عند تقييم أثر الحصار على روسيا اقتصاديا يجب الإقرار أن الضرر أمر لا يمكن إنكاره، لكن الروس لم يؤخذوا على حين غرة، بل استعدوا للمعركة الاقتصادية وهو ما تؤكده المعطيات التالية: أولا: تشير مؤسسات رصد أبعاد الحصار الاقتصادي على روسيا انه يضم (5581) بندا، أي بزيادة عن بنود الحصار قبل العمليات العسكرية (في 24 فبراير الماضي) والتي كانت 2754 بندا وازدادت 2827 بندا أي أكثر من 100%. لكن كل هذه الأبعاد بدت وكأن الروس توقعوها مسبقا، مستفيدين من تجربة العقوبات عليهم بخاصة عام 2014 اثر أزمة جزر القرم، الى جانب تجارب الحصار الاخرى على عدد من الدول، وهم يدركون أن 34% فقط هي نسبة نجاح الحصار في تحقيق أهدافه منذ 1950 وفي 188 حالة. ولعل الدول التي تتعرض حاليا لحصار تقدم أنموذجا على مستويات الفشل في تحقيق الحصار أهدافه الاستراتيجية، فإلى جانب روسيا التي يشمل الحصار عليها (5581) بندا، هناك ايران (3616) بندا وسوريا (2608) بندا وكوريا الشمالية (2077) بندا وفنزويلا (651) بندا وميانمار (510) بندا وكوبا (208) بندا، لكن السؤال الأهم هو كم من هذه الدول غيرت من سياساتها الاستراتيجية بسبب هذه الآلاف من بنود الحصار؟ ويكفي ان نتوقف أمام النموذج الايراني، فإيران تمكنت من الصمود في وجه الحصار المماثل تقريبا رغم الفارق في الإمكانيات مع روسيا. وقبل بدء العمليات العسكرية في أوكرانيا، كان عدد بنود الحصار ضد ايران يفوق عدد بنود الحصار على روسيا بسبب موضوع القرم بحوالي 862 بندا، ورغم حجم العقوبات وطول مدتها تشبث الإيرانيون بمواقفهم. ثانيا: من ثقوب العقوبات الغربية على روسيا هو استثناء المدفوعات من الخارج التي تغطي قطاع الطاقة من غاز أو بترول، فعدم شمول قطاع النفط والغاز بالحصار خوفا على الأوضاع في اوروبا بخاصة ألمانيا وبولندا وايطاليا وغيرها، فإن تأثير نظام swift سيبقى هامشيا، طالما ان هذا القطاع الحيوي معفى من الحصار على مدفوعاته، والى ان يتمكن الأوروبيون من تطوير تكنولوجيا او بدائل للطاقة الروسية فإن الأمر غير متيقن منه وقد يطول رغم القرار بتخفيض الاعتماد الى الثلث مع نهاية 2022 والوصول الى الاستقلال الطاقوي عن روسيا -اذا أمكن- مع عام 2030. ثالثا: موضوع احتياطيات النقد في البنك المركزي الروسي: وهذه تستحق الإشارة في موضوعها لجوانب ثلاثة هي: أ- أن حجم الاحتياطيات النقدية الروسية تزايد ليصل حاليا الى حوالي 630 مليار دولار وبفارق كبير عن الوضع عام 2014، مما يعني أن الآثار التي عاناها الاقتصاد الروسي في هذا الجانب أصبحت اقل قسوة وبقدر كبير عن مرحلة عقوبات معركة جزر القرم، بخاصة بعد تعافي الروبل الى قيمته تقريبا قبل بداية العملية العسكرية. ب- إن جزءا معينا من هذه الاحتياطيات هو بالذهب والبعض بعملات غير الدولار. ت- معلوم أن روسيا بدأت منذ 2014 بتقليص احتياطياتها النقدية في بعض الدول التي تتوجس منها وتحويل هذه الاحتياطيات لدول اخرى اكثر اطمئنانا لها، فمثلا خلال الفترة من 2014 الى 2021 حركت احتياطياتها بحيث خفضتها في الولاياتالمتحدة من 32% الى حوالي 8% وفي فرنسا من 33% الى 17%، وفي ألمانيا من 18 الى 13%، وزادت من هذه الاحتياطيات في الصين بمعدل 17% وفي المنظمات الدولية 4% وفي بقية الدول الأخرى غير الغربية بحوالي 11% وهي نفس النسبة في اليابان أيضا، وهو ما يجعل الضرر يتقلص بنفس نسبة الانتقال للاحتياطي.. رابعا: إن الشركات التي أعلنت انسحابها او تجميد نشاطاتها بخاصة في القطاع الاكثر أهمية وهو النفط (مثل شركات BP- Shell- Equinor -Exxon Mobil) او الشركات المالية مثل (Visa and Mastercard) ناهيك عن شركات عملاقة أخرىمثل: (Apple, Airbnb, Boeing, Google, Microsoft, Netflix, Paypal PwC, Spotify and TikTok...الخ). تواجه المخاطر في احتمال تاميم موجودات هذه الشركات في روسيا، وهو امر ناقشته اللجنة الاقتصادية في الدوما الروسي، وفي حالة حدوثة سيتم التعويض عن بعض الخسائر من اصول هذه الشركات. خامسا: إن نسبة الديون الروسية الى اجمالي الناتج المحلي الروسي هي 18% وهى الأفضل بين أغلب الدول الصناعية تقريبا، مما يجعل إعباء الوفاء بفوائد ديونها اقل ثقلا. سادسا: تزايد استخدام روسيا لبطاقات الدفع مثل MIR والتحول نحو نظام تحويلات وضعته مثل SPFS، مما يقلص من وطأة إخراجهم من نظام Swift. سابعا: تشير الخبرة التاريخية الروسية لعامي 2008 و2014 أنه في أزمة شبه جزيرة القرم عام 2014، أدت العقوبات إلى منع البنوك الغربية من تمويل عمليات كبيرة قبل التصدير للتجار الروس في السلع الأساسية، مثل روسنفت وغازبروم نفت. ومع ذلك، وجدت هذه البنوك طريقة للتغلب على ذلك من خلال توفير صفقات «الدفع المسبق» الكبيرة لتجار السلع مثل: جلينكور وفيتول، الذين قاموا بعد ذلك بإقراض الأموال في قطاع السلع الأساسية الروسي، أي ان الامر اخذ طابع الطريق الالتفافي. ثامنا: منذ أزمة القرم اخذ اغلب التجار الروس يحتفظون بمداخليهم من الدولار داخل روسيا توقعا منهم باحتمالات التضييق على حصولهم على الدولار في مرحلة لاحقة، وهو ما نشاهده الآن. تاسعا: عند التدقيق في الجهات الروسية المستهدفة من الحصار نجد ان عددها هو 2819 جهة، منهم 2453 فردا، مقابل 366 مؤسسة او شركة، مما يعني ان ثقل الحصار هو على الافراد اكثر منه على هياكل الانتاج الى حد معين. عاشرا: ان نسبة مساهمة صادرات الغاز الروسي في اجمالي دخل الموازنة الروسية هو 13%، مع ضرورة التنبه الى ان الاعتماد الاوروبي على روسيا في قطاع الطاقة ككل يبلغ حوالي 47% من الفحم و41% من الغاز و27% من النفط، فإذا علمنا ان واردات اوروبا من الغاز هو 400 مليار متر مكعب، وان معدل الواردات من روسيا هو حوالي 180 مليار متر مكعب، فهذا يعني ان على اوروبا ان تجد مصادر بديلة لتوفير 180 مليار متر مكعب، وهو امر غير ممكن حتى في حالة تخفيض الاستهلاك بنسبة عالية وزيادة الواردات من الغاز المسال (الميثان) وقدرة المنتجين الآخرين على التعويض النسبي، وهي كلها أمور يصعب تحقيقها بشكل كبير. ورغم ان النفط يمثل 25% تقريبا من الدخل الروسي، فان القدرة الاوروبية على الضغط على روسيا هي أعلى بشكل كبير من القدرة على الضغط من خلال الغاز، لكن حظر استيراد النفط الروسي سيتسبب في ارتفاع أسعار النفط بشكل يجعل بعض الدول غير الاوروبية تعمل على إفشال هذا المسعى (مثل الهند أو الصين) نظرا للتكلفة العالية التي ستترتب على هذا الحصار، ناهيك عن الالتزامات بين دول أوبك مع أوبك+ (وروسيا أبرزهم). أحد عشر: استحدثت روسيا بطاقات دفع بديلة للفيزا وغيرها، وهي الآن تغطي حوالي 30% من بطاقات الدفع في روسيا، وهو أمر لا يحل المشكلة، لكنه يخففها. ماذا يعني ذلك؟ أن انتظار تغير السياسة الروسية في أوكرانيا هو امر مستبعد بقدر كبير إذا استند هذا الانتظار الى تأثيرات الحصار الاقتصادي على روسيا، وهو ما سيدفع الى توجهات دولية قد تنطوي على تحولات جيوسياسية أولا تليها تحولات جيواستراتيجية... ربما.