يذكر – عادة - في دراسة موادّ الثّقافة الشّعبيّة، بأنّ قسما كبيرا من الأمثال الشّعبيّة لا يدرك إلاّ من خلال قصّة المنشأ، أي أنّ بعض الأمثال الشّعبيّة لكلّ منها قصّة، تفسّر ميلاد المثل، يرويها عادة مستعملوه كي يدعّموا الرّأي الذي يعبّر عنه المثل.. وظاهرة الازدواج في التّعبير الأدبيّ أو العلاقة العضويّة الجامعة بين السّرد القصصيّ وشكل تعبيريّ آخر، لا تقتصر، في الثقافة الشعبية الجزائرية، على الأمثال الشعبيّة وحدها، بل تتعدّاها إلى بعض القصائد الشّعريّة المعروفة في مناطق مختلفة من الوطن الجزائريّ. لعلّ أبرزها في الموروث المتداول في منطقة الجنوب والهضاب العليا، قصيدة "مرثية حيزيّة"، وهي مطوّلة يفوق عدد أبياتها المائة، تعتمد على مقاطع رباعيّة. أبدعها شاعر سيدي خالد المعروف، محمد بن قيطون. تروي القصّة أنّ رجلا اسمه "سعيّد" توفّت محبوبته –بعض الرّوايات تذكر أنّها زوجته، وبعضها الآخر يذكر أنّه كان عاشقا لها، أو أنّه كان قد تقدّم لخطبتها وردّه وليّ أمرها خائبا - ومن شدّة لوعته إثر وفاتها، لجأ إلى صديقه الشاعر محمد بن قيطون ليرثيها. فأبدع هذا الشّاعر الفذّ قصيدة من روائع الشّعر الشّعبيّ الجزائريّ لا تزال تتردّد أبياتها على الألسن حتّى اليوم، يقول في مطلعها: عزّوني يا ملاح ** في رايس البنات ** سكنت تحت اللّحود ** ناري مقديّا قلبي سافر مع **** الضاّمر حيزيّا وقد تغنّى ببعض أبياتها عدد من المطربين، وأصبحت شخصيّة حيزيّة التي تتعرّض القصيدة للحديث عنها، شخصيّة رمزيّة اندرجت في تكوين كثير من قصائد الشعر المعاصر الجزائريّ، كما انتقلت قصّتها إلى حيّز الفنون السّمعية البصريّة والدّراميّة، فصوّر فيلم حولها، وقدّمت في مناسبات مختلفة على خشبة المسرح. ولاشكّ أنّ انتشار اسم حيزيّة في البلاد الجزائريّة دون البلاد المغاربيّة الأخرى، يدلّ على ما كان لتأثير قصيدة محمد بن قيطون على النّاس إلى وقتنا الرّاهن. لقد كانت قصّة الحبّ هذه ذريعة للخلود.. خلود اسم الشّاعر وخلود اسم المرأة موضوع القصيدة، وخلود اسم حبيبها "سعيّد"، وكذلك خلود المغنّين الذين صدحوا بأبياتها… (عبد الحميد عبابسة، خليفي احمد، البار عمر، محمد لعراف إلخ..) إنّها إذن طريق الخلود لكلّ من عايشها، وتقمّصها بصفة ما أو اقترب منها؛ لهذا فهي مؤهّلة لأن تحمل عنوان: "طلسم الخلود"، فهي مدعاة للانبعاث وبقاء الذّكر منذ أن نظمها صاحبها وردّدها الرّواة، ولعلّ أوّل راوٍ لها كان "سعيّد" العشيق المتيّم الّذي استعاض عن محبوبته بتمثال صنعه محمد بن قيطون عن طريق الكلمة الشّعريّة، مستعينا بالنّظم الرّباعي ذي الإيقاع الخفيف، والذي يميل إليه الذّوق الشّعريّ الشّعبيّ الجزائريّ، وقد استخدمه العديد من شعراء الملحون، سواء كانوا من الحواضر أو البوادي، يقول الشّاعر في رسم (أو نقش) صورة (تمثال) حيزيّة: طلقت ممشوط طاح بروايح كي فاح حاجب فوق اللّماح نونين بريّة عينك فرد رصاص حربيّ في قرطاس سوري قياس في يدّين الحربيّة خدّك ورد الصّباح وقرنفل وضّاح الدّمّ عليه ساح مثل الضّوّايه هكذا تشكّلت صورة حيزيّة وكأنّها هيكل تمثال آلهة الجمال الجزائريّة، كما تصوّرها بن قيطون، وهي لا تختلف في صفاتها عن أفروديت (اليونانية) أو فينوس (الرّومانيّة) أو إيزيس (المصرية)، آلهات الجمال في الحضارات الشّرقيّة القديمة، وقد أصبحت هذه الآلهات جميعا بطلات كثير من الأساطير، نسجت حولهنّ بعد أن عبدن في المعابد، وأدّيت لهنّ طقوس الإعجاب والتّسليم. وها نحن نجد في الثقافة الشّعبيّة الجزائريّة انتقالا من مرحلة عبادة المثال وتقديسه إلى مرحلة صنع الأساطير حوله. ولكنّها أساطير تختلف عن أساطير الثّقافات العتيقة، تعبّر عن نفسيّة الإنسان الجزائري في القرون الأخيرة من حياته. الأساطير الموازية بموازاة القصّة التّاريخيّة التي سعى الأستاذ أحمد لمين إلى معرفة بعض حقائقها عن طريق الاتّصال بأفراد الوسط الذي عاش فيه كلّ من الشّاعر وشخص كلّ من حيزيّة وسعيّد، وجميعهم لهم وجود تاريخيّ، ينتمون لعرش "الذّواودة"، وهم من البوازيد، الذين يعود أصلهم إلى رياح، إحدى قبائل بني هلال. وقد وضّح الأمر في المقدّمة التي وضعها للدّيوان المنشور المتضمّن للقصيدة كاملة كما عثر عليها عند الرّواة. هناك قصص أخرى ذات طابع أسطوريّ منها القديم المتوارث في الأوساط الشّعبيّة، ومنها المصنوع من طرف الدّارسين المحدثين. من بين هذه الأساطير الشّعبيّة ما سمعته شخصيّا في بوسعادة من أنّ حيزيّة كانت امرأة زنجيّة. وكأنّ للجمال لون معيّن!. أو أنّ الجماعات السّوداء في الجزائر تريد بدورها أن يكون لها نصيبها في أسطورة الجمال الخالد فتتبرّك بطلسمه.. رأى بعض هواة الشّعر الملحون المحدثين أنّ طبيعة القصيدة تجعل المتفحّص فيها يكذّب قصّتها، إذ يبدو أنّها بصدق عاطفتها وقوّة تصويرها لا يمكن أن تصدر إلاّ عن عاشق متيّم. وبالتّالي، فإنّه من خلال النّظر فيها لا يمكن أن يكون غير الشّاعر عاشقا. فمن المؤكّد أنّ محمد بن قيطون نفسه هو عاشق الفتاة، وقد توارى خلف ظلّ صاحبه المسمّى "سعيّد" بسبب خشيته ممّا قد يقال عنه، خاصّة وأنّه قال قصيدته وهو شيخ كبير السّنّ. ولماذا لا يكون الرّواة قد اختلقوا قصّة "سعيّد" بحذافيرها؟!. استند مثل هذا الرأي على ما وشت به القصيدة من قدرة كبيرة في الوصف والتّعبير عن لواعج النفس الثّكلى بموت حبيبة في ريعان الصّبى.. مثل هذا التّفسير تبدو أسطوريّته واضحة؛ لأنّه اعتمد على مقولة الصّدق في التّعبير، وهي ذات مرجعيّة مستندة على بعض المسلّمات الإيديولوجيّة المرتبطة بالاتجاه الفكري الرّومنسي في فهمه للعمليّة الشّعريّة، والتي تعدّ من بين أساطيره (منطلقاته النّظريّة الخاصّة). لا تستقيم مع ما هو متوارث من تقاليد الشّعر الشعبي الجزائريّ، ويكذّبها ما كان معروفا عن محمد بن قيطون، وما يؤكده الرّواة، وكذلك إنتاجه الشّعري الآخر من تخصّصه في فنّ المراثي، وإتقانه لتصوير حالات فقدان الأعزّاء. بالإضافة إلى أنّ تقاسيم "حيزية" – المرأة - المرسومة في لوحة محمد بن قيطون، إذا ما تمّت مراجعتها على ضوء الشعر الشعبي الجزائري، نجدها ذات تفاصيل عامّة يرسم من خلالها لسان الشّاعر صورة المرأة الجميلة في مختلف القصائد، فهي بمثابة قسمات التمثال النّموذجي، التّجسيد النّمطيّ الذي يلجأ إليه جميع الشعراء –المثّالين- فيستمدّون من صفاته ما يبحثون عنه، وما يرون أنّه يناسب المرأة موضوع قصيدة كلّ منهم. إنّها صفات المرأة المثاليّة في مخيّلة الجزائريّ في عصر الشّاعر (القرن التّاسع عشر). قصّة حبّ شعريّة خالدة أخرى يبدو أنّ مراثي النساء الجميلات تقليد من تقاليد الشّعر الشّعبيّ الجزائريّ، فما عرفناه عن طريق قصيدة حيزيّة للشّاعر محمد بن قيطون، نجد ما يشابهه، إلى درجة المطابقة من الناحية الأسطوريّة في منطقة وادي سوف، والصّحاري كما نعرف من تاريخ الثقافة العربية، موطن الغزل العذري وقصصه الخالدة، وأبرزها قصّة مجنون ليلى التي أصبحت ذات بعد عالميّ. غرود عالية قصيدة للحبّ والعزاء هذه قصيدة مجهول قائلها، من عيون الشّعر البدويّ، غير أنّها تتردّد على الألسنة، وتختزنها الذّاكرة الشّعبيّة في منطقة وادي سوف. وقد غنّاها مطرب حديث بصوته الشّجيّ محتفظا لها بطابعها البدويّ، من حيث التلحين والأداء، وهو عبد الله المنّاعي. جاءت القصيدة في قالب المراثي، على لسان امرأة توفّت تشكو حالها، وتروي حكايتها. في قالب مناجاة نفسية يسندها الشاعر لهذه المرأة. يروي الناس في وادي سوف أنّ هذه المرأة وقفت في المنام على شاعر من أهلها، وحثّته على أن يعيد على مسامع الناس قصّتها لكي يحفظوا ذكراها، ومن هنا لم يكن هذا الشاعر سوى وسيط نقل ما استمع إليه في رؤياه الحلميّة.. إنّها مرثية النّفس، فالمرأة ترثي حالها ومصيرها، وهي تنام في ظلام القبر؛ فتشكو لوعتها ومأساتها التي دفعت بها إلى معاناة المرض ثمّ الموت الفجائيّ لحظة وصول الحبيب المرتقب، يقول الشاعر على لسانها: غرود عالية والموت فيها جتني لا صبت ناسي ولا عرب زارتني أجلي تمّت.. ني سرت لله والخليقة تلمّت الأرض الصّحيحة كيف عنّي صمّت جيت ثايرة كان الخشب نطحتني هكذا تبدأ الرّواية بإعلان هذه المرأة العاشقة عن وفاتها، وعن شكواها من إهمال النّاس لزيارتها بمن فيهم أهلها وعشيرتها. أمّا بقيّة القصيدة، فلا يمكن فهم معانيها إلاّ إذا اطّلعنا على الأسطورة التي تروى حول وفاتها. وهي قصّة حبّ مأساويّة مثل قصص الحبّ الخالدة التي تتغنّى بقدرة العشّاق على المكابدة والمعاناة، حتّى وإن أفضت علاقتهم بالمحبوب إلى المستحيل والتّلاشي في سديم الكون..
العشق بين فيض العاطفة والمقايضة الاجتماعية: تروي القصّة-الأسطورة أنّ فتاة فارقها حبيبها يوم أن تزوّجها. لقد عشق الفتى فتاته وطلبها للزواج، غير أنّه لم يكن يملك ما يقدّمه لها مهرا، وافق أهلها على عقد قرانها منه على أن يتحيّن الفرصة المناسبة لكي يحصل على مهر مناسب ليقدّمه لها.. لم يكن الحصول على مثل هذا المهر في وادي سوف حينئذ إلاّ عن طريق الارتحال للتّجارة.. صادف يوم عرسه قرار قيام التجّار برحلتهم السنويّة إلى البلاد البعيدة، ولم يكن بإمكانه أن ينتظر سنة أخرى، فقرّر الالتحاق بالرّحلة في نفس اليوم من أجل الحصول على نقود تمكّنه من شراء مهر مناسب لعروسه الجميلة.. يوم العرس ودّع العريس زوجته ليلتحق بركب التّجّار.. حملت المرأة وظلّت تترقّب عودة الزّوج الغائب.. وأصابها المرض من فرط المعاناة وطول الانتظار. وضعت طفلها، غير أنّ حالها ازدادت سوءا، ففقدت شهيّتها للأكل ثمّ فقدت القدرة على الكلام.. سقطت في غيبوبة طويلة. صادف يوم وصول الزّوج يوم وفاتها.. هكذا جاءها بالمهر وهي تهيّأ للدّفن. ألبسها إيّاه بدل الكفن. ثم شيّعها أهلها ودفنوها فوق هضبة مرتفعة قريبا من السّماء.. اجتمع النّاس للمواساة، لكنّهم تفرّقوا، وأحسّت المرأة –المتوفّاة- بعد أيّام - حسبما تقول الأسطورة - بوحشة القبر، فوقفت في المنام على الشّاعر، لتترجّاه أن ينقل قصّتها الخالدة بتفاصيلها الصّغيرة، فهي لم تشبع بالحياة، والحياة هي هذه التّفاصيل الصّغيرة التي نحياها لحظة بلحظة، تستمرّ القصيدة على لسان دفينة "الغرود" (الكثيب الرّملي)، فيقول الشاعر على لسانها: لانيّسها.. ولاهي منامة ساهلة نخرّصها كذب من يقول كسوته نلبسها يخشّني الجهل ونقول لا لزمتني كسوته شاريها.. من السّوق دافع فلوسه فيها حدّر ملك طوّل اذراعته فيها جت وافية مليحة سترتني تقول الفتاة: "لا معنى لليأس إذا ما كان الموت هو مصيرنا. فالموت هو الحقيقة الخالدة، وهو النّوم الأبدي"، ثمّ تتساءل: "كيف يعتبروني –من خلال كلام عزائهم- وكأنّي لبست ثياب العرس حقيقة، وقد فارقت الحياة. لقد سكنني غضب وأنا أعاني مرارة الانتظار بدون طائل، غضب لا يمكن أن تسكته عبارات لياقة موجّهة للأهل. لقد كدت أن أرفض هذه الثّياب التي زيّنت بها وأنا أساق للقبر. هذه الكسوة التي جعلتها الملائكة على مقاسي، وأصبحت كفنا يسترني".. ويستمرّ الشّاعر في نقل شكواها:
طرت قباله.. وني نفحتي طارت من الرّجّاله سقطت دمعه على الحجى همّاله والسّابقة من الخيل لا ردّتني "لقد فاجأني الفراق الأبديّ، وفقدت رغبتي في الرّجال التي عانيت منها زمن الانتظار، وسارعت إليّ نهايتي، وسقطت دموع الحزن غزيرة.. وليس هناك من يستطيع أن يوقف الانحدار نحو عالم الأموات السّفلي، نحو الهاوية.. إنّه انحدار تتجاوز سرعته سرعة الخيول المطهّمة". ويواصل الشّاعر تصويره للحالة التي أصبحت عليها المرأة الفتاة، وقد غادرها الأحياء بعد دفنها فعانت مرّة أخرى من فراق الأحبّة ومن وحشة القبر: قلبي حاير.. ولا من حذايه نحدّثه بغماير جتّ ميتّي كان بين زوز سداير لاني مشيت.. ولا المدينة جتني «اشتدّت حيرتي، وأصبحت وحيدة مدفونة بين شجرتي "سدر". استقرّ بي المقام في قفر بعيدا عن المدينة التي انتظرت طويلا أن يأتي منها حبيبي فلم يصل". ويتواصل النّحيب والشّكوى من المصير القاسي، ومن فراق الزوج والولد: يا اللّي ماشي.. سلّم عليّ غرّد مثيل الحاشي في ظنتي ما زال وفّاشي عليّ غرّد والرّجل ما مشّتني يا غاليّه.. شدّ الرّصن والرّاحله مهيريّه اعقب عن قبري ديره اثنيّه في السّيف لبيض تربتني لاحتني غرود عاليه والموت فيها جتني "أترجّاك أيّها الزوج الغالي أن تمرّ بي وأن تداوم على الزّيارة، وتعتني بولدي الذي لم يبلغ سنّ الفطام، والذي بكى لفراقي مثلما لم يبك أحد".. تلك هي إذن قصيدة من قصائد العواطف المقموعة في الشعر الشعبي الجزائري، وهي تروى لأغراض جماليّة ولقيمتها التّعبيريّة؛ لكونها تنفيس عن حالات الكبت واليأس والعشق المستحيل، وهي أيضا تأمّل في الحياة والموت وفي المصير الإنساني.