خلال كلمته المؤثّرة في جنازة الشهيدين الشقيقين ظافر وجواد الريماوي اللّذين أعدما على يد قوات الاحتلال يوم 29 / 11 / 2022، تلك الفاجعة التي هزّت الأرض والسماء، تمنّى عمّ الشهيدين الأسير ظافر الريماوي الذي يقبع في سجون الاحتلال منذ عشرين عاماً. لو انتظر الشّهيدان قليلاً وتأخّر الموت على أمل أن يلتقي بهما في رحاب الحرية الشاملة، وزوال الاحتلال الذي يرتكب الجرائم المنظمة بحق أبناء شعبنا الفلسطيني، عوقب الأسير ظافر بزجه بالزنازين الانفرادية لأنّه طلب من الموت الانتظار، وحلق بذاكرته إلى الحياة الخالية من القيود والمعاناة بكل ثقة ويقين وأمل بصوته الموجع الذي كسر الغياب والفقدان. لم يدرك ظافر الريماوي أنّ هذا الجيل الفلسطيني لم يعد قادراً على الانتظار، الدماء في العينين وفي القلب والعقول، الجثث تتناثر في كل مدينة وقرية ومخيم وشارع، الحياة في الأرض الفلسطينية أصبحت رهينة لبندقية مستوطن وجنون قنّاص، رائحة الموت في الليل والنهار تنتشر على يد جنود برابرة يمارسون محاكم الإعدام الميدانية على مدار الساعة، وما يجري هو إبادة دموية فردية وجماعية بحق الشعب الفلسطيني، القتل المتعمّد، ذبح الناس بتعليمات وبتشجيع من كل المستويات الرسمية في الكيان الصهيوني، شهوة الذبح والتطرف وتطهير الآخرين تنتشر في كل مكان. من ينتظر يموت ويعدم، من لا يحمل فاسه وحجره يقتل، من ينام ولا يحلم بفجر خال من القتل والمداهمة يقتل في سرير النوم، الفاشية الصّهيونية المسلحة على الأبواب، الوباء الاحتلالي والعنصرية والهمجية تجتاح البلاد، فكان عام 2022 هو عام الدم وسفك الأرواح الذي حطم الرقم القياسي منذ سنوات. جيل فلسطيني مختلف، جيل لا ينتظر، يهاجم ويسير إلى الأمام، جيل يدرك أنّ الإبادة الصّهيونية لم تعد فقط جسدية وإنما إبادة سياسية، موت سياسي للقضية الفلسطينية وحقوقها العادلة، موت للتاريخ وللزمان والمكان، موت هوية شعب يدفن في المجهول، إنّه جيل يشعل هذه الدماء الغزيرة، ويجعل من الموت بشرف وكرامة هدفاً للحياة، جيل يرسل إشارة للجميع تقول: إنّ المراوحة في الجمود والعجز والتكيف والتوسل هو أخطر من الإعدام، لا بد من حريق والخروج من هذه الغابة المعتمة، الانتظار لا يعني النجاة. جيل فلسطيني لا ينتظر حتى يذل على الحواجز العسكرية ونقاط التفتيش، لا ينتظر حتى تقلب جرافة الاحتلال حياته وأرضه ومستقبله، جيل لا ينتظر حتى يتعفّن في السّجون والزنازين، ويضيع في المعازل وبين الجدران والمؤبدات، جيل يهدم القديم التقليدي في لغة السياسيين وبرامج التنظيمات التي شاخت واستهلكت وفقدت الواقعية في لغتها وخطابها السياسي، وهكذا يبدأ التغيير، وهكذا يبنى تاريخ آخر، المعاناة المتراكمة والعميقة تفجّر الصّخور والضلوع، وتخلق أنبياء جدد يوقدون النار ويجمعون الحطب، ويبشّرون بالبعث والنشور. أبشّركم بالانفجار الكبير، عندما تصبح المسافة صفرا بين الحياة والموت، ويسود القتل والسلب والنهب والاستيطان عندها يحدث الانفجار الكبير، فلا شيء يولد من لا شيء، تراكم من الفجع والقهر والحرمان يحرك الجبال، حتى الفراغ فيه طاقة وحركة وضوء ولا شيء يذهب إلى العدم، لهذا أبشّركم بالانفجار الكبير. من راهنوا على ثبات الحالة السياسية خسروا، هناك حياة تغلي في اللحم والعظم والتراب، رياح ساخنة تهب من الشمال والجنوب وفي كل اتجاه، هناك من نهض ليقاوم بقبضة يده كما الشهيد عمار مفلح، وهناك من يرفض السّقوط حتى الشهقة الأخيرة كما الشهيد عدي التميمي، وهناك من يحرس فجر اللاّجئين في المخيم كما الشهيد عمر مناع، وهناك من يقاوم بالصلاة والصبر في ساحات القدس الشريف، الكرامة والإرادة قوّة تستطيع أن تهاجم مستوطنة وتتصدى لقطعان المستوطنين، لا حساب لموازين القوى عندما تصبح المسافة صفر، للموت يصبح معنى في تلك اللحظة، وما يحدث في جنين ونابلس تهتز له تل أبيب، لهذا أبشّركم بالانفجار الكبير. سقطت التنبؤات الصهيونية الأمنية والعسكرية على لسان قائد الشرطة الصهيونية في القدس عندما اعترف أنّه يوجد جيل فلسطيني مختلف، جيل يمارس العمل والتعليم والمقاومة، جيل لم يستطيعوا رصده في أهدافهم وملفاتهم، جيل يصعب السيطرة عليه، جيل لم ينصهر في الحل الصهيوني ويتحوّل إلى جيل من العبيد، لهذا أبشّركم بالانفجار الكبير. تضخّمت المعاناة، الجنازات كثيرة، موجات تولّدت تخترق الحاجز السياسي والمادي والنفسي، موجات فلسطينية لها ضوء قادر على الخلق والانبعاث والتجديد والولادة، فالحرية لا تنتصر بإقناع الأعداء وجعلهم يرون النور، بل بزوال أعداء الحرية على يد جيل وجد نفسه في المربع صفر. أبشّركم بالانفجار الكبير، جيل فلسطيني لا يستجدي العدالة الكونية ولا ما يسمى الشرعية الدولية، لأنها عاجزة وأصبحت قراراتها مجرّد غطاء جميل على فراش ميت، الشرعية الدولية لعبة الشعوب الضعيفة، وملهاة المستضعفين الذين يتوهون في اللغة المزدوجة المتوارية. أبشّركم بالانفجار الكبير، وسيكون انقلاباً على الليل والاحتلال والمصالح والحسابات الضيقة، وسيكون نقمة على من اعتقدوا أن الاحتلال دائم، ولم يعد هناك أبواب ولا نوافذ في المدينة. أبشّركم بالانفجار الكبير، جيل فلسطيني لسان حاله يقول: أيّها الناس نريدكم أن تكونوا مبدعين في الحياة وفي الموت، ولا نريدكم أن تكونوا جثثاً وأرقاماً، هناك ناس يولدون بعد موتهم كما قال الفيلسوف نيشته. أيّها الناس هناك صاعقة، ولا يمكن أن تتجدّدوا إذا لم تشتعلوا وتصبحوا رماداً، وتستنطقوا الأرض باللهيب، وإن أقرب الطرق بين الجبال هو الخط الممتد من ذروة إلى ذروة، اشحذوا مناجلكم، واقفزوا فوق المتردّدين والمتأخرين، هناك صاعقة. أيّها الناس إنّ إرادة الحرية وحدها تحرر، فلا شريعة غيرها، فالموت في سبيل الحرية ليس انكساراً، فلا أحد يسقط عندما يبلغ الانتصار. أيّها الناس أبشّركم بالانفجار الكبير، ألم تلاحظوا أن في باطن هذا العام، عام الشهداء، قوى خفية وكثير من الأسرار؟ انفجارات من الأعماق، أجيال جديدة، وعي جديد، ينابيع تتدفّق من مجاهل الأغوار والأدمغة. أبشّركم بالانفجار الكبير، ابتعدوا عن الذين يدفنون البطل الكامن في نفوسهم، تلك القلوب الخائرة والأفكار العاجزة، لا تنتظروا ولا تقبلوا أي شيء يعرض عليكم حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً، كونوا الفاعلين وابحثوا عن الذين يسيرون في الطرق الحاسمة. قال الشاعر أحمد شوقي: ففي القتلى لأجيال حياة وفي الأسرى فدى لهم وعتق وللحريّة الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق