرى الجزائريين من ذوي التخصصات العليا يغادرون وطنهم ونحن في أمس الحاجة إليهم، كيف لا والجزائر تسعى إلى الرقي لمصاف الدول المتقدمة، ولا نشكك في وطنية شبابنا، التي لا تقل عمن خاضوا بالأمس معركة التحرير الوطني، إننا لا ننكر بأن هناك صعوبات على أرض الواقع، لكن الواجب يفرض علينا جميعا التعاون لتذليل هذه الصعوبات، ومن ثم توفير المناخ المناسب ليقوم كل واحد بدوره، خاصة في هذه الظروف التنموية الصعبة. وإذا كان بعض شبابنا أثناء الثورة التحريرية قد فضل بدون تردد الإلتحاق بصفوف الثورة على مواصلة التعليم، فنعتقد أن هناك الكثير من الشباب اليوم الذي يفضلون البقاء في وطنهم والمساهمة في عملية بنائه وتشييده مهما كانت قساوة الظروف، التي لا يمكن مقارنتها بما عرفه شبابنا خلال الحقبة الاستعمارية الماضية. قضية الإعتراف بالمشاركة في الثورة التحريرية لا يمكن تناولها بطريقة عشوائية لا تخدم التاريخ الوطني الشعب: لقد أقفلت أبواب الإعتراف بالمجاهدين وذوي الحقوق، ومع ذلك مازالت تظهر العديد من حالات عدم الاعتراف والوضعيات اللاإنسانية المسيئة للثورة التحريرية، مما يتطلب معالجة حقيقية. هل تعتقدون بالغلق النهائي لباب الاعتراف.. أم بضرورة معالجة العديد من الحالات المطروحة، التي طالها النسيان..؟ ❊ السعيد عبادو: فيما يتعلق بالاعتراف بالمشاركة في ثورة التحرير المباركة أو تصحيح العضوية، لا يخفاكم أن هذا الأمر مرّ عليه أكثر من 45 سنة، وكانت هناك لجان مكلفة بهذا الأمر، ونتيجة لذلك حصلت الأغلبية على عضويتها في جيش التحرير الوطني أو جبهة التحرير الوطني سواء تعلق الأمر بالفدائيين أو المسبلين والدائمين ممن كانوا في السجون. من جهة أخرى، لاحظنا أن هناك بعض ممن فضلوا عدم المطالبة بهذه الشهادة، وأكدوا بأنهم ليسوا في حاجة لها لأن ظروفهم الاجتماعية جيدة أو لكونهم اعتبروا جهادهم في سبيل الله، وليسوا في حاجة إلى وثائق تثبت ذلك، لكن بعد مدة طويلة ولأسباب عديدة راحوا هم وذويهم يطالبون للاعتراف بمشاركتهم في الثورة مثلما اعتبرها البعض مسألة شرف، في حين طالب البعض الآخر بها للظروف الاجتماعية القاسية التي أصبحوا يتخبطون فيها. ونعتقد أنه في كل الأحوال ومهما كانت الأسباب فمن حق هؤلاء الحصول على حق الإعتراف بمشاركتهم في الثورة. وذلك بالرغم من المدة الطويلة والحملات المغرضة التي أثيرت حول هذا الموضوع التي هي في الواقع ليس نزيهة، ورغم ذلك، أكدنا مرارا ونكرر اليوم.. لنفترض أن هناك بعض الأخطاء في التقرير لهذه العملية التاريخية الكبرى، فنحن مستعدون لتصحيح هذه الوضعية وأبواب المنظمة الوطنية للمجاهدين مفتوحة، لكن على المطالبين بالتصحيح أن تكون لهم النية الحسنة وليس التشكيك والطعن في الثورة التحريرية، وبالتالي فكل من له إثباتات عليه التقدم لتسوية وضعيته. ومن هنا، فإنه لا يمكن لكل من هبّ ودبّ أن يتكلم عن هذا الموضوع، لأن تناوله بطريقة عشوائية لا يخدم التاريخ الوطني فالثورة التحريرية ثورة كبيرة وشرعية، اعتمدت السرية طيلة سبع سنوات ونصف السنة من الكفاح المسلح الذي كانت فيه المشاركة قوية وفعّالة والتضحيات كبيرة، ولو لا ذلك، ما كانت لتنجح ثورة أول نوفمبر، وكانت لنا خلايا سرية جدا، وكنا نعتمد شعار ''السر والكتمان أساس النجاح''. في السياق ذاته، نعترف بأن هناك عدد آخر من المواطنين والمواطنات الذين ساهموا في الثورة، لكن المسؤولين عنهم استشهدوا، ناهيك عن التغيرات الكبيرة التي حدثت لوضع بعضهم، فهناك من كانوا حركى في سنة ,1956 لكننا نجدهم في سنة 1958 قد إلتحقوا بالثورة، وعدد هؤلاء لا بأس بهم مثلما هو الشأن لعدد آخر من الجزائريين في الإدارة الاستعمارية، الذين تعاونوا معنا، ولا ننكر أنهم كانوا يقدمون معلومات إيجابية للثورة، إن معالجة هذا الموضوع يعد حساسا وليس من السهولة بمكان، إذ يتطلب من كل شخص يبحث عن شهادة العضوية أن يكون مسؤولا عنها وثبت التحقيق أهليته لها. والحقيقة أنه من السهل أن نعطي شهادة العضوية، ولكن من الصعب أن ننزعها وعليه، فإن التعامل في هذا الموضوع يكون بحكمة ورويّة لأنه يتعلق بشرف المجاهدين، ولا يخفى عليكم أن البعض يعطون معلومات بدون أن تكون لهم دراية كافية بها، مما يفسر طبيعة تصدينا لهذا الأمر، إذ أننا نتصل بكل من يتقدم بمعلومات عن تجاوزات، ونطالب بالإثباتات، وفي حالة التأكد، نأخذ الإجراءات المناسبة بدون ضجة، لأن غير ذلك لا يخدم التاريخ الجزائري. ونشيد في هذا المجال بالتعاون القائم بين المنظمة الوطنية للمجاهدين ووزارة المجاهدين فيما يخص تصحيح بعض الأخطاء الموجودة على أسس صحيحة. ونؤكد في الأخير على الاستمرار في العمل مستقبلا على ضمان حق كل مواطن شارك في الثورة التحريرية على الحصول على شهادة العضوية لأنها جزء من التاريخ الوطني ولكون نظرتنا للأمر ليس على أساس الفوائد المادية وإنما من ناحية الشرف، ذلك أنه إذا رحل المجاهدون، فإن عائلاتهم تبقى دائما تعتز بمساهمتها في حرب التحرير الوطني. نسهر بالتعاون مع وزارة المجاهدين على وضع قانون المجاهد والشهيد موضع التنفيذ الشعب: تكفلت الجزائر غداة إستقلالها بالمجاهدين وذوي الحقوق ماديا ومعنويا، إعترافا منها بجميل هذه الفئة التي ضحت بالنفس والنفيس من أجل أن تحيى بلادنا حرة كريمة. ورغم مرور 46 سنة على الاستقلال، مازالت فئة المجاهدين وذوي الحقوق يحتاجون إلى مزيد من الرعاية والحماية.. ترى ما طبيعة العمل المستمر في هذا المجال؟ ❊ السعيد عبادو: بالنسبة لحماية المجاهدين وذوي الحقوق، هناك جهود كبيرة تبذل وأخص بالذكر هنا، المنح المتعلقة بتعويض الضرر أو معاشات التقاعد أو الحقوق الأخرى، إذ نسهر بالتعاون مع وزارة المجاهدين والوزارات والمؤسسات المعنية من أجل وضع قانون المجاهد والشهيد موضوع التطبيق ونقرّ بأنه كان هناك تعطيل في صدور بعض النصوص التطبيقية لهذا القانون لأسباب اقتصادية تهم الجزائر بصورة خاصة، لكن الآن كل النصوص التطبيقية صدرت ووضعت محلّ تطبيق. كذلك هناك تحسن لا بأس به في الجانب الاجتماعي سواء بالنسبة للمجاهدين أو ذوي الحقوق، وخاصة من حيث الاهتمام بالفئات الأقل دخلا، ونحن نريد تحسين وضعية المجاهدين وعائلات الشهداء من ذوي الدخل الضعيف، وبهذا الصدد تم تحقيق تقدم ملموس في قانون المالية لسنة ,2009 وحققنا نتيجة للتعاون بين المنظمة الوطنية للمجاهدين والبرلمان تطور لا بأس به لفائدة المجاهدين ممن لهم دخل ضعيف بتحسين قيمة النقاط التي حظيت بموافقة البرلمان، وهذا ضمن الاتجاه العام لتحسين الوضعية الاجتماعية للمجاهدين والمجاهدات، ونؤكد هنا أن هذه الوضعية تحظى باهتمام خاص من قبل السيد رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، ونتابع بدورنا كمنظمة الأمر عن قرب لتحسين هذه الأوضاع. يبقى أن نشير هنا إلى المشكل الخطير الذي يواجهنا اليوم، هو الوضع الصحي، إذ هناك عدد كبير من المجاهدين والمجروحين والمعطوبين والمرضى والكهول المتقدمين في السن وكل هؤلاء يحتاجون إلى عناية واهتمام ورعاية صحية خاصة، وسنعود من أجلها للإتصال هذه الأيام بوزارة الصحة وكافة مؤسساتها، وسنعمل على تحقيق إتفاقية تصادق عليها كل من وزارتي الصحة والمجاهدين حتى يكون التكفل بموضوع الصحة في المستوى الذي يليق بهذه الفئة التي ضحت بالكثير من أجل حرية واستقلال الجزائر. وبالنسبة لعلاج المجاهدين بالمستشفيات العسكرية، فإن الاتفاقية الخاصة بذلك أعيد تعديلها، ويسير تنفيذها اليوم على أحسن ما يرام وأسجل بالمناسبة الاستقبال الجيد لجميع المجاهدين بالمستشفيات العسكرية، وبخاصة مستشفى عين النعجة، وأحيي وزارة الدفاع وكل المشرفين على الصحة العسكرية لرعايتهم فئة المجاهدين. ولا أنسى التطرق هنا للمشاكل الأخرى، وأخص منها قضايا السكن والأراضي الفلاحية، ورخص الاستفادة في جميع المجالات وأؤكد أننا نتابع الأمر عن قرب. ونأمل في هذا السياق، التنسيق مع وزارة الداخلية لتنشيط لجان الحماية على مستوى الولايات، ونشكر بالمناسبة وزير الداخلية الذي أعطى تعليمات فيما يخص قيام هذه اللجان بدورها طبقا للصلاحيات لها، وبالنسبة للفلاحة، وبناءا على المصادقة على قانون التوجيه الفلاحي والقوانين التطبيقية المنظمة له، كانت للمنظمة الوطنية للمجاهدين مساهمتها، حيث أعطت رأيها وقدمت اقتراحاتها المفيدة التي حظيت بموافقة البرلمان وذلك بحضور المجاهدين أنفسهم. وبالفعل، لقد بدأ تجسيد هذه المقترحات في الميدان، وهي لا تخص فئة المجاهدين لوحدهم، وإنما ترجع بالفائدة على جميع المواطنين والوطن، ذلك أننا نتابع التنمية وكل القضايا التي تهم الوطن وكل ما يجري فيه. علينا تفادي كل الصراعات المعرقلة لمسيرة التنمية الشعب: بصفتكم تمثلون فئة المجاهدين والمعبرين عن رصيدها النضالي المستمر في مرحلة البناء ومواجهة كافة المؤامرات التي تحاك ضد الجزائر إلى اليوم والهادفة إلى طمس هويتها وتاريخها وحريتها. ماهي كلمتكم الأخيرة إلى الشعب الجزائري في ذكرى أول نوفمبر هذه السنة..؟ ❊ السعيد عبادو: إن احتفال الشعب الجزائري بالذكرى ال 54 لأول نوفمبر 1954 معناه أيضا مرور 46 سنة على استقلال بلاده، ومن واجبنا أن نقف موقف تأمل وتقييم لما أنجزناه خلال سنوات الاستقلال، بحيث يكون هذا التقييم حقيقي وموضوعي حتى نتفادى مستقبلا كل النقائص والأخطاء، فالوقت لا يرحم والجزائر تواجه تحديات داخلية وخارجية، ونحن نتطلع إلى جزائر قوية في أمنها واقتصادها، وتتمتع دوليا بالمهكانة اللائقة بين الأمم. إن تحقيق هذا الطموح الشرعي منوط بكل الجزائريين كل من موقعه بإخلاص واتقان، ولكن نقوم في ذات الوقت بمصالحة حقيقية بين كل الجزائريين، ومن ثم نتفادى كل الصراعات التي من شأنها عرقلة مسيرة التنمية، آخذين في ذلك العبر والدروس من الظروف والمشاكل التي عشناها في السنوات الأخيرة، ولكن الجزائر اليوم بخير، لاسيما وأننا نعيش نهضة تنموية، ولا يمكن مقارنة وضعنا الحالي بما كنا عليه في التسعينيات. وعليه، فإن الجزائر لا يمكن لها إلا أن تسترجع حياتها الطبيعية ومكانتها الريادية بين الأمم، وبالتالي علينا تفادي جميع المشاكل لكي تتعزز وحدتنا الوطنية في إطار العدل والمساواة، والجزائر تتوفر على ثروات وامكانيات وطاقات بشرية تجعلها تصبح دولة قوية في مصاف الدول المتقدمة وفي مستوى تضحيات شهداء ثورة أول نوفمبر وأن دمائهم لم تذهب سدى. الريا أجرى الحوار: عبد الجليل جلالي الحلقة الثانية