إذا كان التدخل العسكري الفرنسي في مالي قد آثار بعض المفاجأة لدى البعض لحصوله دون مقدّمات وخارج تفويض من مجلس الأمن، الذي أقرّ في 20 ديسمبر إرسال قوات إفريقية وليس فرنسية لتحرير شمال مالي من قبضة الارهابيين، فإن خطوة باريس التصعيدية الخطيرة كانت بالمقابل متوقّعة بالنظر إلى ما شهدناه من حرص فرنسي على تدويل أزمة مالي وإصرار على عسكرة الحل وإفشال كل جهود التسوية السلمية. فمنذ أن اهتزّ الوضع الهش في مالي بانقلاب 22 مارس الماضي ثم إعلان الانفصاليين التوارق انفصال الشمال في 6 أفريل، ودخول المجموعات المسلّحة على الخط بفرض سيطرتها وقبضتها على ثلث الأراضي المالية، وفرنسا تدقّ طبول الحرب وتستعجل الحسم لصالح خيار القوة وتفرضه على السلطات الانتقالية في باماكو بما عليها من هيمنة وما مارسته من ضغط ومساومات حتى أجبرتها على تقديم طلب إلى مجلس الأمن عبر الاتحاد الافريقي تنشد من خلاله دعما عسكريا لاستعادة الشمال. وقد تولّت فرنسا نفسها كتابة مشروع القرار الذي تبنّاه مجلس الأمن لاحقا بسرعة فائقة، والذي أوصى بنشر قوة إفريقية قوامها 3300 جندي لمدة عام بالموازاة مع جهود سياسية لبناء مؤسسات الحكم في مالي، وكل ما فعلته السلطات في باماكو هو التوقيع على المشروع الفرنسي ثم تقديمه إلى الاتحاد الافريقي الذي صادق عليه هو الآخر، وأبرقه إلى مجلس الأمن قصد إقراره فقط، أي أنه كان بإمكان باريس أن ترسل مشروعها مباشرة إلى المجلس الأممي لولا الاجراءات البروتوكولية الضرورية، وحتى تظهر للعالم وكأنّ مالي هو الذي ينشد المساعدة العسكرية. وطبعا تزكية المشروع في مجلس الأمن لم يكن أمرا صعبا على اعتبار أنّ فرنسا وحليفاتها هنّ اللواتي يسيطرن عليه ويتحكمن في توجيه قراراته ودواليبه. فرنسا عملت كل ما في وسعها لتدويل أزمة مالي وعسكرة الحل، مع أنّه كان بالامكان الوصول إلى تسوية سياسية خاصة أنّ جماعة “أنصار الدين" و«حركة الأزواد" اقتنعتا إلى حد كبير بالعدول عن الأعمال العدائية والجنوح إلى السلام، ووقّعتا اتّفاقا بهذا الخصوص في الجزائر يوم 21 ديسمبر الماضي، وقد تجاهلت باريس أهمية هذا الاتفاق واستمرت تحثّ على الحرب وتسوق ذريعة محاربة الارهاب، وهو “البعبع" الذي يتذرّع به الغرب لشنّ حروبه الاستباقية ونشر فوضاه الخلاقة التي تنتج مآسي إنسانية لا حصر لها. فرنسا بحكم نفوذها وهيمنتها على مالي والساحل بوجه عام، عزفت على الوتر الحسّاس وهو الخطر الذي تشكّله المجموعات الارهابية، وتدخّلت عسكريا بنفسها خارج تفويض مجلس الأمن كما فعل ذات مرة “بوش" لغزو العراق، ونفت أن تكون خطوتها غير شرعية لأنّ باماكو حسبها هي من طلب هذا التدخل. لكن يبقى تفسير الاستعجال الفرنسي لفرض تدخل عسكري في مالي، هو إجهاض الجهود السلمية التي ما فتئت الجزائر تبذلها لتجنّب تداعيات الحرب الوخيمة التي ستنشب في حديقتها الخلفية. فرنسا أخلطت الحسابات والأوراق، وزجّت بمالي ومن خلاله المنطقة إلى منحدر خطير قد يصعب الخروج منه بسلام. والوضع مرشّح ليشهد تطورات خطيرة إذا علمنا بأنّ الغارات الفرنسية هزّت عشّ الدبور، وأيقظت الخلايا الارهابية النائمة التي سوف لن تقف مكتوفة الأيدي بل ستشعلها نارا تأتي على الأخضر واليابس لتحوّل مالي إلى أفغانستان جديدة.