إن أزمة الرهن العقاري بالولاياتالمتحدةالأمريكية وما تبعها من تداعيات كارثية مالية واقتصادية عالمية ليست بالتأكد وليدة اللحظة، رغم أنها فاجأت الجميع، إذ تعبر في حقيقتها عن مستوى الانحطاط الذي وصلت إليه الرأسمالية المتوحشة التي زادت من ثراء قلة من الأغنياء على حساب بؤس وشقاء الفقراء، الذين يشكلون الأغلبية المسحوقة ليس في الدول النامية فحسب، وإنما حتى داخل الولاياتالمتحدة ذاتها خاصة والدول الغربية عامة، وذلك بفعل مشاكل البطالة والركود والتخضم والكساد والتمييز العنصري ضد المهاجرين من الجنوب. والواقع أن الأزمة المالية العالمية الراهنة تؤكد أن سقوط امريكا المالي والاخلاقي ليس وليد اللحظة.فأزمة الرهون العقارية جعلت الأمريكيين يفقدون 1,5 مليون منزل في سنة 2007 مقابل 2 مليون منزل في السنة الجارية. في حين توقع الرئيس الأمريكي الأسبق »بيل كلينتون« الأحد الماضي في ندوة اقتصادية بالكويت فقدان 2,5 منزل خلال سنة ,2009 غير أن هذه الأزمة كشفت لأول مرة وهم الحلم الأمريكي، الذي تحول إلى كابوس مفزع تعيشه الولاياتالمتحدة الرازحة تحت عبء الديون الثقيلة شعبا وحكومة ودولة. ومن دون شك، إن السقوط الأمريكي مرتبط بعوامل داخلية وخارجية كرستها السياسات الفاشلة للرئيس ''بوش''. مما أدى إلى نتائج كارثية غير مسبوقة أوصلت القوة العظمى الأولى في العالم إلى حافة الإفلاس، واستعدادها للتنازل عن قيادة العالم، باستجداء الدول الأخرى والمؤسسات المالية الدولية لمساعدتها في الخروج من أزمتها المستعصية. لقد استمرت الإدارات الأمريكية المتعاقبة على البيت الأبيض في الاعتماد على القروض الخارجية لعقود من الزمن، وذهبت إدارة »بوش« بعيدا في هذا الاتجاه، فمن جهة زادت معدلات الإسراف إلى مستويات خيالية، رغم أن بوادر وتوقعات انهيار الأسهم في البورصات كانت واضحة، وأدت من جهة أخرى سياسة المحافظين الجدد الذين اعتمد عليهم الرئيس »بوش« في صياغة سياسته الخارجية إلى شن سلسلة من الحروب المباشرة وغير المباشرة ضد بعض البلدان العربية والإسلامية إلى خسائر فادحة في الأرواح والأموال. ولم تنفع هذه الحروب في تحقيق الفائدة للاقتصاد الأمريكي مثلما حدث ذلك في حالات سابقة، بل قضى تدريجيا على الدور الريادي الأمريكي في العالم. ورغم تعتيم الإدارة الأمريكية على الكلفة الحقيقية لسلسلة حروبها العدوانية في العالم، فإن تمويلها ما كان ليتم سوى على حساب تغطية حاجيات الجبهة الداخلية.فتكلفة حرب العراق مثلا، التي قدّرها في البداية مستشار الرئيس ''بوش'' للشؤون الاقتصادية »لارى ليندس« ب 200 مليار، وحدّدها أيضاحينذاك وزير الدفاع الأمريكي ''رونالد رامسفيلد''، ما بين 50 و 60 مليار دولار بلغت حسب تقرير نشر في شهر مارس الماضي من قبل الاقتصادي الأمريكي الحائز على جائزة نوبل للسلام ''جوزيف سيتغليتز'' و''ليندا بلينز ''من جامعة هارفارد ثلاثة تريليونات دولار، ليخلص في تقريره هذا إلى أن إهدار مئات الملايير من الدولارات من تكاليف الحرب لا يقارن بحجم الخسائر البشرية الأمريكية والعواقب الجيوسياسية الواضحة المعالم، مثل تعزيز قوة رجال الدين في إيران التي توسعت في مجالها الحيوي تحت مظلة الاحتلال الأمريكي للعراق، مقابل فقدان العم سام لمكانته بالمنطقة، ليصبح منبوذا في كافة أرجاء العالم الإسلامي. وإذا كانت هذه هي الحالة الأمريكية على الصعيد الخارجي، فإن إفلاسها على الساحة الداخلية أصبح جليا أبرز صوره ملايين اللافتات الحاملة لعبارة »محجوز عليها« بعد طرد الملايين من ملاك المنازل العاجزين عن تسديد ديونها الباهضة، وكذا غلق محطات الوقود وإفلاس مطاعم الوجبات الشعبية وتخلي المواطنين عن قططهم وكلابهم لدور رعاية الحيوانات لعجزهم عن إطعامهم.. وغيرها من المظاهر الأخرى المشيرة إلى اتساع حدة الفقر. وقد أدى انتشار الجريمة بالمجتمع الأمريكي إلى جعل المحكمة العليا لأول مرة منذ سنوات طويلة تسمح للأمريكيين باقتناء الأسلحة النازية لحماية أنفسهم من الجريمة المتصاعدة. إن الخروج من الأزمة العالمية الكارثية الراهنة التي أفرزتها قيادة الرئيس ''بوش'' ومحافظيه الصهيو أمريكيين الجدد لن يكون غدا. وإن كانت بوادر الحل قد بدأت بخروج العالم من القطبية الأحادية للأمريكيين إلى نظام متعدد القطبية في الاقتصاد والسياسة والأمن ليس بالنسبة لواشنطن وحدها وإنما حتى مجموعة الثمانية التي عوضت بمجموعة العشرين التي تضم العديد من الدول الصاعدة بقوة كالصين والهند والبرازيل، التي برزت بدورها في قمة واشنطن المالية المنعقدة الأحد الماضي. هذه القطبية الأحادية المقيتة أصبحت تواجه أيضا بعودة روسيا إلى الساحة الدولية، ولكن لا ننفي أن الأمر يحتاج إلى وقت كاف، خاصة وأن الولاياتالمتحدة لن تستسلم للأمر الواقع المتصاعد بالرفض للقيادة الأمريكية الأحادية التي أفقدت العالم أمنه واستقراره السياسي والاقتصادي. ------------------------------------------------------------------------