يعقد الماليّون آمالا كبيرة على تمكّن السلطة الانتقالية - التي تتمتع بتأييد شعبي كبير - من إعادة الاستقرار لدولة مالي التي عاشت خلال عشر سنوات كاملة عدم استقرار شديد تخلّله تزايد نشاط المجموعات الإرهابية، وتواجد قوات أجنبية على أراضيه زادت من حدة تدهور الوضع الأمني. ومن المقرر أن يذهب الماليون يوم 18 جوان الجاري، للإدلاء بأصواتهم حول مشروع الدستور الجديد المقترح، للانتقال من الحكم العسكري المؤقت إلى الحكم المدني. وتعتبر خطوة الاحتكام إلى رأي الشعب في حد ذاتها، من خلال الاستفتاء الشعبي، مبدأ من مبادئ الممارسة الديمقراطية التي تجعل من الشعب مصدر التشريع. خلال الأسابع الماضية، قامت الحكومة الانتقالية في مالي بحملة تعميم وشرح مشروع الدستور للماليين داخل البلاد وخارجها، من خلال الاتصال المرئي مع الجالية المالية بالخارج، أو من خلال زيارات ميدانية قام بها وزير الخارجية، عبد الله ديوب، إلى دول الجوار في وسط إفريقيا بداية من غينيا الاستوائية إلى بوركينافاسو وطوغو. إنجازات السّلطة الانتقالية شهدت مالي، خلال السنوات الثلاث الماضية، تغييرات كبيرة في جميع المجالات، أهمها الإطاحة بالرئيس السابق إبراهيم بوبكر كيتا عام 2020 إثر انقلاب عسكري أوصل العقيد أسيمي غويتا إلى رئاسة الحكومة الانتقالية. هذا الأخير الذي اتّخذ كثيرا من القرارات جعلته يحظى بدعم داخلي واسع، إذ ساهم في نهضة مالي في المجال السياسي والعسكري بقراراته لتغيير الحلفاء الاستراتيجيين للبلاد، وبتبني استراتيجية جديدة لمحاربة الدّمويين تعتمد أساسا على الإمكانات الخاصة، وهذا ما ساعد الدولة على تحقيق إنجازات كبيرة أيضًا في القطاع الاقتصادي والأمني. ورغم الانتقادات الخارجية التي طالت قرارات غويتا، والعقوبات التي فرضت على البلاد، إلا أنه استطاع تحقيق إنجازات مهمة انتهت بقرار فرنسا سحب قوات "برخان" التي جاءت لمكافحة الإرهاب، ولم تكافحه ولم تحد من انتشاره وانتشار الجماعات المسلحة. في وقت يظهر الشعب المالي دعمه لرئيسه الانتقالي من خلال المظاهرات العديدة المطالبة بإنهاء الوجود العسكري الفرنسي. ولعل آخر إنجاز حقّقته القيادة الانتقالية في مالي، هو صياغة مشروع دستور جديد للبلاد، واعتُبر اعتماده خطوة مهمة في الجدول الزمني المؤدي إلى انتخابات فبراير 2024 وعودة المدنيين إلى السلطة، من خلال تنظيم انتخابات رئاسية باحترام الجدول الزمني، والمقررة مطلع العام القادم، فيما انتقده آخرون واعتبروا أنه ينطوي على مخاطرة لأنه ليس من أولويات المرحلة الانتقالية. بين مؤيّد ومعارض من بين القضايا التي لاقت نقاشا وجدلا في مالي، أسبقية الانتخابات الرئاسية على وضع دستور جديد، إذ يرى معارضو وضع دستور جديد من قبل السلطة الانتقالية، أنه لا يحق لها ذلك، وأنّ صياغة دستور جديد يجب أن تكون بعد الانتخابات الرئاسية، حيث يشرف الرئيس المنتخب على عملية صياغة دستور جديد للبلاد باعتباره ممثلا للشعب. كما ترى بعض الأطراف أنّ قيام السلطة الانتقالية بالأمر هو بمثابة مدْينَة السلطة (أي إضفاء الطابع المدني على العسكريين)، حيث تعتقد هذه الأطراف أن الخطوة ستسمح للقيادة العسكرية بالبقاء في السلطة تحت عباءة المدنية. ويرى هذا الفريق أن صياغة دستور في المرحلة الانتقالية، قد يفتح الباب أمام تلاعب الرؤساء المستقبليين لصياغة دستور آخر للبلاد، بحجة أنّ الحالي صيغ في مرحلة انتقالية على مقاس النخبة الحاكمة. بينما يرى مؤيّدو المشروع أنّه يلبّي تطلعات شعب مالي، ويعيد تأسيس الدولة، ويبني قواعد الجمهورية الرابعة، وأعلنوا عن دعمهم للعقيد أسيمي غويتا، في تنفيذ مشروع الدستور الجديد، والإصلاح المؤسّسي الذي يعد في المرتبة الثانية من أولوياته بعد أولويته في استعادة سلطة الدولة على كامل أراضيها. وعلى الصعيد القاري، رحّب الاتحاد الإفريقي، على لسان رئيس مفوضية الاتحاد، محمد موسى فقي، بإعلان سلطات المرحلة الانتقالية في مالي، إجراء استفتاء دستوري في 18 جوان 2023، لاعتماده كجزء من الجهود الجماعية الضرورية للعودة إلى النظام الدستوري، وأثنى رئيس مفوّضية الاتحاد الإفريقي على جميع الجهود التي بذلتها السلطات الانتقالية، مؤكّدا الحاجة إلى عملية الانتقال الشاملة والشفافة والمصداقية، قبل الانتخابات المقبلة المقرر إجراؤها السنة المقبلة، ودعم المفوضية لها. من النقاط الخلافية الأخرى، بند علمانية الدولة، فمالي دولة إسلامية بنسبة أكثر من 90 بالمائة حسب تقديرات 2018، وعليه، طرح الإبقاء على مبدأ علمانية الدولة في مشروع دستور 2023 جدلا وخلافا في مالي، إضافة إلى الديباجة التي تنص على المبدأ، نصت المادة 30 من المسوّدة على أنّ "مالي جمهورية مستقلة وذات سيادة وموحدة وغير قابلة للتجزئة، وديمقراطية وعلمانية واجتماعية"، وفسّرت المادة 32 المقترح بالنص على أنّ "العلمانية لا تتعارض مع الدين والمعتقدات، وهدفها هو تعزيز وتقوية العيش معًا على أساس التسامح والحوار والتفاهم المتبادل"، وشرحت المادة 39 شروط تأسيس الأحزاب السياسية على أساس المبدأ: "الأحزاب السياسية يجب أن تحترم مبدأ علمانية الدولة"، في حين قطعت المادة 185 أي محاولة لتعديل المقترح حال التصويت ب "نعم" على الدستور، ونصّت في فقرتها الأخيرة على أنّه "لا يمكن إجراء مراجعة أو تعديل للدستور فيما يتعلق بالشكل الجمهوري للدولة، والعلمانية، وعدد ولايات الرئيس، ونظام التعددية الحزبية". صلاحيات تتماشى مع المرحلة في الدستور الجديد، توسّعت مساحة صلاحيات رئيس الدولة، إذ سيكون هو من يحدّد سياسة الأمة وليس الحكومة، ويعين رئيس الوزراء والوزراء وإنهاء مهامهم. وتكون الحكومة مسؤولة أمامه مباشرة بدل الجمعية الوطنية، كما سيضطلع رفقة البرلمانيين بمهمة اقتراح القوانين بدل الحكومة والجمعية الوطنية. وبذلك، ستكون السلطات مركّزة في يد الرئيس، ولعل ذلك ما تحتاجه هذه المرحلة الحساسة من تاريخ البلاد التي تسعى للانعتاق من الهيمنة الاستعمارية للمستعمر السابق، الذي حاول منذ تنفيذ الانقلاب الأخير فرض عقوبات قاسية على مالي، عن طريق المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، وصلت حد عزل مالي عن محيطها القريب. كما أنّ الصحافة الفرنسية، من خلال الصحف والمواقع الالكترونية، والمجلات المتخصصة في الشأن الإفريقي، نزلت بوابل من الانتقادات على مشروع الدستور الجديد الذي قدّمته وكأنه جاء لخدمة غير الماليين، أو لأطراف خارجية في محاولة لتأليب الرأي العام الداخلي. لا تسامح مع الانقلابات يعيد المشروع الجديد للرئيس سلطة حلّ الجمعية الوطنية. وحدّد العهدات الرئاسية في اثنتين، خمس سنوات لكل منها، مع عدم إمكانية التجديد، ولا حتى إدخال تعديل على البند في المستقبل. ويمكن للرئيس أيضا أن يتّخذ "إجراءات استثنائية" في حال وجود تهديد "خطير وفوري" ضد البلاد. لكن مسوّدة الدّستور الجديد شدّدت الأحكام بشأن الانقلاب العسكري، واعتبرته "جريمة لا تسقط بالتقادم"، ابتداء من سريان الدستور الجديد، ما يعني انه لا يأخذ بعين الاعتبار الانقلابات السابقة له. ومن بين الأحكام الرئيسية للنص الجديد، نجد إمكانية الشروع في إجراءات اتهام الرئيس بتهمة الخيانة وحظر تغيير النواب للأحزاب السياسية، أي أنّ عضو البرلمان الذي يستقيل من حزبه يفقد تلقائيًا ولايته كنائب، والعضوية في حزب سياسي آخر تستحق الاستقالة، إمكانية تقديم المواطنين للطعن أمام المجلس الأعلى للقضاء والمحكمة الدستورية، مبدأ الحكم الرشيد، تأكيد مكافحة الفساد، التعبئة العامة للمواطنين عند الضرورة. ويستشف من هذه الأحكام وجود إرادة سياسية لضمان أكبر قدر من الاستقرار السياسي في مالي خلال المراحل القادمة، بتجريم الانقلابات ورفع الحصانة عن الرئيس، وعدم إفلاته من العقاب في تهم الخيانة العظمى، إلى جانب منع التجوال السياسي، إذ يرمي إلى إلزام النواب أو المنتخبين ببرامج أحزابهم، وعدم اللهث وراء المصلحة الخاصة على حساب المصلحة العامة. ومن أهم النقاط التي أثارت سخطا في الأوساط الفرنسية، مراجعة مكانة اللغة الفرنسية، وتخفيض مكانتها من لغة رسمية إلى لغة العمل، ويأتي المطلب نزولا عند رغبة 83 بالمائة من سكان مالي، الذين لا يتحدثون ولا يجيدون اللغة الفرنسية، كون 17 بالمائة منهم فقط من يتقنها، وهم الذين يسيطرون على كل المناصب الادارية في الدولة، فيما يحرم باقي الشعب من الوصول إلى هذه المناصب، وهو ما يعتبر استمرارا في السياسة الاستعمارية، وإقصاء غالبية السكان من المشاركة في الحكم والإدارة. كرونولوجيا الانتقال السّياسي - في جوان 2022، تمّ تشكيل لجنة صياغة دستور جديد لمالي، وفي جانفي 2023، قام رئيس المرحلة الانتقالية بتعيين 15 عضوًا من الهيئة المستقلة لإدارة الانتخابات في وظائفهم، بما في ذلك أربع نساء "أي 26.6 بالمائة من الأعضاء"، كما عيّن العقيد أسيمي غوتا، في نفس الشهر 72 شخصًا، من بينهم 15 امرأة (أي بنسبة 20.83 في المائة)، لتشكيل اللجنة المكلفة بمراجعة ووضع اللمسات الأخيرة على مشروع الدستور. - في فيفري الماضي، تمّ تسليم مسوّدة الدّستور إلى الرئيس الانتقالي. وبين 6 و10 فيفري جنّدت مينوسما 182 وكيلًا انتخابيًا، من بينهم 56 امرأة (30.77 بالمائة) خضعن للتدريب قبل تعيينهن في جميع أنحاء البلاد، كما اعتمد المجلس الوطني الانتقالي تعديلات على قانون الانتخابات في 2022. - في مارس، أصدرت رابطة أئمة مالي الإسلامية بيانًا عارضت فيه أن تصبح العلمانية سمة من سمات الدولة المالية، وأعلن الاتحاد الوطني لعمال مالي وحركات اجتماعية وسياسية أخرى عن تأييده الكامل لمشروع النص. - وفي مارس أيضا، قدّم رئيس المرحلة الانتقالية مسوّدة الدّستور للفاعلين السياسيين، والقوى الحية للأمة، بما في ذلك ممثلي الأحزاب السياسية، المجتمع المدني والجماعات المسلحة الموقعة والزعماء التقليديين. كما طلب من جميع أصحاب المصلحة المساهمة في تعميم مشروع الدستور. - في ماي، أعلنت السّلطات الانتقالية في مالي عن إجراء الاستفتاء يوم 18 جوان. وفي بداية جوان انطلقت حملة الاستفتاء على الدستور الجديد. دستور مالي وأمن دول الجوار ترى بعض التّحليلات أنّ مساعي مشروع الدستور المستقبلية، هو إقامة تكامل إقليمي، خاصة بين الدول الثلاث التي شهدت انقلابات عسكرية متزامنة، وتعرّضت لعقوبات مشدّدة من طرف المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا "إيكواس"، ويتعلّق الأمر ببوركينافاسووغينيا، وهي الدّول التي أبدى الانقلابيّون فيها العداء للمستعمر السابق، ويرفض شعبها وجود عساكره على أرضها، من خلال العديد من المظاهرات الشعبية المطالبة برحيل فرنسا. ويتّضح الأمر كذلك من خلال حملة تعميم مشروع الدستور، حيث خصّ وزير الخارجية المالي الدولتين بزيارة التقى فيها الجالية المالية هناك، ومسوؤلي البلدين، وكانت مناسبة لمناقشة مجالات التعاون وتوسيعها. رغم أن التوقع يبدو بعيد المنال، لكن الوقائع تشير إلى رغبة مشتركة في الخروج من عباءة الهيمنة الاستعمارية. خلافات مفتعلة من جهة أخرى، ورغم أنّ مشروع الدستور الجديد أثار جدلا داخليا خاصة ما تعلق بالهوية الدينية للدولة، إلا أن السلطات الانتقالية لم تأت بجديد، فبند علمانية الدولة كان دائما حاضرا في كل دساتير البلاد سابقا، ولم يكن الخلاف فيها أبدا بسبب التوجه الديني لمعتنقي أيّة ديانة، بل كان سببه اجتماعيا اقتصاديا، تغذّيه تدخلات أطراف معروفة برغبتها في الإبقاء على عدم استقرار مالي. كما أنّ الجمعيات والأحزاب والرابطات الدينية، نشأت ونشطت تحت بند العلمانية، ولم يمنعها ذلك من ممارسة نشاطها. يستخلص من هذا أن هناك أطراف رغم أنها تفرض مبدأ العلمانية في دولها، تريد أن تجعل منه محل خلاف مصطنع في مالي ليكون ورقة ابتزاز للسلطة الانتقالية، والسلطات المنتخبة فيما بعد، خاصة وأنّ مشروع الدستور الجديد يسعى إلى إزاحة اللّغة الفرنسيّة نهائيا من التعامل الداخلي في مالي، وهي اللّغة التي سيطر بها المستعمر السابق على البلاد على مدار ستين عاما. في المحصلة، وحسب مهتمين بالشأن الداخلي المالي، فإنّ مشروع الدستور الجديد جاء نزولا عند طلبات الشعب المالي التواق إلى الانعتاق من الإملاءات الخارجية، ومن شأنه أن يساهم في الاستقرار الداخلي، واستعادة النظام الدستوري والحكم المدني، الذي سيعود بالضرورة على استقرار علاقات مالي بدول الجوار، ومنه تعاون أكبر في مكافحة الآفات وظاهرة الإرهاب التي هي أداة لتنفيذ السياسة الخارجية لدول بعينها في المنطقة، سواء أكانت من داخل القارة وتستعين بقوى خارجية، أو هي أصلا دول من خارج القارة.