رئيس الجمهورية: متمسكون بالسياسة الاجتماعية للدولة    رئيس الجمهورية يؤكد أن الجزائر تواصل مسيرتها بثبات نحو آفاق واعدة    الشروع في مراجعة اتفاق الشراكة بين الجزائر والاتحاد الأوربي السنة القادمة    المطالبة بمراجعة اتفاق 1968 مجرد شعار سياسي لأقلية متطرفة بفرنسا    تنظيم مسابقة وطنية لأحسن مرافعة في الدفع بعدم الدستورية    مراد يتحادث مع المديرة العامة للمنظمة الدولية للهجرة    صدور مرسوم المجلس الأعلى لآداب وأخلاقيات مهنة الصحفي    الكشف عن قميص "الخضر" الجديد    محلات الأكل وراء معظم حالات التسمم    المعارض ستسمح لنا بإبراز قدراتنا الإنتاجية وفتح آفاق للتصدير    انطلاق الطبعة 2 لحملة التنظيف الكبرى للجزائر العاصمة    عدم شرعية الاتفاقيات التجارية المبرمة مع المغرب.. الجزائر ترحب بقرارات محكمة العدل الأوروبية    رئيس الجمهورية: الحوار الوطني سيكون نهاية 2025 وبداية 2026    ماكرون يدعو إلى الكف عن تسليم الأسلحة لإسرائيل..استهداف مدينة صفد ومستوطنة دان بصواريخ حزب الله    العدوان الصهيوني على غزة: وقفة تضامنية لحركة البناء الوطني لإحياء صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته    مهرجان وهران الدولي للفيلم العربي: فيلم "ميسي بغداد" يفتتح المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة    للحكواتي الجزائري صديق ماحي..سلسلة من الحكايات الشعبية لاستعادة بطولات أبطال المقاومة    البليدة..ضرورة رفع درجة الوعي بسرطان الثدي    سوق أهراس : الشروع في إنجاز مشاريع لحماية المدن من خطر الفيضانات    مهرجان وهران الدولي للفيلم العربي يعود بعد 6 سنوات من الغياب.. الفيلم الروائي الجزائري "عين لحجر" يفتتح الطبعة ال12    الجمعية الدولية لأصدقاء الثورة الجزائرية : ندوة عن السينما ودورها في التعريف بالثورة التحريرية    رئيس جمهورية التوغو يهنئ رئيس الجمهورية على انتخابه لعهدة ثانية    بيتكوفيتش يعلن القائمة النهائية المعنية بمواجهتي توغو : استدعاء إبراهيم مازا لأول مرة ..عودة بوعناني وغياب بلايلي    الرابطة الثانية هواة (مجموعة وسط-شرق): مستقبل الرويسات يواصل الزحف، مولودية قسنطينة ونجم التلاغمة في المطاردة    اثر التعادل الأخير أمام أولمبي الشلف.. إدارة مولودية وهران تفسخ عقد المدرب بوزيدي بالتراضي    تيميمون: التأكيد على أهمية التعريف بإسهامات علماء الجزائر على المستوى العالمي    بداري يعاين بالمدية أول كاشف لحرائق الغابات عن بعد    حوادث المرور: وفاة 4 أشخاص وإصابة 414 آخرين بجروح خلال ال48 ساعة الأخيرة    العدوان الصهيوني على غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء في قطاع غزة إلى 41825 شهيدا    بلمهدي يشرف على إطلاق بوابة الخدمات الإلكترونية    لبنان تحت قصف العُدوان    البنك الدولي يشيد بالتحسّن الكبير    شنقريحة يلتقي وزير الدفاع الإيطالي    يوم إعلامي لمرافقة المرأة الماكثة في البيت    إحداث جائزة الرئيس للباحث المُبتكر    أسماء بنت يزيد.. الصحابية المجاهدة    دفتيريا وملاريا سايحي يشدد على ضرورة تلقيح كل القاطنين    الأمم المتحدة: نعمل "بشكل ثابت" لتهدئة الأوضاع الراهنة في لبنان وفلسطين    سايحي: الشروع قريبا في تجهيز مستشفى 60 سرير بولاية إن قزام    الجزائر حاضرة في مؤتمر عمان    طبّي يؤكّد أهمية التكوين    استئناف نشاط محطة الحامة    بوغالي يشارك في تنصيب رئيسة المكسيك    افتتاح الطبعة ال12 لمهرجان وهران الدولي للفيلم العربي    الرابطة الثانية هواة (مجموعة وسط-شرق): مستقبل الرويسات يواصل الزحف, مولودية قسنطينة و نجم التلاغمة في المطاردة    صحة: تزويد المستشفيات بمخزون كبير من أدوية الملاريا تحسبا لأي طارئ    رابطة أبطال إفريقيا (مرحلة المجموعات-القرعة): مولودية الجزائر في المستوى الرابع و شباب بلوزداد في الثاني    الجزائر-البنك الدولي: الجزائر ملتزمة ببرنامج إصلاحات لتعزيز التنمية الاقتصادية المستدامة والشاملة    ديدوش يدعو المتعاملين المحليين للمساهمة في إنجاح موسم السياحة الصحراوية 2025/2024    سايحي يشدد على ضرورة تلقيح كل قاطني المناطق التي شهدت حالات دفتيريا وملاريا بالجنوب    محارم المرأة بالعدّ والتحديد    حالات دفتيريا وملاريا ببعض ولايات الجنوب: الفرق الطبية للحماية المدنية تواصل عملية التلقيح    كأس افريقيا 2025: بيتكوفيتش يكشف عن قائمة ال26 لاعبا تحسبا للمواجهة المزدوجة مع الطوغو    توافد جمهور شبابي متعطش لمشاهدة نجوم المهرجان    هذا جديد سلطة حماية المعطيات    خطيب المسجد النبوي: احفظوا ألسنتكم وأحسنوا الرفق    حق الله على العباد، وحق العباد على الله    عقوبة انتشار المعاصي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



باقة الزُّهور في تاريخ «قاع السور» وما جاوره من فحص باب الوادي المنصور
نشر في الشعب يوم 08 - 06 - 2022

لو نطق شاطئ «قَاعْ السُّورْ» لِيحدّثَنا عن أوجاعه، وعمّا وقع به وحواليه عبْر آلاف السنين لَمَا وَجَدَ أفضلَ ممّا قاله الحاج مْحمَّد العنقاء في رائعته «الحْمَامْ اللِّي رَبِّيتُه مْشَى عْلِيَّ» متألِّمًا:
لُو نْعيدْ هْمومي نْعَمَّرْ آلْفَ كْتَابْ ...لو نْعِيدْ مْحَنِي للْعَالْمِينْ يَبْكِيو
لُو نْعِيدْ هْمُومِي لِلْبَحْرْ يْصِيرْ غَلاَّبْ...لو نْعِيدْ مْحَنِي لِلْبَاكْمِينْ يَدْوِيوْ
لُو نْعِيدْ هْمُومِي لِلْحْجَرْ يْرُدّْ الجْوَابْ...لو نْعِيدْ مْحَنِي لِلْجْبَالْ بْصَوْتْ يَلْغِيوْ
لكن، لِ: «قاع السّور» أمجاد أيضا وملاحم وذكريات جميلة كثيرة تُغطي على مِحَنِهِ ومآسيه والدِّماء الكثيرة التي سالتْ على رِماله، ومحَتْها أمواجُ البحر الهادِرة قبل أن تخذلَها لاحقًا الذَّاكرَة...
هذا الشّاطئ التاريخي شَهد قدومَ أوّل الزّوارق الشراعية الفينيقية وهي تُرسي بين ثلاث صخور كبيرة على مرْمى حجر من اليابسة لِتتموَّن بالماء العذب والمُؤنِ الغذائية التي كانت تزْخَرُ بها مدينةُ «إيكُوزِيمْ»، كما كانتْ تُسمَّى آنذاك «بهجة» سيدي عبد الرحمن الثعالبي. واستقبل مُكرَهًا السُّفنَ العسكرية الغازية الرُّومانية والبيزنطية التي كانت تُنزِلُ الجنودَ المدجَّجين بالسلاح على أرض «إيكُوزْيُومْ»، وهو اسمُها الجديد بعد رَوْمَنَةِ اسمها الفينيقي، وتأخذ معها أكياس القمح والزيتون والعسل والصوف إلى بلاد هِرَقْل (Hercule) «عظيم الروم» وإلى مخازن ملوك بيزنطة...وذلك قبل أن يَزُورَه لاحقًا البحّارةُ والفاتِحون المسلمون حاملين معهم قِيَمًا روحيةً كونية وبُذورَ حضارة بشرية جديدة وواعدة غيَّرتْ المنطقة الشمال الإفريقية وما بَعْدَهَا تغييرًا جذريًا...
لو نطق «قاع السور» لَوَفَّرَ لنا من المعلومات والأخبار ما لم يُوَفِّرْهُ الباحثون والمؤرخون عن وصول المسلمين الأوائل واللاجئين من بعدهم من اضطرابات المشرق السياسية والمذهبية إلى مدينة الجزائر، «جزائر الغرب»، وكذلك بني مَزْغَنَّة والثَّعَالِبَة المَعْقَلِيِّين لاحقًا ثم اللاجئين الأندلسيين في السُّفن وفي قوارب الموت البائسة الذين أرسوا مراكبهم على ساحل «جزائر بني مَزْغَنَّة» في ظروفٍ قاسية قبل وبعد سقوط مملكة غرناطة الإسلامية، آخر معاقل المسلمين في شبه الجزيرة الإيبيرية، في عام 1492م.
كان انهيار هذه الأخيرة بدايةً معاناة طويلة لهذا الشاطئ الصغير، ذي ال: 200 إلى 300 متر من الطول، الذي وَجَدَ نفسَه فريسةً للتحولات الجيوسياسية في البحر الأبيض المتوسط ومَا نَجم عنها من تمددٍ للنفوذ الإقليمي الإسباني الكاثوليكي الذي مارَستْهُ إشبيلية مُستعينةً برجال الكنيسة الحاقدين كالكاردينال فرانسيسكو خِيمِينِيثْ دِي ثِيسْنِيرُوسْ (Francisco Jiménez de Cisnéros) وقادة أساطيلها البحرية العظيمة كأَنْدْرِي دُورْيَا (Andre Doria) ودْيِيغُو دِي بِيرَا (Diego de Vera) وأُوغُو دِي مُونْكَادَا (Hugo de Moncada) الذين لم يَسْلِمْ هذا الشاطئ، المتاخِم للسور الشمالي الشرقي لِجزائر بني مزغنة من جهة باب الوادي، مِن عدوانيتِهم الشَّرسة وسَطْوتِهم، ولاَ سَلِم منها فَحْصُ باب الوادي ذاتُه وسكانُه ووَرَشَاتُه الصِّناعِيَة ومقابرُه وأضْرِحتُه قبل أن يَضعَهم المجاهدون من أهل البلد والمتطوِّعون العثمانيون عند حدِّهم إلى الأبد...
«قاع السور»، الذي تَحَوَّلَ طيلة عقود طويلة، بعد استقلال البلاد، إلى «مَحْشَاشَة» في الهواء الطَّلْق، تجتمع فيها ليلاً ونهارًا فِئةٌ من الصّيادين والهامِشيين من أبناء «القاعْ والباعْ» حول قاروراتِ الجَعَّة وال: «الرُّوجْ» وحَفنة من الزيتون «كَاسِي» (المفروم) وشعارهم في هذه البقعة البعيدة عن الأنظار «اسْقِنِي خمرًا وقلْ لي هي الخَمْرُ ولا تسْقني سِرًّا إذا أمكنَ الجَهْرُ»، كان في أيام عزِّه ورْشةً لِصناعة القوارِب والسُّفن في بدايات الحقبة العثمانية. وكان أيضا بقعةً شديدة الحساسية من الناحية العسكرية احتَضَنَتْ منشأةً دِفاعية عن المدينة مُجهَّزة بالمدافع النُّحاسية والبْرونزية لِردِّ الاعتداءات القادمة من الشمال من جهة «بُولُوغِينْ» و»مَرْسَى الذّبَّان» المعروف حاليًا ب: «لاَ بْوَانْتْ بِيسْكَادْ» (La pointe Pescade) أو «الرَّايِسْ حَمِّيدُو». وضمَّ محيط هذه المنشأة العسكرية حينذاك حَيًّا كاملاً يَسْكنُه رِيَّاسُ البحر والمجاهدون المرابطون على مدار العام في هذه البقعة من المدينة المحاذية لِمصْنَع المَدافع الشهير المعروف آنذاك ب: «دَار النّحاس» التي كان موقعها بمحاذاة مدرسة مالك بن نبي الحالية في حَوْمَة ال: «زُوجْ عْيُونْ»...ومِن هذا المرَكَّب العسكري الصغير، الذي كان «بُرْج الزُّوبْيَة» أو «البُرْج الجْدِيدْ» بِمَدَافِعِه المُصَوَّبة إلى البحر بأنيابٍ مكشَّرة عمودَه الفقري، ومن هذا الحيّ العتيق الأقدم بكثير من الحقبة العثمانية، لم يبقَ اليوم إلا مَا يُعرَف ب: «قصر الرِّيّاس»...
شَهد «قاع السور» أيضا توالي 101 من البِيْلَرْبَايَات والباشَوات والآغَوات والدَّايَات الذين توالوا على حُكم البلاد خلال العهد العثماني. وتابع بمرارة الانقلابات العسكرية/السياسية بقصر «الجُنَيْنَة» المقر الرسمي لحكام البلاد منذ سالم التومي ثم عرّوج وخير الدين بربروس حتى الداي حُسين بن علي آخر دايات الجزائر. كما شهد فرارَ المُطاح بهم سرًّا الواحد تلو الآخر من الميناء المجاور له للنجاة بالنفس وأحيانا عبْر النَّفَق السِّرِّيِّ الذي كان يربط القصر مُباشرةً بالمَرْسَى تحت أرض ما يُسمى اليوم ب: ساحة الشهداء...كما عرَف «قاع السور» سيدي إبراهيم البحري السَّلاَمِي وسيدي عبد الرحمن الثعالبي وسيدي أحمد بن عبد الله الزّوَاوِي وسيدي الجُودِي وسيدي علي الفاسي وسيدي عمَّار التّنسِي وسيدي هْلال وسيدي بوقْدُور وسيد بن علي وسيدي مْحمَّد الشريف القرطبي الأندلسي وغيرهم من نُخبة المدينة وعلمائها وأوليائها الصالحين، فضلاً عن معايَشته ل: 5 جمهوريات فرنسية منذ احتلال البلاد حتى استقلالها، بين 1830م و1962م...ولا شك أن هذا الشاطئ الوقور الشهير ب: «قاع السُّور» يَعرِف ما لا نَعرِفُ إلى اليوم عن أسرار المدينة العاصِمة وأهلِها وأخيارها وأشرارها...
في الساحة أعْلاه، المحاذية لباب المدينة الشمالي الشهير ب: «باب الوادي» والتي تحتضن اليوم ثانوية الأمير عبد القادر الجزائري والمديرية العامة للأمن الوطني وأطرافهما، تَابَعَ هذا الشاطئ التاريخي طيلةَ قرون الاستعراضات العسكرية والاحتفالات الضخمة والمهرجانات الشعبية التي كان يَحضرُها في أجواء بهيجة سُكانُ «المحرُوسة بالله» إلى جانب الباشواتُ وكبار أعوانهم الإداريين ورجال القوات المسلحة الجزائرية مِن آغَوَات وقَبَاطِنَة ورِيَّاس البحر. وكان مِن أجمل لحظات هذه الاحتفالات وأكثرها مُتعةً تلك التي كانت تنطق خلالها الفِرقُ الموسيقية العسكرية بألحانها وتُضرَب فيها الطُّبول على أنغام الغَيْطَة مِن طرف الجوقة الرَّسمية، مثلما يجري عندنا اليوم مع جوْقة قوات الحرس الجمهوري، وهي التقاليد التي تَعَلَّمَهَا العالَم الحديث بأسْرِه من القوات العثمانية، بالإضافة إلى الألعاب الشعبية، كالمُبارَزة والألعاب البهلوانية التي كان يؤديها الفُرْسَانُ مُرفَقِينَ بخيولهم، في الأعياد الدينية والمناسبات السياسية القومية...
«قاع السور»، الذي اختُزِل في مراحل من تاريخه، لاسيما بعد سنة 1830م، في تَحَوُّلِه إلى حمَّام في الهواء الطلق لِاغتسال الحمير وخيول المدينة حتى أصبح لِفترةٍ طويلة وإلى وقتٍ قريب يشتهر بتسمية «رْمِيلَة الأعْوَاد»، أيْ الشاطئ الرَّمْلِي الصغير الخاص بالخيول، شاهِدٌ على كلِّ ذلك الزَّخم التاريخي الكبير الذي كانت أصداؤه تصل كل بلدان العالم، وإن لم يَعدْ اليوم معروفًا بعد انقطاع سلسلة التواصل المعرفي/الثقافي تدريجيا بين أجيال ما قبل الاحتلال الفرنسي والأجيال التي أتتْ بَعْدَهُ، والتي لم تَنجحْ الجزائر بَعْد في تضميد الجراح العميقة الناجمة عنه والتي تَجِد صعوبةً في الالتئام ما دام هناك مَن يَعمل على إبقائها مفتوحة وعلى العودة بالتاريخ إلى الوراء...
الأوقات الصّعبة...
«قاع السور» في مواجهة الجيوش الإسبانية
كان يوم 29 مايو من العام 1510م يومًا قاسيا وحزينا في ذاكرة «قاع السور»، حيث شاهد صخرةَ «السّْطُفْلَة» المقابلِة تسقط بين أيدي القائد الإسباني بِيدْرُو نَابَارُو (Pedro Navarro) ليؤسّس فوقها حصنًا عُرف بِلُغَةِ سِيرْفَانْتِيسْ (Cervantes) ب: El Peñon (ال: بِنْيُونْ) (أي الصّخرة)، والذي ستُحْكِم الإمبراطوريةُ الإسبانية، انطلاقًا منه، سيطرتَها ليس فقط على المرفأ الطبيعي للبلدة وساحلِها، بما فيه «قاع السّور»، وإنما على كل المدينة التي لم يَجِدْ حُكَّامُها الثَّعالِبَة ما يفعلونه، لِضعْفِهم، إلا الركوع و»التطبيع» والخضوع...وقد جاءت هذه المأساة في سياق الحرب الصليبية الاستعمارية التي شّنَّتْها إسبانيا، بتعاونٍ أوروبي/بابوي سياسي/عسكري وديني، على الجزائر وكل ساحل المغرب الإسلامي سَمَحَتْ لهذه الإمبراطورية الكاثوليكية الصاعدة بوضع يدها على العديد من المُدُن التي حَوَّلتْهَا إلى مستعمراتٍ وقواعد عسكرية، بما فيها حصن ال: «بنيون» الذي، رغم كل ما فعله المحتلون للاحتفاظ به والتوسع إلى أبعد منه، حَرَّرَهُ الرِّجال بعد نحو عقديْن من الزمن في يوم جمعة في 27 مايو من العام 1529م. فأتى الخلاص، بالتالي، لِصخرة «السّْطُفْلَة» ول: «قاع السور» ولكل المدينة الصغيرة على يد المجاهدين الذين كان يقودهم «يعْقُوبْ أوُغْلُو خِذْرْ» الشهير ب: خير الدين بربروس حسب الاسم الشرفي الذي أعطاه إيّاه السلطان العثماني سليمان القانوني.
غير أنّ التَّحرير سبقتْهُ محاولات إنزالٍ عسكري لآلاف الجنود الإسبان، بأمرٍ من إمبراطورهم، على شاطئ «قاع السور»، وكل ساحل باب الوادي بِغرض احتلال المدينة وإبعاد النفوذ العثماني عن المنطقة المَغاربية وأيضًا فكّ الحصار الشديد الذي فرضه الأخوان العثمانيان عرّوج وخير الدين على عسْكَر حِصن ال: «بنيون» حتى أن المؤن الغذائية، والماء بشكل خاص، لم تعد تصلهم من المدينة مثلما كان يحدث في عهد حاكمها السابق سالم التومي، وإنما اضطروا بسبب الحصار لاستجلابها مِن جزر البَالِيَارْ الإسبانية بحماية الأسطول البحري الإمبراطوري، كما تشهد على ذلك المراسلات المحفوظة في الأرشيف الإسباني إلى اليوم. وهكذا، «كان الأتراك وأندلسيو (المُورْ) مدينة الجزائر يحرسون العيون بحذر شديد جعل حامية البِنْيُونْ والسُّفن غير قادرة على التموُّن بالماء على هذا الساحل كما كان يحدث في السابق حيث أصبح يتعيّن جلبُه من مايُورْكَا !»، يقول العسكري الكاتب الفرنسي آدْرْيَانْ بِيرْبْرُوجِي (Adrian Berbrugger) في كتابه Le Pégnon d'Alger («بنيون» مدينة الجزائر)، حتى اضطر قائد هذه الحامية والحصن نِيكُولاَوْ كِينْتْ (Nicolao Quint) في بداية شهر أغسطس 1516م، عندما أصبحت حياة رجاله لا تُطاق، بل في خطر مُمِيت، إلى «...الذهاب بنفسه إلى مَايُورْكَا لِيأتيهم به وبالخبز الجافّ (Biscuit) وأغذية أخرى...»، يُضيف بِيرْبْرُوجِي، لإنقاذهم من الجوع والعطش. وحتى أسلحتهم وذخيرتهم الحربية قَلّتْ، كما انهارتْ معنوياتهم إلى حد التفكير في تَرْكِ الحِصن والاستسلام تقول رسائل من الأرشيف الإسباني تَعُودُ لِضُبّاط وجُنود كانوا مُحَاصَرين في ذلك الشّهر الصَّعب داخلَ الحِصن على غرار العسكرييْن كَارْبيُو (Carpio) وخْوان دي تُطيلة (Juan de Tudela)...
أمام هذه الصّعوبات والمخاطر على الإسبان المُحْتَمِين في حِصن ال: «بنيون»، ترسّختْ لدى الإمبراطور الإسباني ورجالِه فكرةُ ضرورة القيام بعملية عسكرية لحل هذه الإشكالية بشكل حاسم وراديكالي.
على طول ساحل باب الوادي، من «قاع السور» إلى ما بعده، رَستْ، بين يوميْ 30 أيلول/سبتمبر و02 أكتوبر/تشرين الأول من عام 1516م، قرابة 40 سفينة إسبانية حاملةً على متنها نحو 8 آلاف جندي بقيادة دْييغو دي بيرا، أحد أبرز قادة ورجال الإمبراطور الإسباني، كان من بينهم ألُونْسُو بن يَغَّشْ (Alonso Vanegas) الغرناطيُّ الأندلسي المُتَنَصِّر بعد سُقوط غرناطة كقائدٍ لإحدى السفن الغازِيَة. ونظرا لاعتماد الإستراتيجية العسكرية الجزائرية بقيادة عروج بن يعقوب على التحصُّن داخل أسوار المدينة في بداية المعركة، نَجَحَتْ القواتُ المعتدية في إنزال رجالها وعتادها دون مقاومة تُذْكَر، لتتوجّه بعد ساعات إلى أسوار المدينة الشمالية مُنتشرةً على طول البقعة الجبلية الممتدة من شاطئ البحر و»قصر الرّياس» الذي نَعرِف اليوم إلى غاية حَوْمَة سيدي رمضان في الأعلى على مقربة من سِجْن «سرْكاجي» المحاذي لِحوْمة الباب الجديد...
ما كان أحد يتصوّر حينها، بما في ذلك داخل المدينة المحاصَرة، أنّ أهل «الجزاير»، لِضعف قواتهم وتواضع إمكانياتهم وعددهم القليل، كانوا قادرين على الصّمود وردّ الهجوم. لكن عروج فاجأ الجميع بدهائه حيث تَمكَّنَ بخبرته وذكائه العسكري من اكتشاف نقاط ضُعْفِ القوات الإسبانية، التي كان قائدُها مُعتدًا بقدراتها وبخبْرته الشخصية وواثقا، بل مُتيَقِّنًا، من النصر مسبقًا. نجح عرّوج، مع ذلك، باعتماده إستراتيجيةَ حربٍ غيرَ متناظِرة تقوم على الكرِّ المباغت والفرّ، في اقتناص الفُرَص للانقضاض، على المعتدين وتغيير الوضع على الأرض رأسًا على عقب، مؤكدا صِحّة المثل الشعبي الجزائري القائل «العُودْ اللِّي تَحْقْرُه يَعْمِيكْ» الذي كان القائد دْيِيغُو دِي بِيرَا، دون شك، يجهله...
هنا، خرج عروج وقواته «...فتبعه كافّة عسْكره، وفَتَحُوا أبوابَ المدينة، وكبَّروا تكبيرةً واحدة، وهَجَمُوا...»، يقول ابن رقيَّة التلمساني في كِتابه «الزّهرة النائرة في ما جرى للجزائر حين أغارتْ عليها جنودُ الكَفَرة»، بالهجمات المعاكِسة الخاطفة، حتى انقلب السّحر على الساحر ووقعتْ الكارثة في صفوف القوات الإسبانية، لاسيّما بعد هبوب عاصفة هوجاء لم تتركْ للإسبان سوى خيار الانسحاب، بل الفرار والنجاة بالنفس بأقلّ ما يمكن من الأضرار.
كانت الخسائر كارثية حيث تتحدّث المصادر التاريخية عن مقتل 3 آلاف إسباني ووقوع نحو 1500 منهم في أَسْر القوات الجزائرية وتحطُّم نصف أسطول المعتدين الذي ابتلعته أمواج البحر الهائج بسبب العاصفة...وكانت هذه الهزيمة المُهينة على شاطئ «قاع السور» وساحل باب الوادي ضربة قاتلة لكل من المشروع الإمبريالي الإسباني ومشوار القائد العسكري الكبير دْيِيغُو دِي بِيرَا الذي انهارتْ الثقة فيه في القصر الملكي بإسبانيا وتراجعتْ سُمعتُه وشعبيتُه في كامل البلاد، بعد أن كان بطلا قوميا، وتمّ إقصاؤه وتهميشُه على مدى أجيال مِن الذاكرة المكتوبة واستبعادُه من الكتابات التاريخية الإسبانية باستثناء بعض الإشارات المقتضَبة النادرة...
على أرض «المحروسة بالله»...خير الدين بربروس يَقهر القائد الإسباني أُوغُو دِي مُونْكَادَا
مع ذلك، لم تياس السلطات الإسبانية، وبعد مرور نحو عاميْن على هذه الكارثة العسكرية، جاء في 17 أغسطس من العام 1518م القائد العسكري الكبير أُوغُو دِي مُونْكَادَا، «الأشجع» والأقوى والأكثر حنكة، حسب الكاتب الإسباني المعاصر لهذه الأحداث فْرَانْسِيسْكُو لُوبِيثْ دِي غُمَارَه (Francisco Lopez de Gomara)، على رأس جيش كبير يفوق عدد رجاله 5000 عسكري، أو 20 ألفا إذا أخذنا بأقوال ابن رقية التلمساني، متمرِّس وذي خبرة
يتشكل من شجعان القوات الإمبراطورية الإسبانية، يقول كل من فرانسِيسْكو لُوبيزْ دِي غُمَارَه
سابق الذِّكْر ودْيِيغُو دِي هَايِيدُو الأسير السابق في مدينة الجزائر في نهاية القرن 16م.
وهكذا، بعد الإنزال الإسباني عَصْر يوم 17 أغسطس 1518م على شاطئ فحص باب عَزُّون، وَجَدَ شاطئُ «قاع السور» هو الآخر، وما فوقه من فحص باب الوادي، نفسَه مجددا في قلب الإعصار كميدانٍ لِمعركة شرسة ومصيرية بين قوات الإمبراطور شارل الخامس والجيش الجزائري/العثماني بقيادة خير الدين بربروس الذي كان، قبل أشهر قليلة، قد فقد شقيقه عروج الذي استشهد خلال محاولته تحرير تلمسان من قبضة النفوذ الإسباني. وكان القائد الإسباني دِي مُونْكَادَا وإمبراطورُه يعتقدان أن خير الدين لن يكون على قدر التحدي مثلما كان شقيقُه الرَّاحل عروج وأن النصر سيكون لا محالة حليفَهما.
غير أنّ الهزيمة التي تأكدتْ بشكل قاطع يوم 24 أغسطس، كذَّبتْ هذه الحسابات وكانت هذه المرة أثقل وأكثر إهانة من سابقتها قبل عاميْن في عهد دْيِيغُو دِي بِيرَا بل كانت كارثة كبيرة بكل المقاييس وبخسائر فادحة رغم تفوُّق الإسبان عددًا وعدةً.
في هذه المعركة، كان القتال شرسًا بعد خروج خير الدين والقوات الجزائرية من المدينة، التي لم يتركوا لحراستها أكثر من 300 مجاهد، يقول صاحب «الزهرة النائرة « ابن رقية التلمساني، لِملاقاة الإسبان، الذين كان قائدهم دِي مُونْكَادَا يُدِيرُ المعركةَ مِن تلة «كُدْيَة الصَّابُون» في حَوْمَة الثَّغْرِيِّين (Tagarins) مثلما فعل الإمبراطور شارل الخامس بعده سنة 1541م، وأمْعَنُوا في قتلهم في التلال المجاورة من جهة باب الوادي ومحيط شاطئ «قاع السور» كما من جهة باب عَزُّون و»السُّور والسّْتَارَة» (سُوسْطَارَة)، حيث بدأت تدريجيًا تنكسر خطوط العدو وتنهار وسرعان ما شاعتْ الفوضى والهلع في صفوفه إلى درجة أن القائد دِي مُونْكَادَا قرَّر الانسحابَ الفوري كسابِقِهِ دِي بِيرَا تاركًا خلْفَهُ عددا كبيرا من جنوده، حسب شهادة قائد حصن البنيون نِيكُولاَوْ كِينْتْ في تقاريره الرسمية إلى سلطات بلاده. ولَمَّا تزامَنَ الانسحابُ مع هبوب عاصفة هوجاء، فإن هذه الأخيرة زادت الطينَ بلّة وأفشَلَتْ عمليةَ الهروب حيث حطَّمتْ جزءًا كبيرا من سُفن الإسبان وألقتْ بها الأمواج حُطامًا على ساحل المدينة، التي بَدَتْ لحظَتَها وكأنها فعلاً «محروسة بالله»، وقدَّمَتْ على طبق من ذَهَب المقاتلين الإسبان الذين كانوا على متنها، أو على ما تبَقَّى من حُطامها، للقوات الجزائرية التي قَتَلَتْ وأَسَرَتْ منهم أعدادا كبيرة...
انهيار الأحلام الاستعمارية الإسبانية في شمال إفريقيا
كان هذا الفشل الجديد عند أسوار مدينة سيدي عبد الرحمن الثعالبي، بعد نجاح الأسطول الإسباني في البداية في إنزال قواته وآلياته بسلام، هزيمة مُدوِّية مُخجلة بَهدلتْ الإمبراطورية الإسبانية أكثر من سابقتِها لنوعية مقاتليها في هذه المعركة الذين كانوا ذوي خبرة عالية بساحات المعارك ولِحنكَة قائدهم وأيضًأ لأسلحتهم التي كانت من أَحْدَث وأقوَى الأسلحة في العالم حينذاك. لكل ذلك، اختار التاريخ الإسباني أن يسكتَ عنها، ولا يوليها ما يليق بها من الاهتمام يقول الفرنسي آدْرْيَانْ بِيرْبْرُوجِي في كِتابه Le Pégnon d'Alger بِنْيونْ مدينة الجزائر الصادر في مدينة الجزائر سنة 1860م.
حسب هذا الأخير، هَبَّتْ عاصفةٌ هوجاء خلال عملية الانسحاب الإسباني مثلما حدث مع قوات دْيِيغُو دِي بِيرَا، وتسببتْ في تَحَطُّمِ «26 سفينة كبيرة»، يُضيف بِيرْبْرُوجِي، فضلاً عن المراكب الصغيرة، وقد اكتشف القائد دِي مُونْكَادَا بأسًى في اليوم الموالي لبداية الانسحاب أن عددًا كبيرا من قادته وعسْكره قد غرقوا أثناء العاصفة وابتلعهم البحر قبالة ساحل فحص باب الوادي ونظيره بفحص باب عزون وما بعدهما...
بهاتين الهزيمتيْن القاسيتيْن، ثم الثالثة التي جرت لاحقًا في نهاية أكتوبر/تشرين الأول 1541م عندما قاد الإمبراطور شارل الخامس بِنفسه مئات السفن، ونحو 40 ألف عسكري لحسم الملف الجزائري وتحقيق ما فشل فيه كبار ضباطه، توقّف المدُّ الإسباني نهائيًا في المنطقة بعد أن كان الاستيلاء على الجزائر وفقًا لإستراتيجية الإمبراطور الجيوسياسية بوّابة السيطرة على كامل إفريقيا الشمالية وما بعدها.
بعد 5 قرون…ما يجب معرفتُه على من يريد أن يزور«قاع السُّور» وحِصن ال: «بِنْيونْ»
بعد مرور أكثر من 500 عام على هذه الأحداث الصعبة التي عاشتْها البلادُ ومدينتُها «المحروسة بالله» وشاطئها العتيق «قاع السور» وكل الساحل القريب، لم تحتفظ الذاكرة الجماعية في الجزائر، لأسباب مرتبطة بالاستعمار وبِتجاذبات أبنائها في ما بعد حقبة الاستعمار، إلا بالقليل من فصول هذه التجربة المريرة. ولا شك أن إعادة بعثِها يمرُّ بإعادة بعث تاريخ «قاع السور» ذاته ومحيطه الممْتد من رِماله وصخوره إلى قصور رياس البحر المطلة عليه، التي ما زالت شامخة، والبقعة التي احتضنتْ حصن ال: «بِنْيُونْ» والمعارك التي دارتْ بسببه ودماء الرجال والنساء التي سالت قرابين من أجل التخلص منه ومن هيمنة الذين أقاموه بعد أن فرضوه بالقوة على سالم التومي سنة 1510م.
موقع ال: «بنيون» اليوم، للذين قد يرغبون في تفقده ولو مِن بعيد، مِن شارع البحرية المقابل له بمحاذاة «الجامع الكبير» لأنّه أصبح قاعدة عسكرية للجيش الجزائري لا يدخلها االمدَنيون، هو ذلك الجزء من المرْسى القديم الموازي لساحل ساحة الشهداء و»قاع السور» والذي يَضُمُّ «بُرْجَ الفْنَارْ» وكلاًّ مِن «بُرج القُومَانْ» و»بُرج رَأسْ عَمّارْ الصّْغِيرْ» و»بُرج رَأسْ عَمَّارْ الكْبِيرْ» و»بُرج مَا بَيْنْ»، بالإضافة إلى ضريح سيدي ابراهيم البحري السَّلاَمِي، نسبةً إلى بغداد الشهيرة ب: «دار السَّلاَم»، الذي قضى شهيدًا في تلك المعارك مع الإسبان في تلك السنوات الصعبة من بداية القرن 16م. وللذين لا يعرفونه، فإنّ سيدي ابراهيم البحري كان عالمًا من علماء البلاد ترك ذريةً كثيرة في منطقة بُوسْعَادَة وفي غيرها من الأقاليم الجزائرية، من بينها عدد هام من العلماء، وكان صديقا قديما لِمؤسس الدولة الجزائرية الحديثة، بمعية شقيقه عرّوج، قبل القائد الكبير الأمير عبد القادر الجزائري، أسد البحار العثماني/الجزائري خير الدين بَرْبَرُوسَه (Barbarossa).
لكن، بالمناسبة، لِماذا يُسمَّى «بَرْبَرُوسَة»..؟ كل المصادر تقول إن هذا اللقب جاء نِسبةً إلى لَحيته (Barba) الكثيفة الشقراء، حسب الصيغة الإسبانية لهذا اللَّقَبِ Barbarroja (بَرْبَرُوخَة)، ومعناها اللحية الحَمراء. وقد رَاجَ هذا اللقب، بتبايناتٍ طفيفة، في كامل أوروبا والعالَم آنذاك انطلاقًا من الإمبراطورية الإسبانية التي كانت صُرَّةَ العالم التي جَعلتْ الأممَ المسيحية تعيد اكتشافَ الدُّنيا، خلال تلك الحقبة، بأعيُنها ووفقًا لِمفاهيمها ورُؤاها كما يَحدُثُ اليوم مع الولايات المتحدة الأمريكية. ومِن «برْبَرُوخَة» الإسبانية، تحوَّل هذا اللقبُ في إيطاليا ودول أخرى إلى «بَرْبَرُوسَة» (Barbarossa) قبل أن يُصبح في فرنسا «بَرْبَرُوسْ» (Barberousse) المُعتمَدة في الجزائر المعاصِرة بحُكْمِ التأثير الثقافي الاستعماري الفرنسي، الذي ما زال إلى اليوم يقاوِم من أجل البقاء...
«رَاسْ رَاسْ...
وَاحَدْ مَا يسلَّكْ...»
على كلٍّ، شاطئ قاع السور هو، إذن، كل هذا التاريخ الطويل بزخمه، بل وأكثر، حتى وإن أصبح اليوم يُختزل في مَصَبٍّ لقنوات صرف المياه القذرة لمدينة الجزائر القديمة، «القصبة»، وفي بعض الهياكل الرياضية المتواضعة التي أُقيمت على رمالِه عند أقدام المديرية العامة للأمن الوطني، وفحصها المعروف في العهد العثماني ب: «فحص باب الوادي» والذي أصبح اليوم، بعد التوسع العمراني، جزءا لا يتجزأ من مدينة الجزائر الكبرى. ولكَوْنِهِ معزولاً نسبيًا عن المدينة، فإنه أصبح، على الأقل في سبعينيات القرن الماضي حتى بداية الثمانينيات، وهو ما أصبح غير معروف اليوم، حلبةً يتبارزُ فيها المتخاصِمون من شباب ورجال المدينة العتيقة بحضور أصدقاء كل طرف، على طريقة رعاة البقر الأمريكان، وفق شعار «رَاسْ رَاسْ..وَاحَدْ مَا يْسَلَّكْ…»، حيث تُحسَم الخلافات باللَّكمات و»الدّْماغات» و»الحَشَّاتْ» وحتى بالخناجر لِتنتهي أحيانا بجرحى في المستشفيات وفي مخافر الشرطة بعد تدخل هذه الأخيرة والاعتقالات...ولا حرجَ آنذاك على المنهزِم، لأن أهل «القصبة» كانوا بالإجماع يؤمنون بأن «الرَّجُلْ يَغْلَبْ ويَتْنَغْلَبْ»...فَيَوْمٌ لك ويومٌ عليك...
وما لا يعرفه أغلب الجزائريين اليوم أيضًا هو أن اسم «قاع السور» في الأصل، خلال العهد العثماني على الأقل، لم يكن خاصًّا بهذه البقعة التي نعرف اليوم بل كان يشمل كل جهات ساحل «بهجة» سيدي عبد الرحمن الثعالبي الواقعة عند أقدام سور المدينة الشرقي من باب عزون حتى باب الوادي والفاصلة بين عمران المدينة ومياه البحر. غير أن هذا الاسم انحسر بعد الاحتلال في الشاطئ المعروف اليوم الممتد على نحو 200 إلى 300 متر من الرِّمال وبعض الصخور العائمة فوق مياه البحر، ربما لأنّ شكله وبنيته العمرانية لم تتغيَّر كثيرًا بعد الاحتلال كغيرها التي مَحا المحتلون هويتها الجزائرية الإسلامية ببناء أحياء وهياكل جديدة أوروبية النمط المعماري، وبأسماء جديدة فرنسية كشَارِعيْ باب عزّون والبحرية وشارع القناصلة...
شاطئ «قاع السور» وَجد نفسه، إذن، منذ الأزل في قلب المعارك والحروب الأكثر شراسة التي خاضتها المدينة العتيقة، خصوصا بعد أن بَنى خير الدين بربروس على أنقاض حصن البنيون والجزر الثلاث المحيطة به، التي احتضنتْهُ، أوَّلَ ميناء في هذه القرية الصغيرة العتيقة. ومن قريةٌ متواضعة مَنْسِيَة على الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط على مدى قرون تحوَلتْ هذه البقعة من أرض الله إلى عاصمة لِقوة إقليمية هيْمنتْ طيلة مئات السّنين على غرب البحر الأبيض المتوسط، وكَبَحَتْ الزحفَ الاستعماري الإسباني والأحلام الصليبية الغربية، والتي لولا المقاومة التي واجهت بها المعتدين، لكان اليوم كل الشّمال الإفريقي مجالا جيوسياسيا أوروبيا مسيحيا كما كان قبل الإسلام...كل ذلك عاشه ويشهد عليه شاطئ «قاع السور»...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.