سألني المنسق الخاص للأمم المتحدة المكلف بالتحقيق في الممارسات الصهيونية في الأراضي المحتلة، عن الدلالات والمعاني التي وردت في وصيتي الشهيدين القاصرين آدم عياد وعمرو الخمور، سكان مخيم الدهيشة للاجئين، واللذان أعدما بدم بارد ومن مسافة صفر برصاص جيش الاحتلال الصهيوني خلال الاقتحامات المتكرّرة لمخيم الدهيشة في كانون الثاني هذا العام. وصيتان مبللتان بالدم وجدتا في قميصي الشهيدين في جهة القلب، الأطفال في الدهيشة يكتبون وصاياهم قبل الموت. هذه أصبحت ظاهرة منتشرة في صفوف الصغار، هم على موعد كل ليلة مع مداهمة واقتحام واشتباك مع الجنود، ما الذي يدفع أطفال فلسطين إلى الرغبة بالموت؟ أطفال بعمر 14 عاماً يتركون الملعب والمدرسة والأحلام الجميلة ويتسابقون إلى الشهادة. المسؤول الأممي كان مصاباً بالدهشة بسبب تصاعد عدد الشهداء هذا العام (2023) ومن بينهم الأطفال، كان خائفاً لأن مدونة سلوك جيش الاحتلال تقضي بإطلاق النار الحية على الأطفال، هي التعليمات العسكرية، الإعدامات الفورية الميدانية حتى لمجرد الاشتباه، المنسق الأممي كان خائفاً وكأنه ينتظر عاصفة، قال: من يقتل الأطفال فقد قتلني وقتل الأممالمتحدة العاجزة، من يقتل أطفال فلسطين يقتل كل أطفال العالم، البراءة والطفولة والجمال والأمل والحياة والمستقبل، قلت له: عليك أن تنام ليلة واحدة في مخيم الدهيشة، عندها سترى كيف يكبر الأطفال في تلك الحياة البائسة، يجتمع الموت والحرية في قبضة واحدة. الوصية الأولى: كتب الشهيد الطفل آدم عياد (أنا كان نفسي أشياء كثيرة أعملها، بس إحنا ببلد مستحيل تحقيق حلمك فيها، وأنا مبسوط كثير أن ربنا حققلي حلم من أحلامي وهو الشهادة). الوصية الثانية: كتب الشهيد عمرو الخمور (نفسي الناس تصحى على حالها، لأنه إحنا تحت احتلال صهيوني، وأتمنى من الأجيال القادمة أن تكون الحرية بين أياديها). هذه يا سيدي الأممي عادات المخيم وأفكار المخيم، جنون الاحتلال يدفع الأطفال إلى المضي نحو الموت في سبيل الوطن، الموت صار أجمل من الحياة في ظل هذه الجرائم والمجازر التي ترتكب بحق الشعب الفلسطيني، وعلى العالم أن يحقق في هذه الظاهرة، أطفال فلسطين لا يبتسمون، يتعذبون في السجون وأقبية التحقيق، ملامح الأسير أحمد مناصرة لا تفارق المشهد الفلسطيني، الجثث المتكومة فوق بعضها البعض في جنين ونابلس وأريحا ورام الله تحولت إلى كوابيس سياسية ونفسية تقلق الشعب الفلسطيني كبيراً وصغيراً، الجنازات الجماعية الكثيرة، عربدة المستوطنين والمتوحشين في كل مكان دون رادع أو محاسبة، فالحياة يا سيدي هي موت، والموت هو موت، فليكن الموت بشرف وعنفوان، فالحياة إن لم تكن في الأرض لا بد أن تكون في السماء، هكذا يفكر الأطفال المصدومين الحائرين وهم يتعثرون بأحلامهم المدمرة. يا سيدي الأممي، هذه وصايا سياسية للكبار فقط، للفقهاء ومؤسسات حقوق الإنسان، للذين وضعوا قواعد العدالة الإنسانية ونصوصها الكثيرة، فانشروا وصايا الطفلين في كل مكان، أطفال لاجئون منكوبون، تتكرّر النكبة كل يوم وكل ساعة، أطفال لم يجدوا طريقاً للوصول إلى قراهم التي هجر أهاليهم منها عام 1948، أطفال يحفظون أسماء بلداتهم ويرسمونها على دفاترهم، الطريق مغلق بالحواجز والجنود والقناصة والمستوطنات، رائحة الجريمة الكبرى لا زالت تفوح بعد 57 عاماً، تطهير عرقي جديد ومستمر، اقتلاع وسلب ونهب وهدر للأعمار وحق تقرير المصير. يا سيدي الأممي، الطفلان عمرو وآدم يدلانك على أول الوعي وعلى أول الطريق وعلى أول الخطوات، على طفولتهم المهشمة، على الفزع والخوف والصدمات والاقتحامات، على حريتنا المفقودة، على طموحاتنا الأولى وخياراتنا الصعبة، على أول الكتابة وأول النشيد، عمرو وآدم لم يعودوا طفلين منذ الآن، تحررا من غيتو المخيم، عادا إلى المكان والزمان، العودة من الحاضر إلى الماضي إلى الغد، العودة من علب الصفيح في المخيمات إلى بيوت من طين وحجر. يا سيدي الأممي أنشر وصيتي الشهيدين الطفلين في كل مكان، يقولان لك الطريق المعبد ليس طريق الحالمين، هو الرصيف والحفر العميقة على أجساد المصابين والمعاقين، لذا كان علينا أن نشير مبكراً إلى أعمارنا القادمة، إلى نارنا المشتعلة، وأن نكون حراساً على الحقيقة والذاكرة، لقد ولدنا في عهد السلام والمفاوضات والعولمة، ولدنا في عهد مبادىء حقوق الإنسان وثقافة الديموقراطية، ولدنا ما بعد انهيار أنظمة الفصل العنصري والجدران والديكتاتوريات، نشأنا وأصبحت أعمارنا فتية، لم نجد حولنا سوى الدم والمجزرة، أصدقاؤنا شهداء أو في السجون، كيف نذهب إلى المدرسة؟ كيف نقرأ نصوصكم عن حق العودة وحق المواطنة واحترام الحق بالحياة والكرامة الإنسانية، مقاعد الصف فارغة، غيومنا شاردة، ما زلنا لاجئين في بلادنا، وما زال جيش الاحتلال يسرقنا من التاريخ ويفرغ وجودنا من الجغرافيا المنكسرة، لا زال جيش الاحتلال يطرق أبوابنا في أي ساعة يشاء، ليتأكد أننا أحياء في السجن أو أموات في المقبرة. يا سيدي الأممي: أنشر وصيتي الشهيدين الطفلين آدم عياد وعمرو الخمور، وإذا زرت تل أبيب قل لقادتهم؛ سكان مخيم الدهيشة لن يصعدوا في شاحنات الترحيل مرة أخرى، المخيم ليس مشهداً طبيعياً لزيارات الجنود المدججين بالأسلحة، ليس مكاناً للتدريب العسكري ونزعات الشهوات المجرمة، لن يسمح المخيم للخرافة الصهيونية أن تعمّر طويلاً، هنا آدم وعمرو، هنا كل الأطفال، هنا آلاف الشهداء والمعتقلين من جنين حتى النقب، هنا نتبادل الأعمار ونلتقي في القمم العالية، هنا في المخيم التوازن الأسطوري بين الدنيا والآخرة.