أعترف بداية بأنّني لا أحمل لوزير الخارجية الجزائري السيد أحمد عطاف مودّة خاصّة، حتى ولو لم يكن الأمر بالعكس. لكنّني رأيت أنّ واجب الأمانة الفكرية والنّضالية يفرض عليّ أن أتوقّف لحظات عند خطابه الموفّق في مجلس الأمن، وهو المجلس الذي كاد يكون مجلس اللاّ أمن أو "مدلس" الأمن. وما يهمّني في هذا الخطاب على وجه التحديد هو أنّني رأيته ردّا ذكيّا، بدون أن يدّعي ذلك، على موقف وزير خارجية الكيان الصّهيوني، الذي تميّز وتألّق بأن ألغى لقاءه مع الأمين العام للأمم المتحدة بحجّة أنّ "أنطونيو غوتيرش" انتقد القصف الصّهيوني لغزة، وبرغم أنّ المسؤول الأممي لم يتوسّع في رسم صورة المأساة التي دمّرت مدينة هاشم على رؤوس مواطنيها بوحشية صهيونية لم تعرفها حتى وارسو وبودابست في الحرب العالمية. وكان مبرّر الدّيبلوماسي الصّهيوني في سخطه على غوتيرش هو أنّ الدّيبلوماسي البرتغالي روى ما يعرفه العام والخاص، وما تتعامى عنه القوى الغربية من أنّ "العنف في غزة لم يحدث من فراغ، وأنّ الفلسطينيّين يتعرّضون ل 56 عامًا من الاحتلال". وقال الرّئيس السّابق لوزراء البرتغال في كلمته أمام مجلس الأمن الدولي في نيويورك، الثلاثاء، إنّه "يشعر بقلق عميق إزاء الانتهاكات الواضحة للقانون الإنساني الدولي التي نشهدها في غزة". وكشف غوتيرش نفاق التّعامل مع المدنيّين الفلسطينيّين قائلا إنّ: "حماية المدنيّين لا تعني الأمر بإجلاء أكثر من مليون شخص إلى الجنوب، حيث لا مأوى ولا طعام ولا ماء ولا دواء ولا وقود، ثم الاستمرار في قصف الجنوب نفسه".... نفس الأساليب النازية.... وتابع قائلا: "دعوني أكون واضحًا: لا يوجد طرف في نزاع مسلّح فوق القانون الإنساني الدولي". هنا يأتي خطاب الوزير الجزائري، الذي تحدّث وهو يتمزّق ألما، وأمام ناظريه صور أبناء غزة يكتبون أسماءهم على أيديهم ليمكن التعرف عليهم عند ارتقائهم للشهادة، ولكنه لم يذكر بهم حتى لا يمنح "العلوج" فرصة الشعور بأنه هناك محاولة لاستدرار دموعهم واستجداء شفقتهم، فدموع التّماسيح هي آخر ما ينتظره العضو الجديد في مجلس الأمن. وبيت القصيد في هذه السّطور هو أن المندوب الجزائري لم يُشر إطلاقا بشكل مباشر لموقف ممثل الكيان الصهيوني الوقح، الذي تطاول على الأمين العام وطالب باستقالته لأنه لم يتعامل مع القضية بمكيالين، بل ركّز في مداخلته على تذكير أعضاء المجلس بحقائق تاريخية، المؤكد أنها كانت "دوشا" باردا كشف تقصير وتهاون بل وتواطؤ من يدّعون أنهم حماة الأمن في العالم. وندّد عطّاف "بالتهميش شبه الكليّ للقضية الفلسطينية، وتنامي التقليل من شأنها على الصعيد الدولي، ومن جهة أخرى التسامح غير المبرّر للاحتلال الصهيوني ومنحه حصانة مطلقة، غير مقيّدة وغير مشروطة وبدون وجه حق". وبكل هدوء وبدون البلاغيات التي نمضغها ونجترّها ونتقاذفها في كثير من خطبنا، وأصبحت تثير النفور بدون أن تحقّق الهدف المطلوب منها، لأنّها "عنتريات ما قتلت ذبابة"، قدّم الوزير الجزائري تحذيرا يذكر مجلس الأمن بمسؤولياته التي تقاعس عن القيام بها، وأوضح بكلمات بالغة البساطة عميقة الدلالة أنّ القضية الفلسطينية "أصبحت مؤخّرا رهينة وهمٍ في غاية الخطورة، وهو وَهْمُ البحث عن السلام والاستقرار في الشرق الأوسط على أنقاض الحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني". وأنا أعرف أنّ كثيرين عندنا كانوا يريدون من الوزير الجزائري أن يهاجم شبق البعض للتطبيع وهرولتهم نحوه وذلّتهم أمام الداعين له، لكن أحمد عطّاف أحسن صنعا عندما فضّل أن يتفادى تناول الغسيل القذر للوطن العربي أمام "إللي يسوى واللي ما يسواش"، وصبّ هجومه، برزانة مثالية، على مجلس الأمن نفسه، في شكل تساؤل بالغ الهدوء، قال للخمسة الكبار وبقية ال 15 عشر: أيرضى مجلسكم بالتراجع عن 87 قرارا تمّ اعتمادها منذ بداية هذا الصراع، لمجرد أن القوة القائمة بالاحتلال اختارت عدم الالتزام بها؟ أيرضى مجلسكم بأن تظل قراراته حبيسة هذه القاعة (في علبة كبريت نيو يورك) لا لشيء إلا لأن المحتل نصّب نفسه فوق أي محاسبة أو مساءلة؟ أيرضى مجلسكم بأن تنتهك جميع قراراته حول قضية فلسطين لا لشيء، إلا لأن المحتل يريد شرعية على المقاس، تنطبق عليه دون سواه؟". هذا الخطاب وضع المجلس أمام مسؤولياته بحزم وبديبلوماسية مرنة، ودمّر أكاذيب وزير الكيان الصهيوني بدون أن يبدو كملاسنة برع فيها البعض، بالإضافة إلى أنه ندّد ضمنيا بمن يقف وراء الكيان الصهيوني، ويشجعه بالقول والفعل والضغوط والمساومات، والتي وصلت إلى حد إرسال حاملات طائرات وأسلحة محرمة دوليا لمواجهة مقاتلين كان ذنبهم أنّهم حاولوا التذكير بمأساة دامت سنين وسنين. ولعلّي أظن، وبعض الظن فقط هو الإثم، بأنّ الأمين العام للأمم المتحدة حَمَدَ الله على وجود الجزائر في مجلس الأمن، ولو في موقع غير دائم، فقد تكفّلت بانتزاع حقّه من وزير الكيان، الذي تابع العالم كله وقاحته واستعلاءه بما ليس غريبا عن الأسلوب الصهيوني، الذي فاق النازية في وحشيته وغطرسته وإجرامه. ولن أتعرّض لبقية ما طالب به الوزير الجزائري، فأنا لستُ مراسلا صحفيا مكلّفا باستعراض خطب المندوبين، واكتفيتُ بما أردتُ التوقف عنده وهو فضح وزير الكيان الصهيوني وتطييب خاطر الأمين العام. ويبقى أن أقول بأنّ الدماء الغالية التي تُهرق على أرض الأقصى لن تذهب سُدىً، وبأن مَن تقاعسوا عن القيام بواجبهم، وهم يعرفون أنفسهم وتعرفهم شعوبهم، سيدفعون الثمن غاليا، وبأسرع ممّا يتصور كثيرون. ذلك ما أؤمن به، لأنّني أؤمن بأنّ المولى عز وجل «يُمْلِي لِلظَّالِمِ فَإِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ"، ومن أعان العدو على ظلمه بالسكوت عنه والتواطؤ معه ليس أقل ظلما ممّن قتل طفلا بريئا أو عجوزا متهالكا أو عروسا في أسبوعها الأوّل أو حاملا في أسبوعها الأخير. والتراخي إلى حد التواطؤ يصدمني أكثر من العدوان الوحشي نفسه، وقد كنت أتصوّر أنّ مجرد استدعاء السفراء من عاصمة الكيان للتشاور، حسب التعبير الديبلوماسي المألوف، قد لا يتطلب الكثير، لكنه سوف يعني الكثير، على ألاّ يتأخر أكثر من الكثير. وما زلت أنتظر وآمل وأرجو، ولعل ما عرفه ما سُمّي "مؤتمر السلام" يكون حافزا لاتخاذ خطوة أكثر إيجابية، وأتصوّر أنّ "مؤسّسات فعّالة وفاعلة" في الوطن العربي تريد من السياسيين القيام بخطوة مُشرفة ضرورية لحماية المصالح الإستراتيجية للأمة، وشرفها وكرامتها ورفاهية مجتمعها في المقدمة، وأمنها القومي هو عمودها الفقري، وليس سرّا أن هاجس الأمن الوطني هو من أهم مسؤوليات تلك المؤسّسات، التي تنتسب لأمة من حقّها أن تكون خير أمّة أُخرجت للناس. والمجد والخلود للشّهداء ولا قرّتْ أعين الجبناء.