في خيمة الاعتصام المنصوبة امام مخيم الدهيشة على شارع القدس الخليل، وبالقرب من صرح الشهداء اصطف ثمانون جريحا من شبان المخيم المصابين بالرصاص في اقدامهم على يد جنود الاحتلال ، يحملون عكازاتهم وآلامهم وأوجاعهم معلنين التضامن مع الاسرى المضربين عن الطعام وفي مشهد يشير الى الاهداف الاسرائيلية الوحشية التي اعلن عنها كابتن المخابرات المدعو ( نضال) بانه سيحول شباب المخيم الى معاقين، وانه سيحطم ركبهم بالرصاص. يشتبك مخيم الدهيشة ليليا مع قوات الاحتلال، وفي كل ليلة يصاب الشبان بالرصاص اصابات بالغة في اقدامهم، ويزداد العدد في كل ليلة وبشكل متعمد ومقصود، ردا على المواجهات وتصدى سكان المخيم لعمليات الاقتحام والمداهمة المستمرة. عبد الرحيم هماش ابو حلمي، الرجل المسن والمريض دائم الحضور ليلا في خيمة التضامن، يوزع القهوة على الحاضرين والمشاركين ، يتطلع الى المشهد الاصعب للشبان الجرحى اليانعين المبتسمين الصاعدين بقوة واندفاع الى الحياة، يصب لهم القهوة، متكئين على بعضهم البعض، متعكزين على دمهم في حقول اللاجئين. عكازات الجرحى تدق الارض ، القدم اليمنى الجريحة تتبادل الخطوات مع اليسرى السليمة، ينتظرون الليل بدمهم ووجعهم، حيث المداهمات واطلاق الرصاص، السماء تطلق النار، والارض ترقص حتى مطلع الفجر. ابو حلمي يرفع عكازات الجرحى عاليا، ويتوسط الدبكة في الخيمة، ويكاد يبكي وهو يتطلع الى صور الشهداء والاسرى المعلقة على الجدران والحبال، يطوحها الهواء وزفير انفاس ساخنة، يرى ابنه الاسير حلمي خلف مؤبده مقيدا، كم يشتاق له، اصبح ابو حلمي وحيدا بعد ان توفيت زوجته مريضة بالقهر والانتظار. علمنا الشهداء ان الموت هو الفرح الذي لا يموت، يقول أبو حلمي وهو يستقبل المتضامنين القادمين من كل المناطق، جلس ثم نهض وسلم على الطفلة الاسيرة المحررة نوران البلبول وهو يغني: لم احارب غزالا ولا وردة لم اقتل طفلا او اقصف روضة في الخيمة صوت يردد : لم تعد اعشاب السلام تنمو الا في جوف الموت، نجوع ونعرى ولا نساوم، وها انا انتظر وردة تتفتح في الجرح، وحلما لا يسيل دمه في غير اوانه، وها انا ابن هذا المخيم جسدا واقفا يتعكز عليه الوقت. قهوة سوداء مرة يقدمها ابو حلمي لأبي غسان زواهرة والد الشهيد معتز والاسير غسان، كان معتز هنا، اصطاده القناصة الاسرائيليون برصاصة قاتلة، غاب عن الخيمة والاصدقاء ، وكان غسان هنا، اعتقلوه للمرة السادسة، ترك بيانه وكلماته تتشظى في اجواء الخيمة وتطير معه الى عتمة السجون. الجرحى يمددون اقدامهم المصابة على رصيف المخيم، ثمانون عكازة تحولت الى اجنحة، هناك النجوم والشهب والمجرات، هناك شمس الحرية، وهنا الجرح الاول يضيء الظلام ويلتحف سماء بيضاء. تدفق ايها الدم، يصرخ ابو حلمي مؤكدا ان الحياة ليست اكثر من اجساد ودعت اجسادها في ذروة الولادة، ولهذا انفجرت الثورات في المخيمات، ففي كل بيت عكاز وصور شهيد او اسير، ومفتاح وجمجمة لزمن مفتوح فمها على مخاض الابد. ابو حلمي لا يشكو من الحياة، ولا يشتكي اليها، يصغي بطرب وجلال الى اغاني الفنان المقدسي احمد ابو سلعوم وهو يعزف على اوتار عوده في امسيته الفنية التضامنية مع الاسرى المضربين، تتحرك العكازات مع ايقاع الاغاني، تشير الى القدس. ابو حلمي يوزع القهوة على الرجال والنساء والاولاد، ما هذه التجاعيد الكثيرة في وجه هذا الدرب؟ ينسكب الحزن من فنجانه عندما اعلن ان الاسير المضرب بلال كايد معرض لموت فجائي، وان الاسير المضرب محمود البلبول معرض للاصابة بالشلل، ينسكب الخوف، ترتعش اصابع ابو حلمي، وهو ينظر الى اغلال تقيد نبوءات الغيب . دم يراق على عتبات المخيم، سيل الدم يدل الجنود على الجريح المتواري خلف حجارة سنسلة، او خلف شجرة صبار تفرش شوكها حول الجسد المصاب، تشرح صدره وتفك قيده عن شفتيه وتنعف على الجرح العسل. اه كم هم الناس مرهقين ، يهمس ابو حلمي وهو يعرج متنقلا من مكان الى آخر داخل الخيمة، كأس القهوة ينسكب جزء منه على الارض، يد ترتجف وقلب يخفق، يلتفت ابو حلمي الى الجرحى قائلا: الطريق الى الحياة جرح مفتوح، سأوضح ذلك في رسالة اوجهها الى الشمس وليس الى الامين العام للأمم المتحدة. ايها الانفجار الوردي في براكين حياتنا، متى تضع حدا لبؤس هذا الواقع؟ يجلس ابو حلمي قرب الاسير المحرر صالح ابو لبن والذي لا زال يحاول العيش دون خوف من الحرية، يبحث عن بلد في غيمة او نص وكتاب، يتمنى ان يقوم التراب على قدميه ليرى قريته في دم المذبحة. ابو حلمي يوزع القهوة وهو يحدق في وجه ام نضال ابو عكر وزوجها الجالسين في خيمة الاعتصام، ظلال فجع وحزن على وجه العجوزين، لقد اعتقلوا ابنهم نضال للمرة السابعة اداريا، ليقضي من عمره 14 عاما في الاعتقال الاداري، ولم يكتفوا بذلك، بل اعتقلوا ابنه محمد، فالاب والابن خلف القضبان، وصورة الشهيد الحي محمد ابو عكر لا زالت تشر دما في الذاكرة والذكريات. هنا في الخيمة بشر، يعيشون داخل كرة مغلقة، وليس لهم الا حلم واحد: ان يخرجوا الى فضاء الكون، فلم تعد لعصا اللاجئين والفقراء يدا لإحضار الخبز، او لشق البحر الى مدن البرتقال .