أخذت مسألة الاحتلال الفرنسي للجزائر حيّزا هاما بوصفها قضية من أهم قضايا العالم العربي والإسلامي، فكانت في قلب اهتمام المغاربة والمشارقة، حيث وجد بعض الجزائريين مجالا أبرزوا فيه معاناة بلادهم ومنفذا لممارسة نشاطهم والتعريف بقضيتهم، كما وجدوا مؤازرة ودعما واسعا من مختلف الأقطار التي حلّوا بها. لذا فإنّ هذا المقال يهدف إلى إبراز جوانب من الإنتاج الفكري للنخبة الجزائرية التي هاجرت إلى تونس وساهمت في إحداث يقظة فكرية، حملت في ثناياها وعيا تحرّريا، شكّل الإرهاصات الأولى لثورة أول نوفمبر 1954م، كما يهدف إلى الوقوف على دور هذه النخبة في العمل من أجل قضية بلادها في المهجر. كانت تونس، بحكم صلة الجوار، وبما يتوفر فيها من مؤسّسات علمية ومجال أكثر حرية، أهم حاضنة لأوّل إرهاصات ثورة التحرير، وبلورة الفكر التحرّري، فهجرة الجزائريين من رجال الفكر والدين والثقافة إلى البلاد التونسية، كان بسبب انعدام الفضاء الحر للتعلّم وللتعبير في بلدهم من جهة، ولما لتونس من مقوّمات النهضة الفكرية المنشودة، والانفتاح على الفكر النهضوي ورموزه في العالم العربي من جهة أخرى، لذا جعلوا منها أرضية خصبة لنشاطهم الفكري. لقد ساهمت البلاد التونسية بفضل احتضانها للنخبة الجزائرية ولنشاطها الفكري والسياسي، في تحرير العقول من سبات كرّسته سياسة التجهيل الاستعمارية في الجزائر، وكان ثمرته اندلاع الثورة التحريرية، ومن هذا المنطلق، فإنّ سؤال المقال يمكن حصره في: ما مدى الاهتمام التونسي بالقضية الجزائرية؟ وما دور الأشقّاء التونسيين، ودور الجزائريينبتونس في ترسيخ الفكر التحرّري من الاستعمار قبل 1954. وسأتناول هذا الموضوع في ثلاثة عناصر أساسية العنصر الأول يتعلّق بنشاط الجزائريين في تونس وثقافة المقاومة من خلال الأحزاب السياسية والجمعيات، والعنصر الثاني سأتطرق فيه إلى ثقافة المقاومة في الإنتاج الأدبي للنخبة الجزائرية في تونس، أما العنصر الثالث سأتناول فيه ثقافة المقاومة في الصحف التونسية، سواء كان بأقلام جزائرية أم تونسية. ثقافة المقاومة في النشاط السياسي تميّز النشاط السياسي والحزبي في تونس بالعمل المشترك بين الجزائريينوالتونسيين، فظهرت أحزاب سياسية مشتركة لإبراز المطالب الوطنية ضمن إطار قانوني، وكان أوّل هذه الأحزاب حزب تونس الفتاة أو حزب الشباب التونسي الذي تأسّس سنة 1907م من قبل "البشير صفر" وعلي باش حانبة، والشيخ عبد العزيز الثعالبي (الجزائري الأصل) ومحمد باش حانبه وحسن قلاتي وعبد الجليل الزواش وعدد قليل من المناضلين المنحدرين من برجوازية أصلها من طبقة الأتراك الحاكمة، كانت مطالبه - في البداية - مرتبطة بالجانب الاقتصادي ثم أخذ الصبغة السياسية، والدفاع عن القضايا الوطنية وحقوق التونسيين في إطار الهوية العربية الإسلامية. وكان لعبد العزيز الثعالبي دورا أساسيا في هذا التوجّه، خصوصا بداية من سنة 1909م وترأسه تحرير جريدة "التونسي" التابعة للحزب، والتي تحوّلت من جريدة ناطقة بالفرنسية إلى جريدة ناطقة باللسان العربي، وتمتّع هذا الحزب بتأييد شعبي قويّ. وقد ساند الحزب كلّ حركات المقاومة الشعبية ضدّ الفرنسيين ممّا أدّى إلى مطاردة أعضائه وتشتيتهم. كانت روح الحرية والثورة تنبعث من نشاط الشيخ عبد العزيز الثعالبي، وظلّ يناضل بالقلم، حيث ألّف كتاب روح التحرّر في القرآن، وكتاب تونس الشهيدة، فاتهمته السلطة الفرنسية بالزندقة، وألقت عليه القبض بباريس، وحوّلته إلى سجن بتونس، لكن سرعان ما أفرجت عنه بسبب المظاهرات التي عمّت شوارع تونس للمطالبة بإطلاق سراحه. وبعد أن اضطرت السلطات الفرنسية إلى الإفراج عنه، شرع عبد العزيز الثعالبي في تأسيس حزب جديد أسماه "الحزب الدستوري الحر" في 30 جوان 1920م مع مجموعة من الطلبة الجزائريينوالتونسيين، لكن ملاحقة فرنسا له حالت دون تحقيق مساعيه، فألقت القبض على مؤسّسه يوم 28 جويلية 1920م، وظلّ رهن الاعتقال إلى غاية 1921م. في هذه الأثناء أعاد رفاق الثعالبي هيكلة الحزب باسم "الحزب التونسي" وظلّت أهدافه هي أهداف الحزب الدستوري الحر نفسها، ومنحت رئاسته لعبد العزيز الثعالبي غيابيا، ومن أعضائه أحمد توفيق المدني وحسن قلاتي وصالح بن يحي والطيب بن عيسى وإبراهيم أطفيش وعبد الرحمن البعلاوي وعدد آخر من التونسيين. تضمّنت مطالب الحزب الدعوة إلى نظام دستوري لتونس، وتأليف حكومة وطنية، وقد ساهم الطلبة الجزائريون بقسط مهم في الدعاية للحزب الدستوري وتمويله، لكن نتيجة هذا النشاط تسبّب في تعرّض أعضائه إلى التعذيب والاضطهاد والنفي، فتم ترحيل توفيق المدني وعبد الرحمن اليعلاوي وصالح بن يحي إلى الجزائر، والشيخ إبراهيم أطفيش إلى القاهرة. بعد تشتيت مؤسّسيه، عمل الحزب على انتخاب لجنة جديدة مكوّنة من محمود الماطري والطاهر صفر ومحمد بورقيبة وشقيقه الحبيب بورقيبة، لكن ظهرت خلافات بينهم وبين قيادة الحزب القديمة أدّت إلى انقسامه إلى حزبين "الحزب الدستوري الجديد" الذي تأسّس في 2 مارس 1934م وأعضاؤه الماطري والطاهر وبورقيبة، وهو الجيل الشاب المتطلّع إلى التجديد. و«الحزب الدستوري القديم" الذي يمثل اللجنة التنفيذية للحزب الدستوري الحر، وهم جيل الشيوخ ظلّوا متمسّكين بمبادئ مؤسّسه عبد العزيز الثعالبي"، لكنّه حلّ نهائيا سنة 1944م. يتبين من خلال نشاط الجزائريين السياسي في البلاد التونسية تشبّعهم بروح التحرّر وثقافة المقاومة، وبذلك يتجلّى الفكر الثوري في نشاط النخبة السياسية الجزائرية في البلاد التونسية. لم يقتصر دور الجزائريين الذين درسوا بالمعاهد العلمية المختلفة في تونس، خصوصا جامع الزيتونة، على تلقي الدروس فقط والحصول على شهادات ثمّ العودة إلى بلادهم، بل كان لهم دور بارز في مجال النشاط الطلابي، وتأسيس الجمعيات وتحريكها والانخراط في الأندية الأدبية التونسية، والاندفاع للعمل ضمنها. وتعدّ جمعية تلامذة جامع الزيتونة"، أول الجمعيات الثقافية المكوّنة من جزائريين وتونسيين، أسّسها كلّ من التونسي عبد الرحمن الكعاك والجزائري الطيب بن عيسى، كردّ فعل على الحملة التي كانت تنتقد التعليم الزيتوني والتي برزت سنة 1901م. وبعد قرابة خمسة وعشرين عاما أسّس أحمد توفيق المدني مع مجموعة من الجزائريينوالتونسيين في 15 ماي 1924م المجمع العلمي التونسي"، كان هدفهم من وراء ذلك رفع المؤهّلات العلمية للبلاد، ليعيد لتونس أمجادها العلمية السالفة، كما أسّسوا "الرابطة العلمية" سنة 1924م وذلك لإيجاد وسيلة فعّالة للتضامن الفكري والعلمي بينهم، ورفع مستوى شعبهم العلمي والسياسي والاجتماعي، وكان الجزائر وقضيتها حاضرة بقوّة من خلال عديد النشاطات الثقافية، نذكر على سبيل المثال محاضرة كان موضوعها: "الجزائر في ميدان العمل" قدّمت بالخلدونية في 18 جوان 1937م ألقاها الشاعر مفدي زكريا، استعرض فيها تاريخ الاستعمار الفرنسي في الجزائر وأثنى على نشاط الوطنيين الجزائريين في سبيل تحرير الجزائر، وفي هذه الفترة، ألقى الشيخ عبد الحميد بن باديس محاضرة عامة بتونس بدعوة من جمعية الطلبة الجزائريين والجمعية الودادية الجزائرية بعنوان: "الحركة العلمية والسياسية في القطر الجزائري". تواصل النشاط الثقافي الثوري في إطار الجمعيات في البلاد التونسية، وظهرت الدعوة إلى العمل التحرّري المشترك، ومن ذلك ما طرحه محمد العيد الجباري 1911م - 1942م، أصيل الحساسة (عين عبيد بقسنطينة) الذي درس بالزيتونة خلال الفترة ما بين 1924م و1929م حين قدم فكرة إنشاء منظمة طلابية تجمع شمل الطلاب المسلمين، وتمثلت أهدافها في العمل بكلّ الوسائل والطرق على توحيد الجهود ضدّ الاستعمار، وكان أغلب أعضائها من الجزائريين، وفتحت لها فروعا في الجزائر وتحديدا في عنابة وسوق أهراس وقالمة. في السياق، تأسّست جمعية الشبيبة الزيتونية في شهر جانفي 1937م برئاسة الطالب الجزائري حسن بن عيسى، وهي هيئة تتكوّن من ثلاثة أعضاء من الجامع الأعظم هدفها الدفاع عن الطلبة والنخبة المثقّفة بوجه عام، وتنظيم احتفالات ثقافية لإحياء ذكرى عباقرة الشعراء. كما أسّس أبو القاسم سعد الله مع زملائه سنة 1952م جمعية "رابطة القلم الجديد" التي لم يكن لها قانون أساسي ولا مقر رسمي، وإنّما هي صحبة الأدب والشعر واجتماع الظرف والألفة ويقول عنها مؤسّسها: " لقد اجتمع عدد من الأدباء الشبّان، معظمهم تونسيون ومعهم بعض الجزائريين ومنهم أنا، وألّفنا رابطة أطلقنا عليها اسم رابطة القلم الجديد، ومن بين أعضائها نجد الشاذلي زوكار ابن حميدة، منور صمادح من تونس، ومحمد علي كرام من الجزائر، وكان هدفها الحديث عن الإنتاج الأدبي وإلقاء بعض القصائد الشعرية على بعضهم البعض، لكن بعد أن غادر أبو القاسم سعد الله تونس، انقطعت علاقته بإخوانه في رابطة القلم الجديد. في بداية الثلاثينيات من القرن العشرين، تأسّست عدّة جمعيات أهمها "جمعية الطلبة الجزائريين الزيتونيين" بترخيص من الشيخ الإبراهيمي الذي سعى من خلالها إلى إنشاء خلايا طلابية وطنية ممثلة في هيكل تنظيمي يجمع شتات الطلبة ويرعى أمورهم ويوكل إليه أمر التعريف بالجزائر وربط جسور التعاون بينهم وبين تونس ويكون بمثابة السفارة الدائمة لجمعية العلماء المسلمين في تونس، وهو ما يشير إليها بيانها التأسيسي، وقد ألقى الشيخ محمد المختار بن محمود كلمة في حفل تأسيس هذه الجمعية نشرت نصّها مجلة الثمرة الأولى، وفي مطلع سنة 1935م جرى انتخاب الشيخ الشاذلي المكي رئيسا لها، بينما أسندت الكتابة العامة إلى أحمد بن قصيبة الأغواطي، ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية توقّف نشاطها ليستأنف بعد الحرب وانتخبت هيئة جديدة في أفريل 1946م برئاسة الطالب أحمد بودوح، والرئاسة الشرفية 22 للطاهر بن عاشور، وظلّت الهيئة الإدارية للجمعية تتغير من سنة إلى سنة إلى أن انكمشت وانقسمت مع مطلع الخمسينيات إلى مجموعتين مجموعة الخط الباديسي ومجموعة الخط المصالي، وظلّ هذا الانقسام قائما ينخر كيان الجمعية إلى غاية سنة 1957م عندما جمّدت جبهة التحرير الوطني نشاط جميع الجمعيات والفروع الطلابية، وأعادت تشكيلها في تنظيم جديد هو "الاتحاد الوطني للطلبة الجزائريين المسلمين" الذي جمع شمل كلّ الطلبة وجمع خلافاتهم المذهبية والفكرية وجعل منهم قوّة تساند الثورة المسلّحة. ثقافة المقاومة في الإنتاج الأدبي شهدت الحركة الأدبية بداية القرن العشرين انبعاثا على يد جيل من الأدباء الزيتونيين، وساعد في ذلك ظهور الصحافة وانتشار التعليم وكذا صلة النهضة الفكرية والأدبية في تونس بالمشرق، وقد تميز الأدب في هذه المرحلة بالوعظ والإرشاد والصبغة الدينية، كما أنّ أهدافه كانت إصلاحية ترمي إلى تنمية الوعي الشعبي عن طريق الدين والمبادئ الخلقية ومن هؤلاء الأدباء محمد الخضر حسين، الجزائري الأصل التونسي المولد والمنشأ، فقد ولد بنقطة بتونس سنة 1873م وتنحدر عائلته من منطقة برج بن عزوز في ضواحي طولقة القريبة من بسكرة، كان كاتبا وشاعرا له مؤلفات عديدة أهمها : "محمد رسول الله" و "رسائل الإصلاح" و«آداب الحرب في الإسلام" و«القياس في اللّغة العربية" و«تونس جامع الزيتونة" و«الخيال الشعري العربي" و«رسالة" الدعوة إلى الإصلاح"، كما كان ينظم الشعر في بعض المناسبات كتهنئة شيوخه عند إتمام دراسة بعض الكتب له ديوان "خواطر الحياة". يبرز روح الفكر الثوري في أعمال ومؤلفات الجزائريين في تونس الذين زاوجوا بين العمل السياسي والأدبي، وكان لأعمالهم صدى واسع، ومن هؤلاء محمد بن عيسى الذي كان كاتبا ورعا ومتديّنا، أثرى الساحة الأدبية بتونس بعدد وافر من الكتب في شتى أنواع الفنون والعلوم وطبعت كلّها بتونس، ومنهم عبد العزيز الثعالبي إسهامات أدبية من خلال مؤلّفاته التي أصدرها وهي: "روح التحرّر في القرآن" و "تونس الشهيدة" و "معجزة رسول الله" ومن آثاره المخطوطة: "تاريخ الهند" و "الرحلة اليمنية" و« تاريخ الدولة الأموية ". يعد محمد السعيد الزاهري، من شعراء الجزائر المتميّزين، وهذا بشهادة أمير البيان شكيب أرسلان الذي قال عنه إنّه يرى أنّ أركان الأدب في الجزائر في ذلك الوقت أربعة: محمد السعيد الزاهري وعبد الحميد بن باديس والطيب العقبي ومبارك الميلي.. عرف شعره بأنّه ذي غاية إصلاحية، ويظهر فيه حبّه للوطن ومحاربة البدع والخرافات التي انتشرت في البلاد، له قصائد عديدة منها: "أنين الجزائر" التي نشرها سنة 1923م وقصيدة "ليتني ما قرأت حرفا"، إضافة إلى كتابته الشعر كان يكتب القصة والمقال الإصلاحي وبعض المواضيع القومية، ترك عددا من الكتب : كتاب الإسلام في حاجة إلى دعاية وتبشير" و "حاضرة تلمسان" و "بين النخيل والرمال" و«حديث خرافة" و«شؤون وشجون". وساهم أحمد توفيق المدني في الحركة الأدبية والفكرية في تونس من خلال تأليفه الكتاب "تقويم المنصور" وهو كتاب يشتمل على أبواب شتى في العلوم والفنون والآداب والسياسة طبع بتونس سنة 1922م، ثم أتبعه بتقاويم أخرى سنة 1925م، والجزء الرابع صدر بالجزائر سنة 1926م، كما ألّف كتاب " تونس وجمعية الأمم " وهي رسالة طبعت بمطبعة العرب بتونس سنة 1924م، نادى فيها بوجوب انسحاب فرنسا من تونس، زيادة على ذلك ألّف "قرطاجنة في أربعة عصور"، طبع سنة 1927م، وكتاب "حياة كفاح" في جزأين.