الحلقة (3) 5 التحول والتغيير: العملية ونقطة الارتكاز ننظر بعد الحصيلة الموجزة من الخير والشر لأقصر قرن عرفته الإنسانية في تاريخها المسجّل، ننظر في مسألة التحول الاجتماعي والتغيير السياسي التي يكثر الحديث عنها في بلادنا، وهي عند متابعة مجراها ومرساها من الخارج أشبه بعملية الإيض (métabolisme) التي تجري في جسم الكائن الحي في دورة الحياة من الميلاد إلى الهرم، أو في تعبير دارون عالم الأحياء الشهير تبدأ بالنشوء والارتقاء حسب قدرتها على التكييف، ثم الاندثار والفناء إذا عجزت عن ذلك. هل يمكن القول بأن التحول والتغيير في بنية المجتمع وكيان الدولة يخضع لقانون السببية كما هو الحال في ظواهر الطبيعة؟ أم أن الترابط بين الأسباب والنتائج أكثر تعقيدا، ومن الصعب على الملاحظ اكتشاف آلياته أثناء صيرورته الداخلية والأطراف الفاعلة فيه والمؤثرة في توجهاته؟ وما هو مصدر تلك التوجهات؟، هل هي رياح من الخارج؟ أم زوابع في الداخل أم تداخل بمقادير مختلفة بين المصدرين السابقين؟. أيا كانت الأسباب والنتائج، فإن التحول والتغيير لا يحدث بالصدفة أو بإرجاعهما للخوارق، إلا في أدبيات الخيال الإبداعي كما نجدها على سبيل المثال في الإلياذة والأوديسة والسيرة العنترية وحكايات أبى زيد الهلالي التي راجت قبل عدة عقود في أسواقنا الشعبية للترفيه والتنفيس. الحقيقة أن التحول والتغير عملية متواصلة ولا تتوقف في البنيتين الفوقية والتحتية، قد تتسارع وقد تتباطؤ، ولكنها في الحالتين لا تخضع لعامل واحد، كما ترى النظريات الحتمية (Déterminisme) التي ترجع كل ما يطرأ على أحوال الفرد والمجتمع إلى تشيئ (Choisme) ظواهر المجتمع أي تطابقها مع ظواهر الطبيعة (دوركايم) أو إلى الجدلية المادية والصراع حول ملكية رأس المال (ماركس) أو إلى شحنة الليبيدو أي الغريزة الجنسية (فرويد) التي تبدأ من مرحلة الرضاعة وتوجه سلوك الفرد والجماعة، أو تأليه السوق الذي يفرض قوانينه وأولها العرض والطلب (آدم سميث ومن جاء بعده إلى اليوم) ومن آخر الحتميات تتويج تكنولوجيات الاتصال والإعلام وترشيحها لقيادة كل التحولات في العالم حاليا ومستقبلا (من مارشال ماك لوهان إلى برجنسكي) إلخ ... إن تعدد العوامل لا ينفي أن للتحولات نقطة ارتكاز (Epicentre) تتكثف فيها العوامل الأخرى، وتكون أشبه بالنقطة في باطن الأرض التي ينطلق منها الزلزال في محيط مهيأ لتقبل الصدع والرجع، ولا يقلل تعدد العوامل من أهمية القادة المؤسسين والأبطال الفاتحين في دفع حركية التغيير. غير أن المدخل الذي يبعدنا عن التفسيرات السحرية والميتافيزقية ويقربنا من لمس ما يحدث داخل النسق الاجتماعي والسياسي كما يؤثر فيه ويتأثر به الأفراد والجماعات هو الوضعيات العلائقية (Relationnelles) كما تبدو في درجات التفاعل بين المستويات الثلاثة للذات الفردية والجماعية: أولها الذات المثالية: التي تزرع الجماعة بذورها في الفرد وتصنع نفسها أيضا، ابتداء بالأسرة إلى العائلة الممتدة ومدى ما ينسب إليها من الشرف والمكانة، إلى المجتمع والأمة، وخاصة عندما تقارن نفسها بغيرها من الأمم وهنا تظهر أهمية تاريخها وما سجله الأجداد من بطولات وأمجاد حقيقية أو أسطورية أو مزيج منها، ولإعلاء الذات المثالية أهمية كبيرة في نظرة الفرد لنفسه من خلال انتمائه للجماعة الصغيرة والكبيرة. ثانيها الذات الاجتماعية: وهي الصورة التي نرغب أن نكون عليها في نظر الآخرين أفرادا أو أمما، حيث نعيد النظر في صورتنا المثالية ونراها بعيون الآخرين في جوارنا القريب، وحسب ما يقوله عنّا العالم من حولنا، ونذكر للتبسيط ما يعرف بواقعة «أم درمان» التي تبناها جمهور واسع واستفاد منها المشاركون المباشرون في المقابلة الرياضية والمشاركة الأخيرة في البطولة الإفريقية الهزيلة التي تغلّب عليها الصمت لأنها مضرّة بالذات الاجتماعية للفريق الرياضي وبالعلم الذي لم يرفع في عاصمة قارة من حق الجزائر أن تكون لها مكانة خاصة في كثير من منابرها، فالهزيمة دائما يتيمة، أما النصر فله الكثير من الآباء لدى كل الأمم، ولهما علاقة بالرضى والاستقرار، أو السخط واشتداد المطالبة بالتغيير. أما آخرها: فهي الذات الواقعية، وهي تقع في وضعية متحركة بين المستويين السابقين تقترب أو تبتعد عنهما حسب الوضعية العلائقية للشخص أو الجماعة أو الأمة وللتبسيط أيضا نذكر أن الفرد والجماعة في الجزائر يشعران بالظلم والتحقير والتهميش، بل والضآلة عندما يتذكر كيف عاش عدد من آبائه طيلة ما يزيد على قرن تحت قهر الاحتلال الكولونيالي والأبارتايد المعروف باسم قانون الأندجين ويعرف بأنه الأضعف في العدة والعتاد، وهذا وجه من الذات الواقعية، ولكنه يعود إلى إعلاء ذاته المثالية، وهي أيضا واقعية، عندما يسترجع صمود الأغلبية من شعبه ومقاومته الطويلة وخاصة ملحمة الثورة وتضحيات مئات الآلاف من النساء والرجال من أجل الحرية والكرامة الإنسانية، مما يجعل الفرد والجماعة الجزائرية تحسّ بالتميز والتفوق فردا داخل جماعته الصغيرة إذا كان من المباشرين فيها، والجزائريون بوجه عام إذا رجعوا إلى ذلك الماضي المجيد. 6 - ضرورة التحول: لماذا الالتجاء إلى مدخل التطابق بين كل المجتمعات؟
إن مجتمعنا والدولة الجزائرية الفتية ليست حالة شاذة في عالم الأمس واليوم، ومن المفيد الاستعانة بالمناهج والنظريات التي يعود أغلبها إلى التراث العلمي الذي أنتجته حضارة من خارج بلادنا ومن خارج المنطقة الجغرافية والثقافية التي ننتمي إليها، منذ ما يزيد على ألف عام، وأصبحت حضارة الغرب وتقاناته في القرون الثلاثة الأخيرة الأقوى والأكثر تأثيرا على بقية العالم ومنها تُستمد معايير التحضّر والتقدّم، وحتى ما يسمى التمدّن، أي الشعوب التي تستحق التصنيف في قائمة الإنسانية العليا والحكم الراشد، المتميزة عن البشرية السفلى في تعبير نيتشه. يحمل المنتوج الثقافي سواء أكان معنويا أي المعرفة التي أنتجته (Soft) وتتضمن العلوم والفنون والآداب، أو ماديا، ونعني به منتوج تلك المعرفة وكل ما ينتقل من الفكرة إلى التصميم إلى التداول في السوق، تحمل كلها بصمات الحضارة التي أنتجتها والإيديولوجية الغالبة فيها، غير أن الحضارة هي أيضا نتيجة تراكم المعرفة والخبرة التي ساهمت فيها وطورتها شعوب وأمم عبر الاستمرارية التاريخية الضاربة في أعماق الزمن، فمن العبث كما يقال إعادة اختراع الدراجة، ومن الأدعاء ومواساة الذات أيضا الزعم بأنه لولا عباس بن فرناس وابن الهيثم وآخرين ممن سبقوهم أو أتوا بعدهم، لبقى العالم كله كما كان عليه قبل مئات القرون، فالاستمرارية التاريخية تعني إضافات متتالية ومدى قدرة الدول ونخبها على تطويرها وتثمينها. كان من الضروري التنبيه للمقولات السابقة للتأكيد على أن المناهج والنظريات ليست قوالب ومعادلات رياضية مجرّدة ويقينية يمكن تطبيقها في أي زمان ومكان وعلى كل الكيانات التي تحمل اسم دولة وكل البنيات المجتمعية مهما كانت مسيرتها التاريخية وخصائص موروثها الثقافي في الماضي والحاضر، فلكل مجتمع أنماط التحليل (Modèles d'analyse) التي تسمح بالتفسير والاستنتاج ولا تصلح لغيره من المجتمعات. ونحن في الحقيقة أمام معضلة معرفية، إذ أن قسما كبيرا من نخبنا المفكرة والقيادية في الدولة والمجتمع تكونت وتدرّبت في معاهد وجامعات خارج أوطانها، والبعض من تلك النخب نقل ما عرف وما أتقن كما هو، وفي الواقع انتقل إليه، كما هو في البلد الذي تعلم فيه، ولا يرى بعضهم في مجتمعه الأصلي ونظامه ما يقبل التطوير على الأقل بالسرعة المطلوبة. هذا النمط من النخب يعاني مثل مقابله من النخب التأصيلية التي ترى أن تغيير الحاضر إلى الأفضل لا يتحقّق إلا بإعادة المثل الأعلى المجسد (idéal concret) في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الأبرار، يعاني هاذان النمطان من النخب من غربتين الأولى عن عالم المقدمة الذي يقود الحداثة، والثانية ابتعاد المجتمعات وأنظمتها عن ذلك المثال المجسد. ولعل هذه المعضلة من عوامل توالي الأزمات والإنسدادات وهشاشة الواقع المجتمعي والسياسي في كثير من بلدان المنطقة (دراستنا بعنوان المنطقة العربية والإسلامية نقد الحاضر ومساءلة الآخر المنشورة سنة 2010)، و ب.لوس B. Lewis في دراسته بعنوان: أين الخلل؟: الصراع بين الغرب والإسلام والحداثة. What went wrong? the clash between Islam and modernity N.Y 2012 الذي وصل في خلاصة كتابه إلى تصحيح السؤال الشائع ومؤداه ماذا فعل الإسلام بالمسلمين؟ إلى ماذا فعل المسلمون بالإسلام؟ وكما هو معروف فإن لويس من أبرز المنظرين للمحافظين الجدد وأنصار الصهيونية في الولاياتالمتحدة. إن الهدف من التوضيحات السابقة هو التنبيه إلى أن الجزائر مجتمعا ودولة ليست استثناء في عالم اليوم، وليست كذلك عجينة أوهيولي قابلة للتقولب (Modling) الذي يفرض عليها من تيار واحد في الداخل أو من قوى خارجية بغرض الاحتواء وتحقيق مصالح أحادية الجانب مقابل قواعد عسكرية وحماية من قوة دولية لأسرة حاكمة أو نظام سياسي يؤجّر بلاده خوفا من شعبه. فقد مرت الجزائر بعزلة مفروضة وحصار سياسي واقتصادي أثناء محنة التسعينيات بدون أن تتنازل عن سيادتها الوطنية والحرية النسبية لقرارها السياسي، ومدخلها التجميلي اليوم هو تدويل الصراع برخص جاهزة من الأممالمتحدة ومنظماتها المعنية، إنّ حرية القرار في شؤون السياسة والاقتصاد والتجارة إلخ... مسألة وثيقة بمدى قوة ونفوذ الدولة، ومدى أهمية علاقاتها مع المحيط الجهوي والدولي، وبالأخص مدى استقرار مجتمعها وتجانسه، ونعني بالتجانس عناية الدولة بالتوازن وتوسيع قاعدة الطبقة الوسطى وإعطاء المواطنة حقوقها لتنهض إراديا بواجباتها، وليس محو الخصوصيات المحلية التي تلتقي في مواطنة بمشتركات جامعة تتغذّى من تلك الخصوصيات وتغذيها في الفرد والجماعة. من المغامرة اعتقاد البعض أنّ استمرار الصراع الدموي في جزائر نهاية القرن الماضي سيؤدي إلى انتصار حاسم، ولا يصل إلى تدخل من أطراف كانت في الانتظار بتلهف، وما حدث في ليبيا ويحدث الآن في سوريا دليل على وجود ذلك الخطر الداهم، ولم نتردد أبدا في اعتبار حلّ المصالحة الوطنية سفينة النجاة، التي يمكن أن تحمل من كلّ زوجين اثنين، كما ورد في دراستنا « الأزمة المفروضة على الجزائر 1998» وواجهنا من الطرفين السؤال التالي: أنت مع من؟ والجواب ما أسفر عنه الاستفتاء الشعبي بتاريخ سبتمبر 2005. يجد المتأمل في الخط البياني لتاريخ مجتمعنا في مختلف مراحله المدوّنة، أن هناك ثلاثة مطالب مندمجة هي الحرية والعدالة والتقدّم حرّكت مختلف التفاعلات التي توجّه فيه الحركة والسكون والهدوء والتمرد، ولا يكفي لفهم تلك الظواهر تطبيق مقولات النظريات الكبرى المستمدة من تاريخ أمم ومجتمعات أخرى، وكأنها من قوانين الفيزياء أو المسلمات في علم الرياضيات، فلكل واقع مجتمعي عمقه التاريخي، وخاصة إذا تعلق الأمر بوتيرة التحول والتغيير ودوافع وأهداف الفاعلين، وما سيسفر عنه في الأمد المنظور.