مجازر ماي 1945 صورة نضالية للجزائريين عبر التاريخ فرنسا تعلم أن الشعب الجزائري مازال وسيظل متمسكا بذاكرته أبرز أستاذ التاريخ بجامعة الجلفة البروفيسور حسان مغدوري، في حديث ل"الشعب" رمزية المحطات التاريخية، لاسيما 8 ماي 1945، التي تعكس صورة نضالية قدمها الجزائريون في مختلف الحقب التاريخية. وقال إنه لا يمكن نسيان هذا الماضي الأليم والتضحيات الجسيمة، التي قدمها شهداء الجزائر، تتطلب صون هذه الأمانة. ويرى المتحدث، أن معالجة ملف الذاكرة يتطلب الاعتراف بكل الملفات المتعلقة بالحقبة الاستعمارية منذ 1830. - الشعب: 8 ماي 1945 مأساة تاريخية لا يمكن محوها من الذاكرة، هل أعطيناها حقها من الكتابة التاريخية؟ الأستاذ حسان مغدوري: مجازر 8 ماي 1945 محطة لافتة في العلاقات الجزائرية الفرنسية، وهي تعبر عن مرحلة تاريخية كان فيها العالم يمر بتحوّلات عميقة في النظم السياسية والمفاهيم الفكرية، وتزامنت مع توقيع الهدنة لوقف الحرب في الحرب الثانية ومع الاستعداد للاحتفالات. طبعا كان هناك تجنيد للجزائريين فيما يقارب 215 ألف جندي حاربوا إلى جانب فرنسا في جبهات القتال، والجزائر آنذاك عدت خزانا للثروة ومستودعا لسواعد الرجال من أجل إنقاذ فرنسا الأم على حد وصف أحدهم. الآن هذه الأحداث مثلما يسميها الطرف الفرنسي خلفت من ضحايا ظلت على الدوام تشكل نقطة نقاش بين المؤرخين والسياسيين ورجال القانون. اعتقد أن هناك اهتمام من الشعب الجزائري وخاصة المختصين في محاولة إماطة اللثام عن كل التفاصيل والحيثيات المرتبطة بهذه المحطة المؤلمة في تاريخ الجزائر. لكن يبقى أن هناك وثائق كثيرة ليست بحوزة الجزائريين، وهي موجودة لدى الطرف الفرنسي في إطار ما يعرف بالأرشيف. هناك وثائق اطلع عليها المؤرخون وهناك كتابات في هذا الاتجاه، ولكن لحد الآن ليس ثمة ما يشفي الغليل عن كامل الخلفيات، التي تقف وراء هذه المجزرة الرهيبة التي ارتكبها الاستعمار. في اعتقادي، هناك أسباب عديدة ترتبط بهذه المأساة، وهي ترتبط بفلسفة الاستعمار العنصرية، التي تجلت وتمظهرت في السياسة العامة التي قادها الاستعمار منذ 1830، سواء في الاعتداء الأول وهو الغزو العسكري، التي اعتدى على دولة ذات سيادة، وهذا الغزو الذي تمدد إلى اغتصاب الأرض ثم إلى خوض حرب عارمة في إطار سياسة الإبادة، التي نفذها الجنرالات الأوائل ورمزهم الجنرال بيجو، والتي استمرت خلال القرن ال19. رأينا تاريخيا كيف قاوم الجزائريون هذا الاستعمار وقدموا قوافل من الشهداء إلى غاية الثورة في 1954. من حيث المبدأ هناك نية لدى الجزائريين في منح كل العناية لدراسة هذه الأحداث، التي نالت حظا مستفيضا سواء بالنسبة للمؤرخين أو السياسيين أو رجال القانون، كلٌّ يحاول معالجة هذه المسألة من زاويته الخاصة. لكن لطالما حاول الطرف الفرنسي تبرير هذه الجريمة، مثلما بُررت في كتب التاريخ بنعتها باسم "الأحداث"، ومحاولة ربطها بانزلاق يتعلق بتصرفات معزولة من وحدات عسكرية أو أشخاص داخل الهياكل العسكرية. مجازر 8 ماي 1945 لم تستوف حقها، ولم نصل إلى الهدف وهو اعتراف فرنسا بهذه المأساة في حق الجزائريين والإنسانية، لأنه ليست ثمة أعراف ولا قوانين ولا شرائع يمكنها تبرير مستوى وحجم الوحشية، التي عرفها الجزائريون خلال هذه الأحداث، لاسيما مع توقيع عيد النصر العالمي على النازية، بعد الحرب العالمية الثانية، يوم 8 ماي 1945. - برأيكم لماذا تتهرّب فرنسا من الاعتراف بجرائمها بالرغم من وجود دلائل وأرشيف؟ موضوع التهرّب من الاعتراف موضوع استراتيجي بالنسبة الى فرنسا، لأن صورة فرنسا في العالم مبنية على دعاية قام بها الفرنسيون منذ القرن ال 19، باعتبار فرنسا أرضا تمثل مهدا للأفكار السامية ولحقوق الإنسان والحرّيات، وهي شعارات تتغنى بها الثورة الفرنسية منذ 1789، مثل شعارات "الحرية، العدالة والمساواة"، ولذلك فصورة فرنسا ترسّخت في عقول ثقافة الشعوب في العالم على أنها مهد الحقوق والحريات والديمقراطية، لكن تصرفات فرنسا على صعيد الممارسة الاستعمارية والنظام الاستعماري تكشف عن سجل مكدّس بالجرائم. في هذا الإطار، فرنسا من حيث النظرة الإستراتيجية، لا تريد أبدا فتح مجال للاعتراف بجرائمها والاعتذار عنها، لأن ذلك سيُسقط صورتها وهيبتها في العالم. في اعتقادي، هذا هو جوهر تهرب الفرنسيين من مسألة الاعتراف، لأن الفرنسيين إذا ما اعترفوا بأي جريمة، فإن سجل الجرائم سيفتح بالنسبة لدولة استعمارية كبيرة، وهذا سيحشُد ويُهيّجُ رأيا عاما واسعا ليس فقط في الجزائر بل في إفريقيا وآسيا وغيرها، من المناطق التي تعرضت للاستعمار. ومن جهة أخرى، فرنسا تعلم أن الشعب الجزائري مازال متمسكا بذاكرته، وبهذه المحطات الأليمة في تاريخ العلاقات وتعلم كذلك عمق المصالح، تربط فرنسابالجزائر باعتبار أن الجزائر جار بالنسبة لفرنسا تفصلها مياه إقليمية. من الناحية التاريخية، ظلت الجزائر دوما بالنسبة لفرنسا تمثل العمق الاستراتيجي في بناء علاقات دائمة قائمة على تبادل المصالح والمنافع. فرنسا إذن لا تريد أبدا زرع الشكوك في عقول الجزائريين، لأن ذلك مهما يكن سيؤثر على مسار هذه العلاقات، التي تعتبرها فرنسا علاقات إستراتيجية ومصيرية. - هناك تضارب في أعداد الضحايا، هل عثرتم في الأرشيف عن رقم حقيقي للضحايا؟ عن موضوع الأرقام، خاصة في مثل هذا النوع من الأحداث المتشابكة والمعقدة بعضها مرئي وبعضها غير مرئي، أول من الصعوبة بما كان تحديد الرقم على وجه الدقة. الموضوع مازال قيد البحث..لكن الشائع بالنسبة للأرقام التي ظهرت في الحرب العالمية الثانية مباشرة بعد 1945، هو الرقم المهول 45 ألف من شهداء الجزائر. طبعا الفرنسيين، يحاولون دوما التقليص من عدد شهداء 8 ماي 1945. بالنسبة لشهداء الثورة الجزائرية، المسألة لا تتعلق بالأرقام، فقيمة الإنسان تبقى قيمة مقدسة، إذا أهدرنا هذه القيمة حتى ولو كان شخصا واحدا فإن هذا يمثل جريمة في العرف والقيم الإنسانية. الفرنسيون يحاولون دوما تقليص الأرقام. يرتبط هذا التخوف بكشف عار فرنسا في الماضي لأن هذا العار يمسح كل ما قامت به الدعاية الفرنسية في العالم، من تقديم فرنسا في صورة بلاد الحقوق والمساواة والحرية والديمقراطية. نجزم أنه لا يمكن لأحد الى حد الآن- أن يحدد رقم الضحايا على وجه الدقة، لأن المسألة ترتبط بأحداث معقدة متشابكة، وان الذين مارسوا هذه الاعتداءات لم يكونوا فقط جهات رسمية على صعيد الوحدات العسكرية والبرية والجوية والبحرية، ولكن حتى المستوطنين أنفسهم في تلك المرحلة شكلوا مليشيات وكانوا يجوبون القرى والمداشر ويقومون باغتيالات جماعية، في إطار حملات أشبه ما تكون بحملات صيد الجزائريين. هناك تعتيم بالنسبة لهؤلاء الذين قتلوا، لكن الذاكرة الجماعية للشعب الجزائري - وهي بالنسبة لنا المرجع الذي نستند إليه دوما- تحتفظ بهذا الرقم المهول 45 ألف من الشهداء، وكيفما كان العدد تبقى قيمة الإنسان قيمة مقدسة، وان الاعتداء عليها بوجه غير حق يمثل جريمة في حق الإنسانية. - في رأيكم، كيف يمكن معالجة ملف الذاكرة مع الطرف الفرنسي، خاصة مع وجود بحر من الجرائم والدماء أثناء احتلال فرنسا للجزائر؟ كنت أقول دائما، لدينا موقع مشترك في ذاكرة غير مشتركة. هذه وجهة نظري لأن هناك فرق بين ذاكرة الألم والمأساة، التي حملها الجزائريون جراء الظلم الاستعماري، وبين ذاكرة الحسرة التي يحملها الأقدام السود وتيار اليمين المتطرف، الذي يحن إلى هذا الماضي الاستعماري. أكثر من ذلك، يمنون أنفسهم بأنهم يملكون حقوقا في هذه البلاد، مع أنهم لما غزوا الجزائر في 1830 جاؤوا حفاة عراة لم يأتوا بشيء. الجزائر تعي هذا الموضوع، ومثلما تعلمون أسست اللجنة الخماسية التي تشتغل اليوم على ملف الذاكرة. وهذا الملف يحتاج اعترافا من الطرف الفرنسي بهذا الماضي، لا يمكن أن يُزيف هذا التاريخ، حتى وان قاموا بتعتيم حقائق في مرحلة ما، سرعان ما تنكشف على اعتبار أن الذاكرة الجماعية للشعوب تنقل هذا الشعور وآلام تلك المرحلة. حلحلة ملف الذاكرة ينبغي أن تمر باعتراف بكل الملفات المتعلقة بالحقبة الاستعمارية من 1830 إلى 1962. هي نقطة أساسية أولى لأن الذاكرة لا ترتبط فقط بثورة التحرير. الطرف الفرنسي يحاول حصر تاريخ الجزائر في 1954-1962 ليُجنب الاستعمار مسؤولية ما سبق هذه الفترة لأكثر من قرن من مآسي الجزائريين وقوافل من الشهداء منذ 1830. هناك ملفات تتعلق بالمنفيين والممتلكات المنهوبة وملف الأرشيف اعتقد أن معالجة ملف الذاكرة بين الجزائروفرنسا ينبغي أن يبدأ بإتاحة الوثائق للباحثين والمؤرخين، والإعلاميين والمثقفين، لأنها معطيات ومعلومات، مؤكدة عن الفترة الاستعمارية. في اعتقادي، كل الموضوع يعود إلى محاولة تذليل العقبات للوصول إلى الاطلاع على هذا الأرشيف. على الأقل في المرحلة الأولى تسهيل وصول الباحثين إلى هذا الأرشيف في كل مستوياته المتعلق بالفترة الاستعمارية، أو على الأقل نقل ما تم رقمنته على عجل، ثم الجلوس إلى طاولة المفاوضات بكل موضوعية وشفافية لاسترجاع الأرشيف الجزائري، سواء الذي يتعلق بفترة ما قبل 1830 أو بنشاط الإدارة الاستعمارية، واثر هذا النشاط في 132 سنة، لأنه يحمل كما هائلا عن معطيات تتعلق بحياة الجزائريين، فضلا عن السطو على الوثائق، التي كانت بحوزة الجزائريين وحرمان القلم الجزائري من الكتابة عن الجزائر في تلك الفترة بما ينبغي كتابته. فرنسا منذ أن تحررت البلدان، التي كانت خاضعة للسيطرة الاستعمارية لم تستطع أن تتحرر من الأجنحة السياسية المتصارعة في فرنسا، على التاريخ، وان تبلور رؤية سياسية نحو المستقبل تحاول أن تتجاوز الماضي وتؤسس لمرحلة جديدة. - فيما يخص المصطلحات التاريخية، كيف يمكن التأصيل للمصطلح التاريخي بعيدا عن المدرسة الاستعمارية وبناء هُوية تعكس مكونات الشخصية الجزائرية؟ هذا الموضوع يندرج ضمن صلب اهتمامات الباحثين بالدرجة الأولى. نحن كمختصين في الحقل التاريخي ندرك تماما أن كتابات المدرسة الكولونيالية، مثلما تسمى، حاولت دوما أن تؤسس لخطاب يستعين بوعاء من المصطلحات، وهذه المصطلحات تكرّس نظرية الجزائر-فرنسية، فدوما كان يبرز الفعل الجزائري على انه منتكس أو متعثر أو فاشل، وتصور الفعل الفرنسي على انه خلّاق ورمز للمدنية والحضارة. في إطار هذه الفلسفة وُضع وعاء من المصطلحات يحاول الدفاع عن هذه الحقائق، وللأسف الشديد أن هذه المصطلحات تجتر بطريقة واعية أو غير واعية من طرف مثقفين، وأحيانا مختصين في الحقل التاريخي. وهو ما يقفز على الحقائق التاريخية ويعتّم على التاريخ، وبالتالي يشوش على الذاكرة. الباحثون في الجامعة يشعرون بخطورة هذه المسألة، لكن الأمر يحتاج بحوثا غزيرة، تعبر عن المرحلة تاريخيا، وعن الفلسفة التي كان يمارسها الاستعمار، بمنطق جزائري وليس بالمنطق الاستعماري، بمعنى انه يجب التأسيس لوعاء من المصطلحات يستند إلى فلسفة إدانة الاستعمار، وليس تمجيد الاستعمار، كما تحاول نظرية الجزائر-فرنسية. نحن بحاجة إلى فلسفة مغايرة للفلسفة الاستعمارية، ومن خلالها ننتج مصطلحات تعكس الحقائق التاريخية بما ينسجم والذاكرة الوطنية. هذا عمل جاد وشاق وطويل، ولكن إذا ما استطعنا التأسيس لهذه الرؤية، وهذه الفلسفة بالجامعة الجزائرية بالدرجة الأولى، ومن خلالها في المدرسة، نعد تنشئة تربوية ومعرفية تاريخية للشباب. النقاش ينطلق من المدرسة. علينا مراجعة المصطلحات التي تكرس خطاب المدرسة الكولونيالية. الخطاب التاريخي الجزائري جوهري يبدأ من الجامعة، ويكرس في المدرسة ثم الإعلام الذي يجب أن يتجند في هذا المضمار، وعليه أن يكون ملما بالقضايا التاريخية، والإشكاليات المطروحة، وعليه مرافقة النقاش في الفضاءات العمومية. اعتقد أن تضافر الجهود بين الجامعة والمدرسة والإعلام والمؤسسات الجمعوية، سيؤدي حتما إلى إعادة غربلة هذا الخطاب وإنتاج خطاب يعبر عن الذاكرة الجزائرية. - 8 ماي 1945-8 ماي 2023، ما الرسالة التي يمكن توجيهها للأجيال، خاصة في ظل حروب سيبرانية تهدد الذاكرة الوطنية؟. هذه المحطات، لاسيما 8 ماي 1945، تعكس صورة قدمها الجزائريون في مختلف الحقب التاريخية، لا يمكن نسيان هذا الماضي الأليم وهذه التضحيات الجسيمة، التي قدمها شهداء الجزائر. علينا صون هذه الأمانة والوديعة. من يحاولون التشكيك في هذا الماضي، ويحاولون تحويل زوايا النقاش إلى مسائل خارجة عن نطاق المأساة، التي عاشها الجزائريون والظلم الذي تعرضوا له، إنما يحاولون إبعاد شباب الجزائر عن مواضيع تاريخية جوهرية. على الشباب أن يعلم أنه لا يمكن التأسيس لرؤية مستقبلية تحفظ أمانة الشهداء ومستقبل الجزائر ومصالحها دونما العودة إلى الماضي وعلى ضوء العلاقات، التي جمعت الجزائر بالشعوب والأمم والكيانات السياسية يمكن أن نؤسس رؤية مستقبلية واضحة واعية تمكننا من إدراك ذاتنا ومصالحنا ورهانات وتحديات. علينا كذلك، أن نفتخر بأننا شعب لم يركع ولم يخضع للاستعمار، وأننا كنا نملك إمكانيات وطاقات وكنا طرفا فاعلا في العلاقات الدولية مثلما كانت الجزائر في الماضي، أو عندما تمكنت الجزائر في العهد العثماني أن تؤسس علاقات مع أوروبا وأمريكا، وكانت طرفا محوريا في البحر الأبيض المتوسط. الشعب الجزائري رغم انه ابعد عن الساحة 132 سنة من الاستعمار، لكنه استعاد مكانته ودولته ولذلك علينا أن نعتز بهذا الإرث ونتمسك به ونؤسس لرؤية مستقبلية واضحة ناضجة وواعية.