تدعّمت المكتبة الوطنية الجزائرية، في الآونة الأخيرة، بصدور موسوعة (تُحفة السالك إلى خير المسالك)، المتضمّنة مجموع الفتَاوَى والإرشادات التي كان يشرف على إعدادها وتقديمها بإذاعة وادي سوف، الفقيه العلاّمة الشيخ محمد عزّ الدين عبّاسي (1930-2014) منذ انطلاق بثّ ذات الإذاعة في 21 نوفمبر 1996، واستمر برنامجه إلى غاية أواخر 2013،أيّ قُبيل وفاته بأشهر معدودات، وتحديدا يوم 01 فيفري 2014، وهذا طيلة (17 عاما)، وصدرت في ثلاث مجلدات فاخرة، بما مجموعه (2036 صفحة). وقد تشرّفت دار سامي للطباعة والنشر والتوزيع بولاية الوادي بطباعتها في حُلة أنيقة، بإشراف وتحقيق نجله الدكتور أحمد المبارك عبّاسي الذي أخرج إنتاج والده ودُرَره الفقهية بعد وفاته - رحمه الله- ليكون لهما من العلم الذي يُنتفع به، وقد أهدانا مشكورا نسخة من هذه الموسوعة القيّمة والمتميّزة، مشفوعة بكلمات من القلب، جاء فيها:''إلى الأخ الفاضل المحترم والأستاذ الكاتب القدير فوزي مصمودي مدير المجاهدين لولاية الوادي حفظه الله مع رجاء الدعوات''. وقد قام بتقريظ هذه الفتاوى الدّسمة - التي يغلب عليها الطابع العلمي والأسلوب الأكاديمي - كلّ من الدكتور وائل بكر الشنشوري من جمهورية مصر العربية الشقيقة، والأستاذ الدكتور محند أوإيدير مشنان من الجزائر، إلى جانب مقدّمة للشيخ المفتي وأخرى لنجله الدكتور أحمد المبارك عبّاسي. ومن شدّة برّه بوالديه الكريمين، فقد أهدى العلاّمة محمد عزّ الدين عبّاسي عمله إليهما، مستفتحًا ذلك بقوله: ''بكلّ فرح وسرور، وغبطة وحبور أهدي كتابي هذا إلى من علّمني فأحسن تعليمي، وربّاني فأخلص في تربيتي، وجاع لأشبع، وشقي لأسعد، وسهر لأنام، وزرع لأحصد، إلى والديّ الكريمين تغمّدهما الله برحمته الواسعة''. ولوفائه لشيخه الشهيد إبراهيم بن سليمان كلكامي (1912 1957) الذي درس عليه ببلدته الزقم بربوع وادي سوف، وأخذ عنه قسطا وافرًا من العلم، فقد أهدى إليه باكورته العلمية، معتبرا إيّاه ''شيخ لشيوخ الشهيد''، و''صاحب الكرامات'' وفي موضع آخر خاطبه ب''العارف بالله''. دون أن ينسى كلّ مشايخه من "المتقدّمين والمتأخرين"، والأستاذ محمد فوزي القروي "الذي وسّع الناس بأخلاقه وأدبه وسماحته وتواضعه وإحسانه يدا ولسانا"، كما خصّ الشيخ محمد شادو بإهداء واصفا إيّاه ب''الشيخ الوقور محمد شادو مربّي الأجيال الإمام القدوة والرجل الذي أحبّ المسجد فأحبّه المسجد''. ترجمة الشيخ عز الدين عبّاسي وتعلّمه: في ربوع حاضرة الزقم ببلدية حسّاني عبد الكريم بولاية الوادي، ولد العلاّمة الفقيه الشيخ محمد عزّ الدين عبّاسي بن مسعود بن محمد، وابن السيدة فطوم بنت محمد عرشي عام 1930، نشأ في كنف عائلةٍ تدرك قيمة العلم وتعرف فضل أهله وكيف حثّ الإسلام عليه وبيّن دوره في المجتمع كضرورة للتقدّم والرقيّ.. وقد وقف عليه والده ووالدته ليستظهر كتاب الله كاملا، وليتزوّد بالعلم الشرعي وينهل من الثقافة الإسلامية ومَعين اللغة العربية، في ظلّ الاحتلال الفرنسي الغاشم الذي كان يحارب كلّ توجّه عربي وإسلامي، ومضيّقا الخناق على المدارس العربية الحرة والمساجد والزوايا. وقد تمكّن الصبيّ محمد عزّ الدين من حفظ القرآن الكريم على يد والده الشيخ مسعود الذي كان إماما ومعلّما ومربّيا وداعيا إلى الله بالزقم، ولم يتجاوز عمره آنذاك ال12 عاما، ويؤكّد هذه الحقيقة أثناء حديثه عن والده وأستاذه الأول بقوله: ''ومنه حفظتُ القرآن الكريم.. وأخذتُ عنه كذلك مبادئ في علوم التوحيد والفقه والنحو واللغة العربية وما إلى هذا''. وبموازاة مواكبة ورعاية والده له، فقد كانت والدته حريصة كذلك على أن يستكمل ابنها حفظ القرآن الكريم، فكان كلّما عاد إلى البيت قادما من الكُتّاب يقرأ عليها ما حفظ، وظلت ترنو إلى استيعاب قُرّة عينها لكتاب الله حتى وافاها الأجل عام 1948، قبل والده الذي لحق بربه في أواخر شهر الثورة نوفمبر 1954. كما تتلمذ على يد العلامة الشهيد إبراهيم كلكامي الذي استشهد خلال المجازر المروّعة التي عاشت أيامها الدامية منطقة وادي سوف خلال شهر رمضان الموافق شهر أفريل1957، وذهب ضحيتها ما يقرب من 140 شهيدا على يد الإجرام الفرنسي. ولأمانته العلمية، فقد أكّد مترجمنا ذلك بقوله: ''ثم أكملتُ بقية دراستي بما يسّره الله جلَّ وعلا على تلميذ الوالد الشيخ العارف بالله الشهيد إبراهيم بن سليمان كلكامي رحمه الله''. في رحاب جامع الزيتونة بتونس بعد ذلك، التحق بجامع الزيتونة بتونس الذي لبث فيه خمس سنوات، حيث تتلمذ على يد نخبة من علمائه الكبار الذين قال عنهم: ''شيوخا صدقوا ما عاهدوا الله عليه من الورع والتقوى والتضحية في سبيل نشر العلم من الأخلاق الفاضلة والتواضع والتبحّر كلٌّ في اختصاصه''، وكان منهم العلماء الشيوخ: محمد الطاهر بن عاشور، محمد بن الهادي القاضي، محمد البشير النيفر.. وغيرهم، إلى جانب استفادته العلمية من أساتذة وعلماء معهد الخلدونية بالعاصمة التونسية. وخلال دراسته بتونس، كان له نشاط طلابي، ثقافي وعلمي واجتماعي، حيث انخرط في جمعية الطلبة الجزائريين الزيتونيين، كما انضم إلى جمعية الطالب السوفي. بين التعليم والشؤون الدينية والأوقاف بعد تخرّجه في الزيتونة بتونس، اتجه صوب العاصمة الجزائر، حيث التقى بعدد من قادة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وكان واحدا من أعضائها والمتأثّرين بفكرها، على غرار الشيوخ: الشهيد العربي التبسي، العباس بن الشيخ الحسين، الحفناوي هالي، أحمد حمّاني، إبراهيم مزهودي.. حيث تم تعيينه معلّما بالمدرسة العربية الحرة التابعة للجمعية بمدينة سيق بولاية معسكر حاليا، ومنها بمدينة وهران لذات المهمة. وبعد حلّ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وإغلاق مدارسها ونواديها ومؤسساتها الثقافية والتربوية من قبَل الاحتلال الفرنسي الغاشم، عاد الشيخ إلى مسقط رأسه بالزقم ليباشر التعليم القرآني بالمسجد الغربي. بعد الاستقلال، مكث لفترة وجيزة معلّما، وتحديدا بمدرسة (المحطة) الشهيد نصرات حشاني بمدينة الوادي، ومنها بمدرسةٍ بالبرواقية، وسرعان ما التحق بوزارة الشؤون الدينية والأوقاف عام 1966 في عهد وزيرها المؤرخ والكاتب الشيخ أحمد توفيق المدني، حيث تقلّد عديد المناصب والوظائف؛ مفتشا وناظرا ومديرا على التوالي، في عدد من الولايات، على غرار: بسكرة، ورقلة، عنابة، قالمة، سوق اهراس، تبسة، الطارف، تمنراست، الأغواط، الوادي، هذه الأخيرة التي تقاعد بها عام 1992. وبموازاة ذلك، فقد كان له حضور في عدّة طبعات من الملتقى الفكر الإسلامي، وكانت له لقاءات بعديد العلماء والمفكرين على غرار الشيوخ: محمد الغزالي، يوسف القرضاوي، الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي.. وغيرهم، إلى جانب المقرئين الكبار كالشيوخ: عبد الباسط عبد الصمد ومحمد صدّيق المنشاوي ومحمود خليل الحصري.. إضافة إلى مشاركته في حديث الإثنين الذي كان يبثّه التلفزيون الجزائري وهذا خلال الثمانينيات. مضمون الفتاوَى استهلت الفتاوى بتقريظ للدكتور وائل بكر الشنشوري الذي أثنى من خلاله على نجل الشيخ المفتي: ''وها هو أخي وصاحبي الحبيب فضيلة الشيخ الدكتور أحمد المبارك العباسي حفظه الله، انتهى من عمل قيّم يدلّ على براعة الوالد رحمه الله في الفقه وتمكّنه، واستحضار الأدلّة، مع الورع والتقوى.. وقد أجزتُه بمروياتي عن مشايخي..''. أما الأستاذ الدكتور محند أوإيدير مشنان، فقد أكّد أنّ هذه الفتاوى اعتمد صاحبها على مذهب إمام دار الهجرة الإمام مالك رضي الله عنه الذي يسود بلاد المغرب منذ القرون الهجرية الأولى: ''وقد اختار أسلافنا في ربوع الغرب الإسلامي المذهب المالكي، مذهب أهل المدينة، وعملوا به في عباداتهم ومعاملاتهم وسائر شؤونهم، متفتّحين على المذاهب الأخرى.. وفي هذا السياق النبيل، والسعي المحمود، اتجهت عناية الأخ الكريم الدكتور أحمد المبارك العباسي حفظه الله تعالى، إلى تجديد العناية بالموسوعة الفقهية النوازلية لوالده الشيخ الفقيد الأريب، والأديب اللبيب، الأستاذ العلاّمة محمد عزّ الدين عبّاسي..''. عمل المحقّق في هذه الموسوعة الفقهية اعتكف المحقّق الدكتور أحمد المبارك عبّاسي، طيلة سنوات، على جمع كلّ فتاوى والده التي أجاب من خلالها على أسئلة واستفسارات السادة والسيّدات مستمعي إذاعة سوف، وأعاد تنقيحها وتبويبها وتنظيمها، كما قدّم ترجمة وافية لصاحبها مركِّزا على مكانته العلمية كأحد فقهاء وعلماء الجزائر، كما قام ب: - عزو النصوص القرآنية إلى سُوَرها، معتمدا على رواية ورش عن نافع. - التخريج الموجز للأحاديث النبوية، بحيث إذا ورد نصّ في الصّحاح اكتفى بالإحالة إليه، وإن ورد في غير الصحاح حاول الإحالة إليه في مصادره، مع البحث في درجة الحديث من حيث القَبول والرّدّ. - التعليق على مضامين بعض الفتاوى بشرح المصطلحات التي يصعب فهمها. - توثيق النُّقول التي هي من كلام أهل العلم من مصادرها والتعليق عليها. - إزالة التكرار اللفظي في المسائل، مع تصحيحه بعض أخطاء النسخ؛ كتكرار كلمة أو إسقاطها من العبارة.. - وضع الفهارس المتنوّعة. - إعادة تثبيته الآيات القرآنية بما يوافق رواية ورش عن نافع، المعتمدة ببلاد المغرب عموما. تبويب الفتاوَى وحتى يُيَسِّر المحقّق عملية الوصول إلى محتوى هذه الموسوعة الفقهية والاستفادة من مادتها الشرعية، فقد قام بجمعها ثم توزيعها على أبواب متخصّصة، وكلّ باب احتوى على مجموعة من الأسئلة المذيّلة في أغلبها برموز أسماء سائليها مع إجاباتها وفتاويها. ورغم أنّ هذه العملية مُضنية للغاية، وأنا على يقين أنّها أخذت سنوات من مسيرته البحثية والأكاديمية، إلا أنّه قدّم خدمة جليلة للباحثين والأساتذة والمربّين والأئمة والدعاة وعموم القراء بهذا الإنجاز المتميّز والعمل المُتقن في مجال الفقه الإسلامي المعاصر، لذلك ضمّ المجلد الأول عديد الأبواب، منها: التوحيد، التكليف الشرعي، النّية، الطهارة، الصلاة، المساجد وحرمتها، الجنائز، عذاب القبر، الحساب، الشفاعة، علم الغيب، الزكاة، السّلم والمصالحة، الصوم، الحجّ، الأضاحي، الأطعمة، الأشربة، الأيْمان والكفارات والنُّذور.. أما المجلد الثاني فقد توزّع على أبواب: النكاح، تنظيم النسل، النفقة، الطلاق، العِدّة، الرضاع، البيوع، الرّبا، التأمين، الكراء، الديْن، المعاملات المالية، الوقف، اللُّقَطة، الدماء، الحدود، القذف، الكذب، السرقة، الرّدة، السحر، سبّ الدين، الظلم، حبّ الكافر، التحليل والتحريم، الفتنة، الزنا والاغتصاب، الرشوة، الحسد، الرُّقية، الوسطية، التوبة.. فيما شمل المجلد الثالث أبوابا أخرى، منها: اللباس، خروج المرأة، الأعياد والاحتفالات، الأناشيد والمدائح، الرسم والتصوير، اقتناء الكلاب، حكم قراءة الكتب التبشيرية، النصيحة، الدعوة إلى الإسلام، حكم عدم التقيّد بالمذهب المالكي، برّ الوالدين، شهادة الزّور، صلة الرحم، حقوق الجار، الإيثار، طلب العلم، الأمانات، التعاون، السلام والتحية، الخوف من الله، مميّزات الشهيد، كفالة اليتيم، الإيمان والإسلام، الحرية، السيرة، التفسير، الحديث.. المركز الإسلامي بالوادي باسم العلاّمة عبّاسي واعترافا بفضله وتثمينا لجهوده الدّعوية وأعماله الإصلاحية في أوساط المجتمع السوفي والجنوب الشرقي الجزائري عموما، ومواكبته للمجتمع توعيةً وتربيةً وتوجيها.. لاسيّما من خلال فتاويه وأحاديثه الدينية بإذاعة سوف وإرشاداته بعديد مساجد الولاية، حتى أضحى مرجعا ثقةً ومفتيا لعموم المنطقة وأبنائها وبناتها.. وكذلك لعلمه الذي ملأ الآفاق.. فقد بادرت السلطات المحلية بإطلاق اسم هذا العلاّمة الجهبذ على المركز الثقافي الإسلامي بمدينة الوادي حتى يكون نبراسا للأجيال تقتدي به في بناء جزائر كما أرادها الشهداء والمجاهدون، وحتى يبقى اسمه حيّا في ذاكرة المجتمع. ما نتطلع إليه أن تُعاد طباعة هذه الفتاوى من قِبَل وزارة الشؤون الدينية والأوقاف أو المجلس الإسلامي الأعلى.. ويتم توزيعها على نطاق واسع لاسيّما المساجد والزوايا والمعاهد الإسلامية لتكوين الأئمة ومديريات الشؤون الدينية والأوقاف ومكتبات المطالعة العمومية الولائية عبر تراب الجمهورية.