خلف كلّ مشهد هي المشهد، في العميق الغائر منه وفي بؤرة الألم، تماماً كما هي في الروح والعقل والضمير، وتماماً كما كانت عبر التاريخ عنواناً لاكتمال الهيمنة على الكون، فما كان لإمبراطوريةٍ أن تُكمل سيطرتها وترفع علمها على اليابسة وتعلن سيادتها على البر إلا إذا اكتملت هيمنتها على القدس، هكذا كان الأمر مع البابليين والإمبراطورية الفارسية واليونانية والرومانية، وهكذا كان لابد من هزيمة الرومان لإعلان اكتمال عالمية الحضارة العربية الإسلامية، كما كانت الدافع والمحرّك والهدف البعيد لأحداث التاريخ، وفي أحيان أخرى ذريعةً لها كما في الحروب الصليبية، وكما في الهجمة الغربية الحديثة التي ما إن انتصرت في الحرب العالمية الأولى حتى غزلت خيوطَها من أجل الهيمنة الكاملة عليها وضمان استمرار هذه الهيمنة, فكان ما نعرف جميعاً من الأحداث التي غطت وفردت مساحاتها على مجمل القرن الماضي وما تزال، متمثّلةً في كلّ المحاولات والحروب والدماء والمحادثات والتحايلات التي أدّت إلى صناعة الكيان الصهيوني واستمرت بعد ذلك وما تزال من أجل استمرار بقاء هذا الكيان، وفي الطريق إلى ذلك جرفوا حرياتنا وأقواتنا وسيطروا على مفاصلنا وحرمونا من أيّ هواءٍ نقي قد يتسرب إلى رئتينا، ووقفوا يحرسون انسياب الحياة في أوردة الدم فينا ويقبضون على جدول الماء، ويحوّلون مجرى الأردن ويجفّفون منابع الآبار والآثار ويدمرون سجلاتنا ويقفون أمام انفتاح المشهد في آفاقنا ويضعون الحصى في حناجرنا وأحذيتنا، ويغلقون الدروب إلى الإسراء والتكنولوجيا، ويقيدوننا بهِبات القمح والمساعدات وشروط صندوق النقد، فمن أجل ذلك الكيان لا يهم ما يمكن أن يكون عليه شأننا وحالنا ولا مصيرنا وطرائق عيشنا، فهي الحاضر الظاهر الباطن في كلّ سياساتهم وأحلافهم ومنظماتهم واتحاداتهم وقراراتهم وهي السر الكامن وراء مواقفهم في المنظمات المحلية والدولية والتزاماتهم تجاه أمن الكيان، وهي أيضاً مهوى قلوبنا ومسقط روحنا وعنواناً للمقدس فينا وآية في كتابنا وقبلة أولى لأشواقنا وأيقونة لهويتنا وساريةً لعزّتنا، والمسكوت عنه شرطاً لكرامتنا، كأنّها المجاز في الكلام والاستعارة في معنى السيادة، والكناية في الثورات، كامنة هناك في أوّلِ المشهد، تُفصح عن نفسها بتلميح يليق بعذريتها، أو تضمينٍ ينسجم وقدسيتها، القدس هي حجر الزاوية الذي يشكّل ناظم الاكتمال وبواعث الانفعال، حجر يستدرجنا إليه لأنه شرط الجلال الذي يشترط فينا للوصول إليه اكتمالَ الجَمال.