في الفلسفة يقابل الصفر فكرة العدم، وهي أصعب ما يمكن تخيله، وبلغة الأرقام هو اللاشيء والفراغ، ولكن الفلسطيني الذي وصل إلى نقطة الصفر، جعل بعبقريته منه طاقة تكسر الصمت، فالحقوق الثابتة والكرامة الإنسانية لا تقبل الصفر، ومن هنا تنشأ الانتفاضات والمواجهات والتضحيات والمقاومة، ولكل هذا يحتضن الفلسطيني نقطة الصفر بكل شجاعة يلتحم معه، ويشتبك معه، وكما قال الكاتب الدكتور عبد الرحيم الشيخ في مديحه للصفر: لا يقال للمواجهة مواجهة إلا حين تلتقي الوجوه وتتناطح الجباه حرفيا، فتحدق في عين عدوك، تنفذ من بؤبؤه، هذه المواجهة من النقطة صفر، فهذا العدو قابلا للملاحقة وقابلا للثأر منه، الفلسطيني أعطى مفهوما للصفر أكثر مما أعطاه الفلاسفة الكبار أمثال ارسطو وفيثاغورس واينشتاين، فقد اربك المعادلات الصهيونية باختراعه الصفر الفلسطيني في تصديه للاحتلال، فهذا الفلسطيني هو صفر في الأسطورة الصهيونية الاستعمارية، وهو غير موجود أساسا، ولكن هذا الصفر تحوّل إلى كائن موجود وصعب، محمولا بتاريخ وزمان ومكان وحضور، إنها ثورة الصفر الفلسطيني. الصفر الفلسطيني أبطل مفعول القوة الصهيونية المتطوّرة والمدجّجة، قد انشغلت المؤسسات الصهيونية في التحليل والنقاش حول جيل فلسطيني لا يخاف ولا يهاب الموت، يصل الفلسطيني إلى نقطة الصفر على الحواجز العسكرية وداخل المستوطنات وحتى في السجون، وهذا ما أوحت لي به رواية المسافة صفر للكاتبة رانيا وشحة، وهي تكتب سيرة شقيقها الشهيد فادي وشحة الذي أصيب برصاص جيش الاحتلال يوم 16-5-2021 وظلّ يعاني من إصابته حتى ارتقى شهيدا يوم 1-6-2021. رأيت الشهيد فادي الذي اعدم على المدخل الشمالي لمدينة البيرة خلال المواجهات والتضامن مع الأسرى، يجلس على ركبتيه كأنه يصلي، كوفيته السمراء المرقطة دلت القناصة عليه، كان يحدق بكبرياء النسر في جنود الاحتلال الذين أحاطوا به، لقد حقّق الشهيد فادي تطابق في المعنى بين الدم والأغنية، بين الموقف والموقع، وفي تلك اللحظة كان دم فادي ينتفض في القدس، في الشيخ جراح وجبل صبيح وباب العامود وغزة. وعندما تتبعت مسيرته في الرواية وهو يتمنى أن يكون له ابنا يسمى بارود، وجدته يعود اكثر من مرة من الموت إلى نقطة الصفر في أي مواجهة متسلحا بحجر أو بندقية إو صرخة، يضع فادي عينيه في عين الموت، الالتحام جسدا وروحا، لا يرتجف، يرفع علم فلسطين فوق مستوطنة، يخوض الاضرابات عن الطعام في السجون، يقص الاسلاك ويخرج من الدائرة، يقول فادي: اردت أن أحيا حياة الانسان غير المهدّد بالخطر الدائم، أتوحد مع الأرض واعود للتراب، كي اخلق من جديد وارى زوال الاحتلال، واعود حرا الى حبيبتي المنتظرة. كيف استطاع الشهيد فادي أن يجمع كل أسباب الحياة والموت مرة واحدة، السجن سنوات وسنوات، المطارد دائما في النوم واليقظة، المشتبك دائما، المسافات بينه وبين جنود الاحتلال هي صفر، المسافات بين قلبه وقلب حبيبته صفر، المسافات بين دمه ودمه هي صفر، المسافات بينه وبين صديقه وتوأم روحه الشهيد معتز هي صفر، وظلت المسافة صفر حتى الطلقة الأخيرة. أين فادي وشحة؟ في جامعة بيرزيت، في المظاهرة، في السجن، في سهول ووديان قرية بيرزيت، في الدنيا أم في الآخرة، لا بد من المشي الى الأمام، يقول فادي، يدي ما انفكت تقبض على حجر، نحن الفلسطينيين مشاريع شهادة مؤجلة، وسوف نبقى نقاوم الى ان يحين اختطاف انفاسنا، اقتربوا اكثر واكثر حتى المسافة صفر، لا مساومة ولا مقايضة على حقوقنا العادلة، المسافة صفر في الشوارع والساحات، الموت حياة، بقعة حمراء على رأس فادي، كانت المسافة صفر بين فوهة بندقية القناص الصهيوني ورأس فادي، حينها هتف فادي: لقد امتلأت بالشهداء وقررت أن تكون مسافة الصفر مع المحتل غايتي، وصعد بدمه المقدس إلى السماء. لم ينتبه هؤلاء الغزاة الذين جعلوا المنفى اسطورة، ليعودوا إلينا منفيين اكثر في لاهوتهم الطارد للبشر والحياة، كما قال شاعرنا المرحوم سميح القاسم منذ بداية البدايات: أن باستطاعة من وصفوهم بالحطابين والسقائين والمتخلفين والبدائيين أن يغنوا للفأس وللشجرة، يحملون فؤوسهم ويقلعون جذع الاحتلال، وها أنا اقترب من المسافة صفر لأنسف خرافة الاحتلال، يقول فادي، اسيطر عليه إنسانيا وثقافيا ووجوديا واهزمه حتى لو اطلق النار، المطلوب أن اكسر الدهشة والتردّد واخلع ثوب العبد وارتدي ثوب القتال، المطلوب ابسط كثيرا من كل التحليلات والثرثرات، المطلوب هو القرار. المسافة بيننا وبين أراضينا تبتعد، اقدامنا لم تعد تطأ الأرض، نعيش غريزيا وننسحب شيئا فشيئا امام زحف المستوطنة، هناك شيء مخيف يجرف عقولنا ويجعلنا ما دون الصفر، كأنهم حسموا ادراكنا بالقوة العنيفة تارة، وأخرى بالقوة الناعمة، لهذا اقتربوا من الموت لتكسروا هيبة الموت، يقول الشهيد فادي، فبداية الاستسلام والتراجع دائما هو الخوف، تقرير المصير ولادة صعبة وحاسمة لخلق الكينونة وحماية الهوية، هكذا تولد الشعوب وتؤسس الحضارات وهكذا يكون للتضحيات معنى وصوت وثقافة. الوصول الى نقطة الصفر هي القدرة على تفكيك نظام السيطرة والهيمنة، ليس إدارة السيطرة، إدارة التهميش كما يفعلون، هي نقطة التوازن واحلال الفلسطيني في الرواية والمشهد الوطني وهزيمة التطبيع، هزيمة الترحيل المادي والفكري ومواجهة سياسة الانكار والإبادة، الفلسطيني غير قابل للإزالة أو الاستحواذ، أو الطرد أو العزل في تجمعات صغيرة يظهر بلا وجه وبلا صفة إنسانية. يقتلنا الديكور في الحاضر وقبل أن يطل المستقبل، هناك مسافة باقية لم نصلها، هناك وقت حتى نجمع عظامنا ونكتب الماضي في القادم من أيامنا، لازلنا نموت أمام الجدران والاسلاك الشائكة، لازلنا نموت في السجن، لا وقت للاحتفال أو الاستعراض أو الاستعجال في إنهاء الرواية ووضع الخاتمة. لا تضعوا الشهداء في المتاحف، يقول فادي وشحة، المتاحف قبور الذاكرة الصامتة، خذوهم الى الهواء الطلق، حينها تعرفون لماذا تتحرك اغصان الشجر، ويهطل المطر صيفا، اجعلوا للحرية قيمة عظمى وحرروها من قبضة الشعار الذي صار بديلا عن الحرية، حرروها من الالفاظ المتضخمة التي صارت بديلا عن لغة التحرير، المعركة مستمرة، ابطالنا في السجون لم يعودوا، شهداؤنا لم يعودوا، اجلوا الاحتفالات وتوزيع الأوسمة. ولأنهم لازالوا يجتمعون في دبابة، ولأنهم يتمترسون خلف الأبراج والحواجز ومناظير القناصة، ولأنهم لم يهزموا مخيم جنين ولا حي الياسمينة في نابلس، ولأنهم كلما حان وقت الصفر انفرجت الصلاة في القدس عبادة وانتفاضة، ولأن عدي التميمي لم يسقط جسدا وروحا ورصاصة، ولأنهم لم يستطعوا إيصال الاسرى في السجون الى صفر الاستسلام اخلاقيا وانسانيا حتى ضجر حارس السجن وتحرك الجدار والبوابة، ولأنهم لم يكتشفوا نفق الحرية في سجن جلبوع، ولا نطفة الأسير وليد دقة والتي تحوّلت إلى طفلة اسمها ميلاد جمالا وحياة ورشاقة، ولأنهم لازالوا خائفين من كل جيل فلسطيني يعلن التمرّد منذ لحظة الولادة، سيبقى هؤلاء المستعمرون سجناء المعسكر والقلق الوجودي وجنون الخرافة، هذا ما أدركه الشهيد فادي وشحة، فالحلم لا يموت ولا تنتهي ذخيرة الإرادة. عندما زرت والدة الشهيد فادي وشحة في بلدة بيرزيت، أردت أن الملم ظلاله المنعوفة في الشوارع والحقول وفي هذه الرواية، أردت أن أسمع صوته وأبحث عن ذخيرته وأراه من وراء الجبل أو من الوادي أو من تلك الزنزانة، أو من مقعد الجامعة، قالت لي والدته: لن تجد فادي هنا، لقد عاش في الجبل أكثر مما عاش في البيت، فكم اعطاني هذا الشهيد شوقا وحبا للموت المشتهى، الموت برجولة وكرامة، وفي نبوءة ثورية مشتعلة.