ثسيرث نشيخ (الطاحونة) مكان إقامة صلاة الجنازة وإلقاء النظرة الأخيرة على الزعيم «دفنه بجوار الراحلة أمه» وصيته الساعة التاسعة صباحا، الوجهة مسقط رأس الزعيم الراحل حسين آيت أحمد، رغم طول المسافة التي تربط بين مدينة البويرة وقرية أث أحمد بعين الحمام بولاية تيزي وزو، إلا أن ذلك لم يمنعنا من التنقل لتغطية التحضيرات الجارية لمراسم تشييع جنازة المجاهد الكبير والمناضل الفذ، ونقل صور التضامن. فكما نجح آيت أحمد في لمّ شمل جميع المواطنين في ربوع الجزائر قاطبة حول الوحدة الوطنية وهو حيّ، نجح في مماته في إبقاء نفس صور التضامن والتآزر. اخترنا المرور عبر الطريق الوطني رقم 30 الرابط بين ولايتي البويرة وتيزي وزو، مرورا بفج تيروردة عبر جبال جرجرة، في الطريق ظهرت القرى مبعثرة على سفوح الجبال والوديان، تلك المداشر التي أنجبت أسود الثورة أمثال العقيد عميروش، العقيد أكلي محند أولحاج، كريم بلقاسم وغيرهم من الشهداء البواسل الذين سقوا بدمائهم الزكية هذه الأرض الطاهرة لتصبح شامخة بين الأمم. مررنا بتلك الجبال التي وجدناها لازالت تعانق السماء كأنها تقول: “أني على العهد باقية، لقد احتضنت بين ذراعي الثوار وحميتهم من قنابل المستدمر”. في طريقنا ونحن نتأمل تلك المشاهد الربانية، استوقفنا أحد الشيوخ المدعو د. أمحند، طلب منّا نقله إلى مقر دائرة عين الحمام. وبعد التحية وتبادل أطراف الحديث، تبين أنه متقاعد من سلك التعليم وله أصدقاء بالبويرة. وعلى كأس الشاي بإحدى مقاهي عين الحمام، راح يصرح بمعلومات عن الراحل حسين آيت أحمد، توصل إليها نتيجة الأبحاث التي قام بها منذ سنين، فقال ل “الشعب”: “إن حسين أيت أحمد هو من سلالة الزعماء الذين ثاروا في وجه المستعمر. فقرية ورجة الواقعة ببلدية أبي يوسف والتي تبعد بحوالي 7 كلم عن مقر دائرة عين الحمام وأكثر من 20 كلم عن قرية آيت أحمد مسقط رأس دا الحسين، تعتبر مهد الزعماء، فقد أنشأها جدّنا الأول الذي يدعى أحمد أمزيان ثم تفرعت منه عدة عائلات وزعماء، على غرار فاطمة نسومر التي انتقل والدها إلى قرية نسومر (بلدية إفرحونن) ليزاول مهنته كإمام، وبدوره انتقل الشيخ سي محند أولحسين وأخته إلى القرية التي تحمل حاليا إسم آيت أحمد”. وواصل الشيخ كلامه حول مسيرة آيت أحمد ونسبه: “هناك تزوج جد آيت أحمد بهذه الأخيرة، مؤكدا أن الشيخ محند أولحسين لم يترك أي أطفال، ذلك أن ابنه الوحيد “محند العربي” توفي وعمره لم يتجاوز 24 سنة، بعد ذلك تبنّى أولاد أخته ووضع ثروته بين أيديهم”. وأضاف، “بأن حسين آيت أحمد ورث عن الشيخ محند أولحسين حبّ الوطن وغريزة الانتفاض ضد المستعمر. لقد باشر العمل الثوري منذ نعومة أظافره ويتمتع بذكاء خارق للغاية أبهر حتى الفرنسيين”. وفي حادثة رواها المجاهد بن ورج علي، وهو أحد رفقاء حسين آيت أحمد وابن القرية، أنه في سنة 1947 بعثت فرنسا ضابط شرطة من باريس لإيقافه وأعطيت له كل الصلاحيات، كما وضعت تحت تصرفه كل الإمكانات المادية وحاول شراء ذمم المواطنين، مستغلا الحالة المزرية التي كان يعيش فيها الشعب الجزائري آنذاك، نتيجة نهب الاستعمار لثروات البلاد. إلا أن روح الوطنية كانت أكبر مما كان يعتقد وقضى شهرين ولم يتمكن من الحصول على أية معلومة مما أدى به للعدول عن المهمة. ثم جاء بعائلته من فرنسا وقدمها للسكان كرهينة مقابل ترتيب له لقاء مع هذا الشاب. وفعلا بعد تنظيم 3 مواعيد، لكن لاحتياطات أمنية، لم يلتق به إلا في الموعد الرابع، وبعد الحديث مع حسين آيت أحمد اقتنع أن فرنسا مستعمِرة ولابد لها من إعادة ترتيب أمورها في قضية الاحتلال. وأن الجزائر أحق بالاستقلال واستعادة السيادة. واصلنا الطريق إلى قرية أيت أحمد بلدية أث يحي. الملفت للانتباه هو نقص كبير في إشارات الاتجاه التي تساعد الزائر على معرفة الطريق وهذا ما أدى في أكثر من مرة الاستعانة بالمواطنين لمعرفة الاتجاه الصحيح. عند الوصول إلى آث هشام المعروفة بصناعة الزربية التي تحمل هذه التسمية، لاحظنا على حافة الطريق جرافات وشاحنات وعمالا يقومون بنظافة المحيط. وغير بعيد وصلنا إلى قرية أيت أحمد والتي تعرف بدورها أشغال التهيئة. الأشغال التي وقف عليه المسئولون المحليون وعلى رأسهم الأمين العام للولاية السيد تبورتن، الذي سهل لنا المهمة بحكم العلاقة الحسنة التي تربطنا به عندما كان مدير الإدارة المحلية بولاية البويرة. أمام ضريح الشيخ محند اولحسين حركة غير عادية. أفراد العائلة يستقبلون الوافدين من كل ربوع الوطن. قرية آيت أحمد، بحزنها أصبحت وجهة العزاء لكل الحركات التحررية التي ناضل من أجلها الزعيم حسين آيت أحمد. الانتقال إلى جوار الشهداء والصديقين لقامة الثورة، أثار الحزن والأسى عند كل الجزائريين. هذا الحزن الذي ظهر على أوجه أفراد العائلة الذين التقينا بهم خلال زيارتنا لقرية أيت أحمد. ورغم تأثرهم لهذا المصاب الجلل، إلا أنهم رحبوا بكل الوافدين، يحتضنونهم ويفتحون لهم صدورهم للحديث عن خصال الرجل الرمز الذي يقتدي به كل فرد من العائلة. ونحن نقدم العزاء أثار انتباهنا مشهد امرأة من العائلة تمشي والدموع تسيل على خديها. المشهد الذي زاد حزنا عميقا عند الحضور وخيم على القرية. ثم قدم لي أيت أحمد بوسعد، المكلف من طرف العائلة بالتنسيق لتحضيرات جنازة المغفور له. سي بوسعد، بعينين تدمعان وقلب خاشع، متحدثا أن العائلة تلقت وفاة “الأب” سي لحسين بحزن عميق وإن كان الرحيل بمثابة فقدان للجزائر ككل إلا أن فراقه صعب جدا على العائلة. حدثنا عن سي الحسين الشخص قائلا: إنه يفرق دائما بين العمل السياسي والعلاقة العائلية، كان يستقبل كثيرا كل أفراد الأسرة في منزله بسرور ويفرح للقائهم للحديث معهم حول ذكريات الماضي. إنه يحب كثيرا القصص التي عاشها في القرية مع أقرانه، كما يحب التطرق إلى الحديث بالمعاني التي تركها الأجداد مثل “ثمشها” القصص و«اسفرة” القصائد الشعرية. إنه من المتشددين المتشبثين بالعادات والتقاليد. من جهة أخرى، فإنه في كل مناسبة ينادي الى الرحمة والأخوة وكان يشدد دائما على حسن التربية وطلب العلم. تحسبا ليوم الجمعة المقبل، كل سكان القرية وأبناء المناطق المجاورة، بدأوا بتحضير مراسم الدفن والذين يريدون أن يكون تاريخيا. وبحسب آيت أحمد بوسعد، فإن دفن المرحوم سيكون بجوار مقبرة أمه بن قداش مياسه التي توفيت سنة 1983 ولم يتمكن من حضور جنازتها. وهذه كانت وصيته. أما بالنسبة للتحضيرات، فأكد أن كل الإجراءات اتخذت ليكون يوم الجمعة يوما مميزا على مقام الزعيم. ولهذا انطلقت عملية النظافة بالقرية وكل الطرق المؤدية لها. بالنسبة لمكان الدفن هو مقبرة العائلة المتواجدة بوسط القرية. أما صلاة الجنازة سوف تكون بالمكان المسمى ثسيرث نشيخ الواقع أعلى القرية ويبعدها بحوالي 2 كلم، المكان الذي وجدنا فيه شاحنات وجرافات تعمل على قدم وساق وهي تقوم بتسطيح الأرضية وتوسيعها لتمكين الوافدين من حضور صلاة الجنازة، كما وقفنا على أشغال تهيئة الطريق التي تربط الطريق الولائي بالقرية. بالنسبة للاستقبال تم تسخير عشرات الحافلات لنقل الوافدين، حيث اتخذت الإجراءات لمنع دخول السيارات ابتداء من حدود البلديات المجاورة لتفادي الزحمة المرورية، وفي نفس السياق تم تسخير ثانوية وإكمالية لتمكين الوافدين من الولايات البعيدة لقضاء ليلتهم، كما سوف يتم تحضير أكثر من 2000 وجبة غذائية. ودعا المنظمون كل الذين يريدون حضور الجنازة احترام تعليمات المؤطرين. سي الحسين اعتقل وهو في المدرسة الابتدائية إن روح المقاومة كانت راسخة في ذهنه منذ صغره. وبحسب بوسعد: سي الحسين سجن وهو تلميذ بالابتدائية، والسبب أنه في يوم من الأيام وجد نفسه وجها لوجه مع “ديمان” حاكم عين الحمام - سابقا ميشلي - ولما تمت مساءلته من طرف الحاكم عن عدم تقديم التحية، أجابه أنني لن أقوم بها. فاعتقله لمدة يوم كامل في زنزانة المستعمر، بالرغم من أن “ديمان” كان معروفا بجبروته في المنطقة، إلا أن سي الحسين تعنّت ولم يطأطئ رأسه. الطاهر آيت عيسى رفيق الطفولة: التواضع زاده قيمة واعتبارا ونحن نقف على ضريح الشيخ محند أولحسين، لاحظنا شيخا جالسا مسندا ظهره للحائط، كعادة كل سكان القرى، فاستفسرنا عنه وقيل لنا إنه رفيق الطفولة لحسين آيت أحمد. تقدمنا نحوه ولما طلبنا منه الإدلاء بشهادته إغرورقت عيناه وتألم كثيرا قبل أن يجيب على السؤال معلقا، ذهب سي الحسن وبقيت الذكريات. في شهادته ل “الشعب” سرد لنا الطاهر آيت عيسى وهو إبن خال حسين آيت أحمد طفولة الزعيم والتي كانت في البداية مثل كل أبناء القرية. سي الحسين كان يكبرني بسنتين وبما أنه كان إبن عمتي، كانت تربطنا علاقة قرابة وصداقة معه منذ الصغر. كنا نلعب سويا في القرية. الفرق الذي كان بيننا هو أنه التحق بالمدرسة، لكنني لم أتمكن نتيجة نقص الإمكانات ونظرا للظروف الاجتماعية الصعبة آنذاك، إلا أنني كنت أرافقه دائما أثناء تنقلاته، خاصة عند الذهاب إلى اث وسيف لزيارة أبيه الذي كان متواجدا هناك. وكان يعرف كل صغيرة وكبيرة عنه. مؤكدا، أنه رغم بلوغه قمة الزعامة إلا أنه بقى متواضعا ويأتي إلى القرية وعند لقائنا نتجاذب أطراف الحديث ونحكي حكايات الطفولة ويضحك كثيرا معي، لأنه يجد عندي ذكريات الماضي التي تنسيه هموم السياسة وكان متواضعا جدا.