هذا جانب من الخطط العسكرية التي اعتمدها صانعوا الثورة التحريرية بشرشال تتوقف عندها “الشعب” ضمن صفحتها”مدن وتاريخ”. يعد أخطر مركز اعتقال للفدائيين أين انقلب الأمر إلى كبح جماح العمل الثوري عبر الزج بالكثير من المجاهدين في هذا السجن المبني من نوع خاص ، حيث يجمع فيه الناس وتقيد فيه حرياتهم، ويساقون إليه ويتهمون بمساعدة الثوار ويتعرضون للعذاب النفسي.لأنهم ليسوا مجرمين لكي يبث في أمرهم وتختلف حياتهم في المعتقل باختلاف الإدارة التي تسيرهم يخضعون للباس معين في السجن، هذا المعتقل ظهر في الحروب والصراع بين فرنسا والمواطن الجزائري، فيه يحشر ذوو الأفكار الحرة والاتجاهات السياسية المختلفة، ولما اشتد دور الثورة بعد اندلاعها في أول نوفمبر 54 وصمدت في الأوراس أكثر من غيرها كان العدو الفرنسي يختار أماكن التجمع والمعتقلات في الأماكن التي لم تمتد إليها يد الثورة وتتمتع بالهدوء والاستقرار ويفضل أن تكون في أماكن نائية وخالية من السكان . فهذا السجن تراعي فيه فرنسا البرودة القاسية في الشتاء وعذاب المعتقلين وإهانة المحتشدين ويحيطها العدو الفرنسي بسياج من الأسلاك الشائكة من جميع الجهات ويزرعون الألغام والأضواء الكاشفة حتى لا يفر منه المعتقلون والمحتشدون من كل حدب وصوب. يقع هذا السجن في بلدية شرشال، تحده من الشرق بنايات عالية، وهذا المعتقل لم يبقى من أثره شيء لأنه عبارة عن هيكل كاد أن يتلف من البناء . محاصر بثكنة عسكرية داخل مدينة شرشال، وجميع من كانوا فيه من المعتقلين جاء بهم العدو من مناطق مختلفة من عدة جهات من الوطن . الثورة المشتعلة انتشرت الثورة في المنطقة الرابعة بعد 55 ، بنى العدو الفرنسي معتقلا جديدا للذين جيء بهم والذي كان قد فتح لمدة طويلة بشرشال وقد خصصته فرنسا في البداية لتعذيب السياسيين، فهذا المعتقل أو مركز التجمع والذين قضوا مدتهم في السجن بداخله يمر بهم زبانيته وأغلبهم من الأسبان فيسومونهم تعذيبا وتهديدا وترهيبا و لم يسلم من أذاهم أي أحد من المعتقلين وأحيانا يضطر مسؤولوهم للقيام بالحيلولة دون التنكيل ببعض الشخصيات خوفا من تسرب الأخبار للصحافة لأن وحشية العدو تفوق الوصف ينتقم بها من المعتقلين والمساجين، فهذا المعتقل أشبه ما يكون بالمحطة للذين يؤتى بهم فالشخصيات الإصلاحية والسياسية قد نقلتهم إليه ، كان المعتقلون في البداية يختارون من قبل العدو ومن حامت حوله الشبهة أو خرج من السجن، ولا فرق بين من له ماض سياسي أو غير سياسي فهم جميعا في نظر العدو يتعاطفون مع الثورة ويجب استئصالهم من المجتمع حتى لا يبقى أي سند تعتمد عليه الثورة . كان الشعب محصورا في هؤلاء حسب اعتقاد العدو وهذا ما أدى به إلى فتح المعتقلات زيادة عن السجون التي امتلأت، هكذا كانت المعتقلات تضم داخل سياجها الكبار والصغار، شيوخا ونساء لا يستثنى أي أحد أشير إليه وقد جمعتهم في البداية في سجن واحد . يمتاز النضال واستمرار الكفاح داخل المعتقلات بأن جميع المساجين لهم درجة عالية من الصبر لا يستكينون للنوم ولا يستسلمون للراحة ولا يميلون إلى اللهو واللعب، بل كانون يجتمعون في كل معتقل ينزلون فيه ويشرعون في تسجيل من لا يعرف القراءة والكتابة حتى ولو كان مسنا ويصنفونهم على حسب مستوياتهم ومن ثم يأخذون في إلقاء الدروس ويعلمونهم جميع اللغات التي يحسنونها ويتقنونها ونتيجة لهذا المجهود المتواصل فإن أغلب المعتقلين الذين كانوا أميين حين دخولهم المعتقل أصبحوا بفضل التعليم المستمر يكتبون رسائل لأهاليهم، وكان بعضهم يتمتع بعزيمة قوية لا تلين وبعضهم يترقب الخروج على أحر من الجمر وذلك بما يتلقاه من الوعود عن طريق الإدارة الفرنسية والبعض الآخر ينتظر العذاب مرة أخرى، وتجده يعيش على أعصابه لا يستريح ولا يهدأ له بال والبعض الآخر هبطت معنوياته بما يسمع من خطب، وترى اليأس يعلوا الحياة والقلق يسيطر على نفسه . تنقل أثناء الليل وفي غمرة النوم فكر المعتقلون في كيفية تنظيم الخروج من السجن وقرروا أن يكون ذلك على الساعة الثالثة صباحا ومهما يكن فإن ما مر بهم من المحن والآلام والتنقل في أثناء الليل وفي غمرة النوم دفعهم لعدم التأخر عن القيام والاستعداد للخروج لأن اختيار هؤلاء المناضلين تم بمعيار ترك الشك واليأس والكل يتعامل مع إخوانه ولا بد أن يتصرفوا بإرادة قوية، وأن يزدادون صلابة كلما تكاتفت عليهم المحن أو ألمت بهم الشدائد منهجهم لا تذهب ريحكم أمام العدو وقابلوا ذلك بصبر وثبات وصارعوا الجبات، ارفعوا دائما معنوياتكم لا تتركوا الفاشلين من زملائكم وجابهوا الحرب وحافظوا على معنوياتكم مستندين لقوله تعالى “ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين”. هكذا تم الخروج من سجن شرشال من قبل مجموعة من المناضلين في فريق يتكون من 18 رجلا وهذا بعد صدور الأحكام على بعض المناضلين في زنزانات شرشال والخاصة بتنفيذ الأحكام عليهم ، ولكن هذه الثلة لم تستسلم للأمر الواقع فقد اعتادت على المغامرات طوال حياتها . أخذ سي جلول بلميلود يفكر في أمر الفرار من السجن ودرس مع رفاقه الذين اختارهم والمخلصين له ودبر الأمر فقبلوا واهتدوا إلى فكرة وليس ذلك بالأمر السهل ولكن إرادة الرجال تقهر الصعوبات وتذلل الصعوبات والعراقيل وتيسر كل صعب ، فتوكلوا على الله ودبروا ونظموا العمل فيما بينهم ليلا وتداولوا على الحراسة واستمر عملهم أياما وأعدوا العدة وأحكموا الخطة للخروج وكانت عيونهم أكثر وعيا وحذفا من عيوب العدو وفي مساء 16 أفريل 1956 تمكن سي جلول و 18 من رفاقه من مغادرة السجن ليلا وحرروا أنفسهم في عملية عجيبة بعد قتل الحارس وزوجته، كانت لحظة صعبة بعد الهروب من السجن كانوا يشعرون بفرحة عارمة بعدما نجى الجميع، ونسوا مخاوفهم السابقة من الفشل في الهروب. الحرية بأي ثمن بعد محاولات عديدة استطاع الجميع الخروج بعدما دبروا الأمر مع حارس السجن والدليل على ذلك أن كثيرا منهم بعد قطع الطريق نحو جبال سيدي سميان وبوحرب وبعد تقسم الجماعة إلى ثلاثة أفواج كل فوج اتجه إلى مكان خاص به، في انتظار اختيرا الوقت المناسب الذي يقع فيه تغير دور الحارس وعندما وصلوا إلى القرى المجاورة لبلدية شرشال اطمأن الجميع وكان سي جلول هو الذي احتفظ بقوته واستطاع أن يقاوم فكان يجري قليلا إلى الأمام ثم يعود إلى أصحابه ليأخذ بأيديهم، فهو لم يستطع التخلي عنهم لأنه يعرف المنطقة جيدا، وفي النهاية قطعوا المسافة التي كانت تقدر ب 12 كلم كان الجميع يدور في الشعاب والوديان والربى وقد أدركهم الإعياء قبل طلوع النهار وتمزقت أحذيتهم وصار البعض يمشي حافيا، وصل فوج من المناضلين إلى قريتنا وكان الفوج في حالة يرثى لها. كانوا يتوقعون أن يقع البحث عنهم ويتم تنظيم عمليات تفتيش واسعة النطاق كان هذا الفوج في حالة مزيج من الشعور بالفرحة والخوف من أن يلقى عليهم القبض ويحكم عليهم بالإعدام ولكن رعاية الله حلت بهم، وقد سمع أن قوافل الجنود الفرنسية تتحرك وسمع أزيز الطائرات في السماء ولم ينقشع الضباب إلا بعد الظهر وبقيا على هذه الحالة وبعد الحصار للمنطقة من قبل العدو الفرنسي سمع بوفاة المناضل البطل السويداني بوجمعة يوم 17 افريل 1956 لأنه لم يعرف بخروج المساجين من بلدية شرشال ، شهد بوضوح قوافل سيارات العدو تمر دون أن تأتي إلى المكان الذي كانا فيه ، انتشرت بعد الفرار من السجن ، وكانت قوات العدو قد حاصرت المنطقة غربا وشرقا لكن الفارين من السجن بعد منتصف الليل خرجوا وقدموا الأكل لهؤلاء المساجين لأنهم كانوا في القرية ، اعدوا لهم الطعام فأكلوا وشربوا القهوة ثم سال سي جلول من يعرف مكان المجاهدين ليقوم بمهمة الاتصال بالثوار. قام عمي أمحمد في ساعة متأخرة من الليل سلك للوصول إلى جبل بوحرب فسار بهم يتحاشى الطريق بسهولته وبحث عن مكان يختبئ فيه ذلك اليوم حتى يتصل بالمسئول بعد تكليف المعني بالأمر توجه إليهم مسئول الاتصال ، وتعانق الجميع بالفرحة وعين لهم المكان وربط الاتصال بهم وجاءوا إليهم المجاهدين ثم تم توزيع لهم اللباس والأحذية ووجدوا إخوانهم المجاهدين فكانت ليلة من البهجة والفرح . شن العدو حملات التفتيش والقمع بحثا عنهم وكانوا يجولون ويصولون واخلوا المنازل بحثا عنهم وانتقل الجميع إلى الجبل وهناك من التقى بأخيه أو جاره أو أهله مع المجاهدين وشرع المسئول في عقد اللقاءات مع المسئولين في جبل بوحرب ولكن البعض استشهد بعد الوشاية من بعض الخونة تم حصرهم من طرف العدو ، كما حدث ذلك في ظروف هروبهم وأسبابها ، كانت أحداث سي جلول مكثفة ومزدحمة وسريعة ورفع الظلم فلم يمضي على فراره من السجن وتحرير نفسه ولقد تعرضت المنطقة الرابعة إلى مشاكل كبيرة ومعقدة وعويصة طوال سنوات الثورة . مؤامرة في مهب الريح إن المؤامرات التي دبرتها المخابرات الفرنسية أثناء الثورة كان سي جلول قد تفطن لهذه العملية في المنطقة وعمل بكل دقة من اجل كشف الحقائق لهذه الوضعية . المشاهد تتلاحق تتكدس في الذاكرة والإحساس والشعور تتدافع المشاهد تتوالد من رحم البطولة والتضحية تشعر بالعزة ، فالموت من اجل الوطن ، من اجل الحرية ، من اجل الكل ، هناك معركة بين المعركة والمعركة ترسمها الأمهات الصابرات المرابطات ن يصنعها التاريخ المروي بدماء الشهداء يصنعها بعزم وإصرار . هل نحن الشعب الذي نتمنى أن نكون ؟ هل نحن حقا أحفاد بن مهيدي وبن بولعيد ؟ وسي أمحمد بوقرة ؟ هل نحن أحفاد أولئك الذين اقتلعوا من جذورهم ويظلوا يحملون حلم العودة مع مفاتيح بيوتهم المندثرة. طائرات ومدافع فرنسا تستهدف الجميع من أبناء الشعب الجزائري تظهر الخيانة تفرد برجالها وتقصف الشعب ، الجثث تتساقط والاستيلاء تتناثر والسكان من القرى موزعين بين الثار والخوف والرعب من كان بالأمس بطلا تحول اليوم إلى منتقم أفلا يحق لنا أن نعود لنردد كل ذي حق حقه .