لم يشهد التاريخ العربي فضيحة كهذه والقنابل الفوسفورية تنهال على غزة وتصل بعدد الشهداء إلى ما يقارب الألف ومائتين، وتوقع بالمدينة دمارا كالذي حاق ببغداد ثم ببيروت، ويقترب مما عرفته هيروشيما. والقصة هي أن دولة صغيرة هالتها الأحداث الدامية التي تعيشها غزة هاشم واستفزها العجز الرسمي العربي عن التصدي لها والتواطؤ الأوربي مع إسرائيل لتشويه معطياتها، فنادت بعقد قمة عربية لتدارس الموقف وتصور الحلول العملية لمواجهته لكن قطر نسيت أن هناك من لا يسمح بأن تتخذ أي مبادرة بدون إذنه وخارج وصايته، وخصوصا من بلد صغير لا يعرف كثيرون أين يقع على الخريطة. وهكذا انفجرت التأكيدات الغاضبة بأسبقية عقد القمة الاقتصادية في الكويت، وهي القمة التي يفترض، كما تقول ألسنة السوء، أنها تلبية لرغبة واشنطن والدول الأوربية لضخ حجم من البترودولارات ينقذ الاقتصاد الدولي الذي "هرده" جورج بوش. وتحمس لقمة الكويت من ينتظرون الكثير من خيراتها، وكانت الحجة عدم إفساد قمة أعدت منذ مدة طويلة لمصلحة قمة فرضها مجرد عدوان إسرائيلي، ثم قيل، تمويها، بأن قضية غزة ستبحث على هامش قمة الكويت، وكان هذا أسخف تبرير لمقاطعة قمة الدوحة، وأعطى الشعور بأن القضية هي في نهاية الأمر تعليمات أمريكية واضحة بمقاطعتها، وبغض النظر عن المهمة المالية لقمة الكويت، فالمسافة بين الدوحة والكويت أقل من المسافة بين عنابة وبشار، وكان يمكن، لو صدقت النوايا، أن يلتقي القادة صباحا في الدوحة ثم ينتقلون بعد الظهر إلى الكويت، وتصبح القضية حاجة وحويجة. لكن هذا لا يرضي واشنطن، حتى في وضعية الفراغ الذي تعيشه، مما يطرح أمرا آخر بالغ الأهمية، وهو صلة أطراف عربية كثيرة بمراكز القوى في العاصمة الأمريكية أيا كانت وضعية رئاستها، مما يؤكد أن العلاقات الحقيقية ليست مع بوش أو كلينتون أو الست كوندي، ولكن مع مصالح أمريكية أمنية ومخابراتية ومالية هي صاحبة القرار في كل شيئ. وهكذا ذهب إلى الدوحة كل من اتخذ قراره بناء على يقينه الذاتي واستجابة لمشاعر شعبه، وربما باستثناء قائد الانقلاب الموريطاني الذي يبحث عن فك عزلته. وليس في هذا كله ما يستعصي على الفهم، فمنذ قيام إسرائيل في المشرق العربي برزت سلطة الأمن كعامل حاسم في اتخاذ كل القرارات التي يتخذها من تقدمهم وسائل الإعلام كأصحاب القرار، والذين يتضح يوما بعد يوم أنهم مجرد منفذين لما يصلهم من نصائح عبر التقارير المخابراتية. وتتسع دائرة النفوذ المخابراتي فيصبح معظم الولاة والمحافظين وقادة الأجهزة التنفيذية بل وأعضاء المجالس المنتخبة من رجال الأمن العسكري والمدني، وينشأ تحالف عضوي مع رأس المال المحلي المرتبط بمؤسسات احتكارية خارجية، ويكون على التحالف أن يدعم وجوده الفكري على الساحة باختراق أجهزة الإعلام والجامعات ومراكز الرأي وقيادات الأحزاب، في السلطة وفي المعارضة على حد سواء. وتصبح السلطة الأمنية، بحكم ما تتوفر عليه من وسائل القوة القمعية والردعية بما في ذلك إمكانيات التنصت واكتشاف العورات البشرية عند الآخرين، هي صاحبة القرار الحقيقي في شؤون الدولة التي تعيش على الهاجس الإسرائيلي. لكن المستوى الفكري المحدود والخبرة العملية الهزيلة لتحالف السلطة يفرض الاستعانة بالمؤسسات الأمنية الخارجية تحت غطاء الحرب على الإرهاب، وهذه المؤسسات، في معظمها، تنسق نشاطها وتستمد معلوماتها عن العالم العربي من المخابرات الإسرائيلية، وهكذا نجد أننا نطبق أحيانا، وبالحرف الواحد، تعليمات الموساد، خصوصا وأن الطبقة السياسية في معظم بلدان الوطن العربي كائن طفيلي يعيش على صدقات السلطة السياسية ويسير على هدى توجيهاتها، أو ما يبدو له أنه توجيهاتها، وليست وضعية المجتمع المدني بأحسن حالا. ولقد رويت يوما ما سمعته من الكاتب الأمريكي الكبير وليم كوانت عندما قال : لو كانت هناك ديموقراطية في مصر لما أمكن تمرير اتفاق كامب دافيد. كانت هذه هي الصورة أمامي وأنا في الطائرة الرئاسية الجزائرية التي تفضل رئيس الجمهورية بوضعها تحت تصرف الوفد البرلماني الجزائري لنتمكن، على وجه السرعة، من المساهمة في اليوم التالي في أشغال الاجتماع الثاني لاتحاد مجالس الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي، الذي ستحتضنه إستانبول لدراسة مأساة غزة. وخلال استقبال الأخ عبد القادر بن صالح رئيس مجلس الأمة لرئيس المجلس الوطني التركي في اليوم الأسبق كان واضحا أن هناك إرادة الخروج بشيء عملي يساهم في إيقاف النزيف الفلسطيني، وأوضح بن صالح للضيف مواقف الجزائر يشكل لا يحتمل أي لبس. وعرفنا إثر الوصول ليلا بأن هناك محاولات لتمييع لقاء استانبول وتحويله إلى صراع إيراني سعودي يبتعد به عن هدفه المنشود، أو إلى منصة لتبرير مبادرات يدعي البعض أنها وإن كانت عربية اللغة فإنها فرنسية الصياغة وهي في نهاية الأمر إسرائيلية الأهداف. وكان علينا أن نعمل لتصدر القرارات بالإجماع وبدون أي تحفظات، وتكون في مستوى ما تعلقه الشعوب على من يتحدثون باسمها، وافتتحت الجلسة في القاعة التي لم تكن على جدرانها أي صورة للرؤساء والملوك المشاركين، ونادينا بأن تكون الأشغال مفتوحة للصحافة، لكي يظهر كل على حقيقته. وافتتح السيد عبد العزيز زياري الجلسة، بصفته نائبا للرئيس النيجري، وهكذا ظهر رئيس المجلس الشعبي على المنصة واضعا على عنقه الكوفية الفلسطينية الشهيرة، وكان هذا مما يُمكن تسميته بإعلان للنوايا (Annoncer les couleurs) واستعرض زياري في كلمته المُعدة سلفا موقف الجزائر بعد أن طلب من الحضور التزام وقفة ترحم، ثم ندد بتجاهل إسرائيل للقرارات الدولية، وقال بأنه حان الوقت لنخاطب الدول التي تتحمل المسؤولية الكاملة على هذا الوضع الخطير، حيث أن الأغلبية الساحقة تحس بالإهانة مما يتعرض له الشعب الفلسطيني. وأوضح رئيس الوفد الجزائري بأن المفاوضات التي أجراها الفلسطينيون خلال السنوات الخمسة عشر الماضية لم تتوصل إلى نتيجة ملموسة، بل إن إسرائيل استغلتها لتقوية وجودها في الضفة الغربيةوغزة. وخلص زياري إلى أن القضية هي أساسا قضية سياسية، ويجب أن يخرج الاجتماع ببيان متفق عليه بالإجماع، وأشار إلى أن علينا أن نفكر في الدور الذي يمكن أن تلعبه دولنا حتى لا تزيد حدة الخلافات التي فاقمت الوضع في فلسطين. وكالعادة توالت كلمات المشاركين وتباينت حدة وليونة، ولوحظ أن الوفد المصري لم يحضر كلمة السيد لاريجاني رئيس الوفد الإيراني كما أن وفد أزاربيجان المجاور لنا لم يفتح فمه، وغابت وفود أخرى لا أذكرها، كانت غالبا ممن إذا حضر لا يضيف شيئا. وكان واضحا أن العمل الحقيقي سيتم داخل لجنة الصياغة التي أبلى فيها العياشي دعدوعة بلاء حسنا، ولم يكن السفير محمد غوالمي بعيدا عن الحلبة مع الأخ إسماعيل علاوة سفيرنا في أنقرة. وكان مما أثارني موقف الوفد الفلسطيني الذي لم ينطق، والمفروض أنه وفد برلماني، باسم رئيس المجلس الوطني التشريعي الذي اعتقله الإسرائيليون، ولم أتمالك نفسي فطرحت القضية على رئيس الوفد الذي قال بأنه يمثل رئيس المجلس الوطني الفلسطيني الذي يضم كل المجالس، ويرأسه السيد الزعنون، ولم أقتنع بهذا الرد الذي حرم القاعة من سماع اسم سجين إسرائيل السيد الدويك، وإن كنا حرصنا في البيان الختامي على إدراج اسمه واسم أحمد سعدات ومروان البرغوثي. ثم رحنا في نهاية الجلسة المسائية نستعرض نتائج أشغال لجنة الصياغة، وبدا واضحا أن هناك نقاطا قد تضم خلفيات مبهمة أو تتجاوز أفكارا ضرورية، وهو ما تحفزنا له، العياشي دعدوعة وأنا. وعلى سبيل المثال كانت هناك رغبة في وضع عبارة وفقا للقواعد الدولية بعد عبارة فتح جميع المعابر، وحدثت اتصالات سريعة لحذف تلك العبارة، حتى لا يرتبط الأمر من جديد بالرباعية الدولية التي سلبت مصر سيادتها على معبر رفح، وأضفتُ على الفور بعد .. فتح المعابر .. عبارة وفتح المنافذ البحرية والجوية لتشير إلى ميناء غزة ومطارها. وفوجئ الوفد الجزائري باختفاء فقرتين تتضمنان تحية الهبة الشعبية في أنحاء العالم للتنديد بالعدوان الإسرائيلي، وكذلك تحية صمود أبناء غزة، وطلبت الكلمة بسرعة لإعادة إدراجهما، لكننا فشلنا في إدراج فقرة تتضمن تجميد المشاركة في الاتحاد المتوسطي حيث أنها كانت ستخل بمبدأ الإجماع. كما أننا فشلنا، ولسبب نفسه، في مطالبة برلمانات العالم بتجميد علاقاتها مع إسرائيل إذا لم تنفذ قرار مجلس الأمن. ويبقى هنا أمر تركته للنهاية. فاستعراض تلك النشاطات بالتفصيل الذي لم ينجح في تصوير الساعات القلقلة التي عشناها يستهدف أساسا القول بأن على كل مواطن أن يقوم بدوره الذي يُكلف به، ولا يستجيب لمقولات الإحباط التي لو استمعنا لها لما تحرك أحد من بيته. ثم إن العالم كله يعرف مستوى الكثير من المجالس البرلمانية التي تمثل بكل المعاني ظلا لعود، ولا يمكن أن يستقيم الظل والعود أعوج. ويمكن أن نتخيل بيانا كبيان استامبول لو تزامن مع موقف عربي واحد يستجيب لدعوة أمير قطر، وينسف الادعاء بأن المبادرة المصرية الفرنسية كانت أساسا لإجهاض العمل الذي كان يجري في الأممالمتحدة لاستصدار قرار قوي من مجلس الأمن، وهو القرار الذي تدخل أولمرت شخصيا ليقنع بوش بعدم التصويت عليه بالإيجاب، ولم يكن أمام بوش إلا الموافقة لأنه لم يسمع من صوت عربي فاعل ومؤثر كلمة تحذره من عدم التصويت بنعم. وكيفما تكونوا يولّ عليكم. ------------------------------------------------------------------------