اختتمت في القاهرة يوم الجمعة الماضي أعمال الأسبوع الأول للجان الحوار الوطني الفلسطيني الخمس )منظمة التحرير والحكومة والانتخابات والأمن والمصالحة( وسط أجواء وصفت بالمتعثرة دون اتفاق على القضايا الجوهرية ، لا بل إن الخلاف حول هذه القضايا خرج من الغرف المغلقة إلى العلن ، بالرغم من وصف أجواء الحوار بالإيجابية عند بدئها يوم الأربعاء الماضي دون إغفال الإشارة إلى صعوبة قضايا الحوار وتعقيدها ، ليتضح بأن عدم الاتفاق مسبقا على مرجعيات للحوار ما زال يمثل الحلقة المفقودة الضرورية لنجاح هذا الحوار ، وأي حوار وطني فلسطيني . ولا يسع المراقب تصوٌر كيف ستتوصٌل لجنة منظمة الحرير مثلا إلى توافق على تفعيلها إذا لم تتحدٌد مرجعيٌة الحوار فيها بأنها الميثاق الوطني المعدل أم الأصلي أم الميثاق القومي الأول ، وقس على ذلك في بقيٌة اللجان حيث ليس من المعروف ما هي المرجعيٌات للحوار فيها وهل هي القانون الأساسي لسلطة الحكم الذاتي والقوانين والأنظمة النافذة قبل الانقسام أم هي القوانين والأنظمة التي صدرت دون رقيب أو حسيب بعده ، مما يجعل لجان الحوار الخمس غير مكتملة وتفتقد لجنة سادسة مختصة بتحديد ما هي مرجعيٌة الحوار والاتفاق المأمول منه وهل هي القوانين النافذة أم هي التوافق الوطني بغض النظر عن تلك القوانين أم هي ما وصفه ممثل حركة حماس في لبنان أسامة حمدان بڤاستدعاء العامل الخارجيڤ الذي يعيد طرح ڤشروط الرباعيةڤ الثلاث المعروفة كمرجعية للاتفاق والمصالحة الوطنية . إن ما تسرٌب عن جدل في لجنة الانتخابات على سبيل المثال حول إجرائها على أساس القانون أم على أساس قانون الانتخاب الذي أصدرته رئاسة سلطة الحكم الذاتي بعد الانقسام في صيف عام 2007 يضع في دائرة الجدل ڤعاصفةڤ من القوانين زادت على أربعمائة قانون أصدرتها السلطة في غياب التوافق الوطني عليها وأي مشاركة شعبية فيها وكأنما كانت تنتظر فرصة حالة طوارئ يغيب فيها أيضا مجلسها التشريعي لكي تنفرد بإصدارها . ومثال آخر كان القرار الذي اتخذه مجلس وزراء السلطة في رام الله في الخامس عشر من الشهر الماضي باعتبار المجالس البلدية المنتخبة التي تنتهي ولايتها في الضفة الغربية مجالس منحلٌة ثم اعتبارها مجالس مكلٌفة بتسيير أعمال البلديات حتى الخامس عشر من شهر كانون الأول / ديسمبر المقبل بينما تم في قطاع غزة تعيين لجان بديلة للمجالس التي انتهت ولايتها . لقد جرت الانتخابات البلدية السابقة على مراحل زمنية وليس في يوم واحد ولا يوجد بالتالي سبب مقنع يمنع عدم إجرائها في موعدها حسب القانون في الضفة والقطاع على مراحل سوى عدم التوافق على المرجعيٌة القانونية لإجرائها وسوى استمرار مضاعفات الانقسام الوطني مثل استمرار الاعتقالات وتقييد الحريات العامة مما يشكك في نزاهة الإعداد لها ومراقبتها وبالتالي في نتائجها إن أجريت في ظل الوضع الراهن . أما المثال الحديث الأبرز على العبث في المرجعيات وتطويع القوانين تعسٌفا لأغراض سياسية فكانت الاستقالة الثانية لرئيس وزراء حكومة تسيير الأعمال سلام فياض المستقيل قبلها كرئيس وزراء لحكومة طوارئ السلطة ، فحكومتة الأولى للطوارئ بدعة غير منصوص عليها في القانون الأساسي وعندما قدم استقالته من هذه الحكومة كلٌف بتأليف حكومة ڤتسيير أعمالڤ لم يؤلٌفها حتى الآن بينما تحوٌلت حكومته للطوارئ إلى حكومتة الحالية لتسيير الأعمال التي قدٌم استقالتها اعتبارا من نهاية الشهر الجاري ، أي انه استقال من الحكومة نفسها مرتين واستقال في المرة الأولى دون أن يستقيل فعلا وكلٌف بتأليف حكومة ثانية استقال منها الآن دون أن يؤلفها أصلا . أنها صورة كاريكاتيرية مضحكة مبكية معا لما آل إليه الحال الدستوري والقانوني الفلسطيني . وحال العلاقة بين مؤسسات منظمة التحرير المنتهية ولاياتها وبين ميثاقها ونظامها الداخلي كمرجعيٌات لها ليس أفضل من حال العلاقة بين مؤسسات سلطة الحكم الذاتي وبين قانونها الأساسي وقوانينها كمرجعية لها ، وفي الحالتين يصعب التكهٌن في الكيفية التي يمكن للمتحاورين في القاهرة التوافق على آليٌات لتوحيد المؤسسات المنقسمة ولتفعيلها في غياب التوافق على مرجعيٌاتها ، وفي الحالتين يكمن التناقض الذي قاد إلى الانقسام أصلا في البرنامج السياسي المختلف عليه ، وعلى سبيل المثال كيف يمكن الاتفاق الوطني على تفعيل منظمة التحرير إذا لم يتم الاتفاق قبل ذلك على ميثاقها ، أو كيف يمكن تأليف حكومة دون التوافق قبل ذلك على برنامجها السياسي أو كيف يمكن التوافق على عقيدة قوى الأمن الوطني ودورها وتوحيدها إذا لم يتم التوافق قبل ذلك على المرجعيٌات الدستورية والقانونية للمنظمة والسلطة ، إلخ . إن تغييب الرأي العام الوطني عما يدور وراء الأبواب المغلقة في اللجان الخمس يعزٌز الشكوك في أن ما يتحاور حوله المتحاورون لا يزيد على كونه جدلا حول توزيع الحصص بين الفصائل في مؤسسات المنظمة والسلطة وليس حول القضايا الخلافية التي قادت إلى الانقسام مما يهدٌد باستمرار هذا الانقسام كامنا لينفجر مرة أخرى إذا ما انتهى الحوار الحالي باتفاق يستهدف فقط تلبية الاستحقاقات الفلسطينية المطلوبة لاستئناف ما يسمى عملية السلام ، وفي رأسها ڤالتهدئةڤ من جانب واحد ، ولإرضاء المانحين حتى يفوا بتعهداتهم ، فهذه على أهميتها السياسية ليست هي الأهداف التي يصبو إليها الشعب الذي اكتوى بنار الانقسام ويأمل من الحوار الوطني أن يتوٌج باجتثاث الاختلاف على المرجعيٌات الذي تفجٌر دما وطنيا محرٌما على الإخوة . وبما أن الحوار الفلسطيني الجاري في القاهرة وفي غيرها لم ينظٌم أصلا بهدف إنجاز توافق وطني على المرجعيٌات الاستراتيجية فإن أقصى ما يمكن أن يتمخٌض عنه هو توافق على قواسم مشتركة يمكن بناء عليها الاتفاق على برنامج سياسي ڤمرحليڤ سيكون على الأرجح قصير الأمد ، لكن افتقاد الاتفاق على المرجعيات إيٌاها المختلف عليها يثير أسئلة مشروعة حول المرجعيات البديلة للتوصل حتى إلى برنامج ڤمرحليڤ ، وقد اعتمدت اتفاقات وطنية وعربية سبق التوافق عليها -- لكنها ظلت حبرا على ورق أو سرعان ما انهارت قبل البدء في تنفيذها بدءا من اتفاق القاهرة عام 2005 وليس انتهاء بالمبادرة اليمنية التي اعتمدتها قمة دمشق العربية ؟ كمرجعيات بديلة مرحلية بدورها للتوافق الوطني . غير أن التفسيرات المختلفة لتلك المرجعيات البديلة التي قادت إلى بقائها حبرا على ورق هي بدورها بحاجة إلى التوافق الوطني على تفسير موحٌد لها حتى تكون أساسا صالحا للتوافق على برنامج مرحلي . وتبدو آلية الاتفاق على المرجعيات في حوار القاهرة هي الحلقة المفقودة ، إذ كان من الأجدى إضافة لجنة سادسة إلى اللجان الخمس مختصٌة بمراجعة لاستراتيجية منظمة التحرير منذ بدأت دوٌامة عملية السلام التي شلٌت المنظمة دون أن يصيب الشلل حركة النضال الوطني لتستمر المقاومة للاحتلال خارج إطار منظمة التحرير مما قاد إلى الانقسام الراهن ، وكان الأجدى أن يسبق عمل هذه اللجنة المفقودة أعمال اللجان الأخرى ، غير أن الحاجة إلى لجنة ڤدائمةڤ كهذه لا يرتبط وجودها بالحوار الحالي هي ضرورة لإنجاح الحوار الراهن وأي حوارات لاحقة بقدر ما هي ضرورة لمحاولة قطع الطريق على من يعتمد بقاؤهم السياسي على استمرار النفخ في نار الانقسام الفلسطيني . بقلم نقولا ناصر *كاتب عربي من فلسطين *