إذا اتفقنا على أن قاعدة التغير هي مركز التفكير في الدراسات المستقبلية، فإن هذه القاعدة معنية بإشكالية قياس التغير، وسرعة التغير في إيقاعه، وانتشار التغير من ميدان مقصود الى تكييفه لتوظيفه في ميدان آخر، وتحديد معامل الارتباط بينه وبين أنماط التكيف الأخرى. وإذا كانت بعض مظاهر التغير قابلة للقياس، فإن بعضا منها يستعصي نسبيا والبعض الآخر يستعصي جزئيا على القياس، وبعض التغير مدرك نتلمسه بالحواس الخمس، بينما بعضه لا ندركه رغم أن تماهيه في الواقع قد يصل الى حد التغير الكلي فنسميه مفاجأة. وفي معايشتي للدراسات المستقبلية خلال عقود أربعة، أجد ان التغير التكنولوجي بالمعنى الواسع للتكنولوجيا هو المحرك (Driver)، يليه التغير الاقتصادي، ثم التغير الاجتماعي (من سياسي وثقافي وقيمي وفني...إلخ)، لكن ما يجب ملاحظته هو أن التغير التكنولوجي يقود الى التغير في الميدانين الآخرين، لكنهما بدورهما يعودان بالتأثير على التغير التكنولوجي نفسه من خلال تفكيك المنظومات المعرفية التي أفرزت التكنولوجيا الأولى لخلق منظومات معرفية (معلومات ومناهج تفكير وقيم معرفية) جديدة تساهم في وضع نطفة التغير التكنولوجي القادم في رحم الوجود، وتزداد الأمور تعقيدا بتعاضد الأقانيم الثلاثة في التغير. ولضبط منهج التحليل مال علماء الدراسات المستقبلية إلى نظرية الموجات (Waves)، فقد لاحظوا مسائل تؤثر على دقة التنبؤ: أ- كلما كانت فترة القياس أقصر كانت احتمالات الدقة أقل (خلافا للشائع في الدراسات المستقبلية التقليدية)، (مثل التنبؤ بالإنجاب للمرأة التي تزوجت حالا، فقد تكون عقيما أو الزوج عقيما أو كلاهما، فإذا انتظرنا لعام أو لعامين كان احتمال الدقة في التنبؤ بالإنجاب من عدمه أقوى نسبيا، ومن هنا نشأت فكرة الموجات، لكن الخلاف أصبح حول هل هي موجات دائرية (long wave cycle)، على غرار موجات كوندراتييف، أم أنها عشوائية او انها خطية او غير خطية (Linear –Non-linear)، وطول الفترة يساعد على رصد العوامل المتصلة (التي تفعل فعلها طيلة الفترة) والعوامل العابرة (Transient) التي لا تشكل تحولا في طبيعة الظاهرة موضوع الدراسة. ب- يرد خصوم المنهج الجديد أن طول المدة يفتح المجال لمزيد من «العوارض الطارئة»، التي يصعب تقدير أوزانها ونمطية تأثيرها وهو ما يجعل التنبؤ مرتبكا. ت- يعود أنصار المنهج «الموجي» للقول بأن التاريخ يقدم مختبرا للقياس على الظواهر قصيرة المدى وعلى الموجات، فإذا تطابقت نماذج التاريخ بقدر معقول مع التنبؤ قصير المدى والموجات كانت نسبة صحة التنبؤ عالية جدا... وإذا تضارب النموذج التاريخي مع كلاهما فالأولى بالتنبؤ غير التاريخي وإعطاء الأولوية للموجات. لكن الدراسات المستقبلية أصبحت تولي موضوع وزن المتغير (magnitude) والتي يتم تحديده استنادا لمصفوفة التأثير المتبادل بعد تحديد معامل الارتباط بين المتغير وبقية المتغيرات لتحديد الأكثر تأثيرا والأكثر تأثرا، ورغم بعض الثغرات في هذا المنهج فإنه على ما يبدو هو الإكثر مصداقية بين النماذج الاخرى، وعند تطبيقي له في دراستي عن إيران ودراستي عن الصين ودراستي عن النزعة الانفصالية للأقليات، كانت المصداقية عالية تماما إلى الحد الذي تفاجأت به بعد مرور السنين على هذه الدراسات، لكن عند تطبيقي له على «إسرائيل» (الكيان الصهيوني) كانت النتيجة جيدة ولكن أقل من الدراستين السابقتين بشكل واضح، بل إن ترتيب المتغيرات الأكثر تأثيرا وتأثرا كانت مخيبة للآمال، فرغم ان الترتيب من حيث الأهمية كان ممتازا، إلا ان الفروق في الاوزان كانت كبيرة قياسا لما استنتجته في النموذج. وتنشغل الدراسات المستقبلية حاليا بتداعيات عدد من المؤشرات الايجابية وعدد آخر من المؤشرات السلبية (كموجات او اتجاهات أعظم لا حوادث عابرة)، وتحاول بناء مصفوفة للتفاعل بين البعدين: أولا: مؤشرات إيجابية عالمية: 1- تراجع الأمية- 2- تزايد معدل العمر- 3- تزايد مصادر الحصول على الماء- 4- تراجع عدد الحروب بين الدول (لا داخل الدول) 5- اتساع انتشار الانترنت 6- تزايد عدد النساء في السلطتين التشريعية والتنفيذية 7- ضبط الزيادة السكانية (في إجمالي العالم) 8- الحد من انتشار الأسلحة النووية.. ثانيا: مؤشرات سلبية عالمية: 1- تزايد حجم نسبة الديون على دول العالم قياسا لنسبتها في إجمالي الناتج المحلي. 2- اتساع قاعدة البطالة. 3- تزايد الفروق الطبقية. 4- استمرار التلوث البيئي. 4- تناقص نسبة المشاركة في الانتخابات. 5- اتساع دائرة العنف السياسي والاجتماعي. 6- اتساع أنماط الفساد السياسي والاقتصادي والاجتماعي. 7- استمرار تذبذب الموجات الديمقراطية. 8- اتساع قاعدة المهاجرين والنازحين. 9- التطور التقني العسكري لدى التنظيمات السياسية المسلحة. ثالثا: ظواهر شبة راكدة عالميا (أي أن حجم التغير فيها ضعيف للغاية): 1- مستوى الإنفاق على البحث العلمي. 2- المساحات الغابية قياسا لغير الغابية. 3- نسبة الأطباء لعدد السكان. 4- استمرار وتيرة الاعتماد المتبادل استنادا لحجم الصادرات والواردات والتحويلات المالية والترابط التقني بين الدول فيما بينها وبين الشركات متعددة الجنسية إلى الحد الذي أصبح فيه أمرا غاية في التعقيد تحديد حساب الدخل القومي. إن الانشغال بالعلاقات الروسية الأمريكيةالصينية (إضافة إلى اليابان والاتحاد الاوروبي)، يجب أن يفهم في إطار تفاعلات المؤشرات السابقة كلها، فهي عوامل كامنة تلعب دورا كبيرا في إدارة التنافس وخلق فرص الصراع، وهو أمر يغيب عن الكثير من الدراسات، فالتنبؤ بطبيعة النظام الدولي القادم يحتاج الى رصد كل ما سبق.