@ س: يأتي عليَّ أحيان أستصغر فيها أمور الدنيا وأراني أستخدمها فقط، ولكنها ليست في قلبي أبدًا، فأجد نفسي أعمل فيها، ولكنَّ كلَّ همِّي وتفكيري في أمور تتعلق بالعبادة والزهد والتضحية والبذل، وأنَّ هذه الدنيا ليست إلا محطة، فيجب أن أعمل لأحصد، ولكنها ليست الغاية في ذاتها. ولكن بعد أن تأتي بعض المشاغل والمشاكل اليومية يجد الشخص نفسه يبدأ يفكر في الدنيا ويضعف سعيه للآخرة، ونيل الشهادة في سبيل الله التي على الأقل نسعى أن ننال أجرها إن صدقنا مع اللّه فماذا أفعل؟ @@ ج: أخي الفاضل إنَّ ما ذكرته من إقبالٍ على الآخرة، ثمَّ الانشغال ببعض أحوال الدنيا في بعض الأحيان أمرٌ بشريّ، فالإيمان يزيد وينقص، والهمَّة تقوى وتفتر، والإقبال على طاعة المولى عزَّ وجلَّ يقوى ويضعف، وهذه الزيادة وذلك النقصان في الإيمان لم يحدث معك أنت وحدك، بل حدث مع من وصفهم النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم بخير القرون. فها هو الصحابي الجليل حنظلة الأسيدي يقصُّ علينا تجربته في هذا الأمر فيقول: كنَّا عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فوعظنا فذكر النار، قال: ثمَّ جئت إلى البيت فضاحكت الصبيان ولاعبت المرأة، قال فخرجت فلقيت أبا بكر فذكرت ذلك له، فقال: وأنا قد فعلت مثل ما تذكر، فلقينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقلت: يا رسول اللّه! نافق حنظلة، فقال: ''مه''، فحدثته بالحديث، فقال أبو بكر: وأنا قد فعلت مثل ما فعل، فقال: ''يا حنظلة! ساعةٌ وساعة، ولو كانت ما تكون قلوبكم كما تكون عند الذكر؛ لصافحتكم الملائكة، حتى تسلِّم عليكم في الطرق'' (رواه مسلم). هكذا أخي الفاضل طبيعة النَّفس البشريَّة تتقلَّب وتتغيَّر بين الحين والآخر، وما علينا إلا أن نظلَّ يقظين عاملين على تهذيبها حتى نلفظ أنفاسنا الأخيرة ونحن لها مجاهدون. ثانياً: وصايا عملية: وهذه بعض الوصايا العمليَّة التي تساعدنا على التعامل مع فترات التراخي والخمول: لتكن فترتنا إلى سنته إذا ما أصابنا فتورٌ في الهمَّة وضعف في العزيمة ينبغي أن نلزم أنفسنا بالحدِّ الأدنى من الأداء ألا وهو المحافظة على الفرائض والبعد عن المعاصي، وذلك حتى لا نخرج عن الدائرة التي وضعها لنا النبي صلى اللّه عليه وسلم في أوقات ضعفنا حين قال صلى اللّه عليه وسلم: ''إنَّ لكلِّ عملٍ شِرَّة: النشاط والرغبة، ولكلِّ شِرَّةٍ فترة: الانكسار والضعف، فمن كانت فترته إلى سنَّتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك'' (رواه الترمذي بسند صحيح). الانطلاق عند النَّشاط وأمَّا في حالة النَّشاط والرغبة فعلينا أن نجد ونجتهد في العبادات ونكثر من النوافل، كصيام التطوَّع وقيام الليل والتصدُّق وغير ذلك من النوافل، وفي ذلك يقول الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي اللّه عنه إنَّ للقلوب شهوةً وإقبالاً، وإنَّ للقلوب فترةً وإدبارًا، فاغتنموها عند شهوتها وإقبالها، ودعوها عند فترتها وإدبارها نُحيل عاداتنا إلى قربات بأن نتوقَّف لحظاتٍ قبل كلِّ عملٍ لنضبط نيَّاتنا، فنُحيل بذلك أعمالنا اليوميَّة ومشاغلنا الحياتيَّة إلى طاعةٍ نتقرَّب بها إلى اللّه تعالى، فيحدث بذلك نوع من الانسجام في الشخصيَّة، فلا يشعر المرء بانفصامٍ بين مناشط الحياة اليوميَّة، ومناشط الآخرة ويظلُّ القلب مرتبطًا باللّه عزَّ وجلَّ في كلِّ حركةٍ وسكنة، فتصبح حياته كما قال تعالى: ﴾قل إنَّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي للّه ربِّ العالمين﴿. نتَّخذ صحبة صالحة فمصاحبة الصالحين والنظر إليهم يذكِّر المرء بالآخرة ويدفعه للعمل لها، وهذا ما جعل التابعي الجليل الحسن البصري يقول: إخواننا أحبُّ إلينا من أهلينا وبنينا، فإخواننا يذكِّروننا باللّه، وأهلونا يذكِّروننا بالدنيا، وقال رجلٌ لداود الطائيّ: أوصني؟ قال: اصحب أهل التقوى، فإنَّهم أيسر أهل الدنيا عليك مؤونة، وأكثرهم لك معونة. نبدأ بالطاعات الأقرب لنفوسنا: لكلٍّ منَّا بعض الأعمال والطاعات المحبَّبة إلى نفسه، ولا يجد مشقَّةً في أدائها، ويشعر من خلالها بالقرب من الله أكثر من غيرها من الطاعات الأخرى، فلنبدأ بهذه الطاعات، ونكثر من أدائها كأساسٍ للعودة إلى مرحلة النشاط والإقبال. نستعين باللّه تعالى فنكثر من الدعاء والابتهال إليه سبحانه أن يعيننا على طاعته وأن يهب لنا من لدنه عملاً صالحًا، ونلحُّ في ذلك ولا نملُّ أبدا. وختاما؛ نسأل اللّه تعالى أن يوفّقك لما يحب ويرضى، وأن يفقّهك في دينك وأن يعينك على طاعته، وأن يصرف عنك معصيته، وأن يرزقك رضاه و الجنة، وأن يعيذك من سخطه والنار، وأن يهدينا وإياك إلى الخير، وأن يصرف عنّا وعنك شياطين الإنس والجن إنّه سبحانه خير مأمول.