نعيش هذه الأيام في هذا الشهر الكريم شهر شعبان حدث تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، ومنذ أيام عدة عِشْنَا مع ذكرى الإسراء والمعراج التي كانت من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وهذا الترابط والتلازم بين المسجدَين يؤكد لنا أهميتهما المقدَّسة عند المسلمين، وما زال المسجد الأقصى أسيرًا في أيدي اليهود. لقد كان حدث تحويل القبلة فتنةً أي فتنة؛ حيث أحدث رجَّةً كبرى في المجتمع المسلم آنذاك، خصوصًا مع وجود اليهود في المدينةالمنورة؛ حيث استغل اليهود هذا الحدث وأشعلوا نار الفتنة بين المسلمين- وهذا هو حالهم في كل زمان ومكان- وبدأوا يشككون المسلمين في عقيدتهم ودينهم. وحتى نقف على أبعاد هذا الحدث يجب أن نعلم أن المسلمين في مكة كانوا يتوجهون إلى الكعبة منذ أن فُرضت الصلاة، وأنهم بعد الهجرة توجهوا إلى بيت المقدس بأمر إلهي للرسول صلى الله عليه وسلم ثم جاء الأمر القرآني الأخير: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ (البقرة: من الآية 144)، ولذلك كان التوجه إلى بيت المقدس- وهو قبلة أهل الكتاب- سببًا في اتخاذ اليهود إياه ذريعةً للاستكبار عن الدخول في الإسلام؛ إذ أطلقوا في المدينة ألسنتهم بالقول بأن اتجاه محمد ومن معه إلى قبلتهم في الصلاة دليلٌ على أن دينهم هو الدين، وقبلتهم هي القبلة، وأنهم هم الأصل، فأولى بمحمد ومن معه أن يرجعوا إلى دينهم لا أن يدعوهم إلى الدخول في الإسلام!! وفي الوقت ذاته كان الأمر شاقًّا على المسلمين من العرب، الذين ألِفُوا في الجاهلية أن يعظموا حرمة البيت الحرام، وأن يجعلوه كعبتهم وقبلتهم، وزاد الأمر مشقةً ما كانوا يسمعونه من اليهود من التبجح بهذا الأمر. وكان الرسول- صلى الله عليه وسلم- يقلب وجهه في السماء متجهًا إلى ربه، دون أن ينطق لسانه بشيء- انظروا إلى أدب الرسول مع ربه- ثم نزل القرآن يستجيب لرغبة الرسول - انظروا إلى مكانة النبي عند ربه - ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾ (البقرة: من الآية 144). وروى الإمام البخاري- رحمه الله تعالى- عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - صلَّى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا، أو سبعة عشر شهرًا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قِبَل البيت، وأنه صلَّى، أو صلاها، صلاة العصر وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان صلى معه فمرَّ على أهل المسجد وهم راكعون، قال: أشهد بالله لقد صليت مع النبي- صلى الله عليه وسلم - قِبَل مكة، فداروا كما هم قِبَل البيت، وكان من المسلمين من مات على القبلة قبل أن تتحوَّل القبلة إلى البيت الحرام، لم ندْرِ ما نقول فيهم، فأنزل الله: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيم﴾ (البقرة: من الآية 143). عندما تحولت القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام انطلقت أبواق السفهاء من اليهود والمشركين والمنافقين، فقد عزَّ على اليهود أن يتحوَّل المسلمون عن قبلتهم وأن يفقدوا حجتهم التي يرتكنون إليها في تشكيك المسلمين في دينهم، فبدأوا يلقون بذور الفتنة والشك في صفوف المسلمين وقالوا: لقد ترك محمد قبلة الأنبياء قبله، وقال مشركو العرب: توجَّه إلى قبلتنا ويوشك أن ينقلب بكليته إلى ديننا، وقال المنافقون: إن كانت القبلة التي توجه إليها أولاً هي الحق فقد ترك الحق، وإن كانت القبلة التي توجه إليها ثانيًا هي الحق فقد كان على الباطل قبل ذلك.. وقد سمَّاهم الله "سفهاء" وأنزل فيهم قرآنًا- بل أنزله قبل أن يقولوا وهذا من الإعجاز-: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)﴾ (البقرة).