في ذلك الصباح البارد قمت بجولة إلى أحد أسواق القرية، والقصد هو أن أكتشف حالة مثل هذه السوق ومكوناتها في هذا الوقت الذي تمدّن فيه كل شيىء، بعد أن غزت البنايات الإسمنتية أرض الريف النقية، ذلك الفضاء الواسع الحالم الذي يوحي بالشيىء الكثير حيث هو رمز الصفاء والخير... ومن بين ما يشكل أجزاء السوق المقهى، هذا الحيّز الذي يتغير بتغير الزمن ،وهكذا وقفت في هذه الجولة على مقهى من مقاهي هذه السوق المنتشرة داخلها، وهي عبارة عن خيام واسعة بداخلها مجموعات من الزبائن جلسوا مشكّلين مجموعات، وبين أيديهم فناجين »الخرجلان« الأحمر الحار الذي يبعث الدفئ في النفوس في هذا الوقت البارد رغم لباسهم البرانس والقشابيات الوبرية التي تقيهم برد الشتاء. بشيىء من التمعن يلاحظ الزائر تغير نمط سير المقهى الريفي المعتاد، فقد كان في ذلك الزمن يعبق بروائح ونبات الشيح والزعتر، وقهوة الغلاية المنعشة التي تحضّر بطريقة خاصة، هي مظاهر تكلد تندثر وتزول، فلم أعثر في هذه المقاهي إلا بقايا هذه المشروبات التي يتلذّذ بها الريفى الفلاح عبر الزمن، واستبدل ذلك بنوع من الشاي المعروف الآن وحبّ القهوة الضّاغن الذي يؤخذ من علب حديثة معروفة، وبذلك غابت نكهة حب القهوة الأخضر الذي كان يستهلك بالطريقة المشار إليها، وزاد من زوال مسحة المظهر الريفي في مقهى الماضي تكدس زجاجات المشروبات الغازية التي تنتشر في المدن و أسواق المدن. وهذا يذكّرنا كذلك بغياب أنواع كثيرة من المواد الغذائية من الريف الجزائري بعد أن اكتسحته المواد الصناعية مثل الزبدة والزيت وغير ذلك، بعدما كان المستهلك يتناول موادا طبيعية تفيد الجسم والعقل. أعود دائما إلى المقهى، ذلك المكان المحبب للمتسوقين، بالإضافة إلى أنه كان مكانا لتناول المشروبات المذكورة، كان كذلك بقعة للحديث في أشياء كثيرة خاصة لشريحة الشباب هذا الذي يحس في سنه أنه في حاجة إلى إخراج الكثير من ما يجعل في خاطره، والتعبير عن العديد من الأحاسيس خاصة في حوارات تجرى بين أفراد هذه الشريحة. هنا في هذه الجولة قابلتني مظاهر وأشياء ليست كالماضي، فقد تغيرت كذلك الحوارات وأصبح الكلام في مواضيع تختلف تماما عن مواضيع الماضي، وهكذا إذا كانت هذه هي الحياة، فإن النقاء والصفاء وأنواع المشروبات القديمة والأحاديت الحالمة كلها غابت من مقهى اليوم، هذا الحيز الذي لم تعد له نكهة الريف الصافي الجميل رغم وجوده خارج المدينة، هي جولة في جو بارد اكتشفت فيها أن جو المقهى الريفي لم يعد كما كان. ------------------------------------------------------------------------