بالموازاة المقال الذي ننشره، ووَزَّعْنَا نُسَخًا منه إلى كل السلطات المعنية مركزية وولائية ، لإعلامهم بتفاصيل المهزلة، وكانت جهودنا في نهاية المطاف كلها بدون جدوى. وما كان هذا الموضوع لِيُثَارَ من جديد، ونُقْدِمُ على نَشْرِه لولا استضافة التلفزيون الوطني عقب اختتام التظاهرة (الأرضية ثم الثالثة) لشخصين كان أحدهما ضيف الحصة وهو الأستاذ لخضر بن تركي الذي كان المشرف على الجانب الفني لتظاهرة قسنطينة، وقد أبدى إعجابه ورضاه بنتائجها وخَصَّ بالذكر الملحمة!!! وكان الثاني هو الدكتور ناصر لوحيشي الذي كان على المباشر من قسنطينة، وكان هذا الأخير يعتزُّ بكونه من محرري الملحمة التي كانت حسب تصريحه ناجحة فنيا وتاريخيا ونالت إعجاب الجميع!!! وأمام هذا الإصرار على الخطأ!!! والتباهي بطمس الحقائق التاريخية واستبدالها بالتزييف والتلفيقات الواردة في تفاصيل الملحمة، والتي أضرت كثيرًا بالسياقات الصحيحة للواقع التاريخي، فإنه لا مَفَرَّ من عرض وجهة نظرنا المتطابقة مع المصادر التاريخية المجمع عليها. نص المقال: عشية الإعلان عن قسنطينة عاصمة الثقافة العربية 2015، كثيرون هم المواطنون الذين لم يعبروا عن اهتمامهم، فلم يروا أي تأثير إيجابي على حياتهم اليومية. غير أن قلة وهم أصحاب دراية أكثر في الموضوع أدركوا، أن هذا الحدث سيسمح للصخر العتيق بالاستفادة بمرافق مختلفة والتي حرم منها كثيرا في الماضي، مهما كان إنجازها في أجلها المحدد، أو تأخر إنجازها نوعا ما، المهم مع الوقت، ستصبح هذه التجهيزات مكسبا للمدينة، التي تستطيع آنذاك أن تنتعش بفضل تراثها الثري والمتنوع. مع هذا أنه ما يحز في النفس بالنسبة لهذه الفئة القليلة من القسنطينيين، هو حرصهم على إعادة الاعتبار لتاريخ المدينة غير المعروف في عمومه وحتى يصبح في متناول أكبر عدد من الناس. فقليل من الجزائريين وخاصة من سكان قسنطينة، من يعلم أنه وخلال الحصار الذي أطبق على مدينتهم في 12 أكتوبر 1837، تمّ القضاء على الجنرال (دامرمون Damrémont (الحاكم العام والقائد العام لجيوش إفريقيا، بقذيفة مدفع أُطْلِقَتْ من طرف المدافعين عن المدينة في المكان المسمى اليوم ساحة العقيد عميروش (Pyramides) سابقا ومن يذكر منهم أيضا، أن أكبر هزيمة لحقت بالفرنسيين خلال الاحتلال كانت إبان الحملة الأولى على مدينة قسنطينة تحت قيادة الحاكم العام آنذاك (المارشال كلوزال Maréchal Clauzel)، حيث قدرت خسائر العدو ما بين 1000 إلى 2000 قتيل بحسب مختلف المصادر ...1 ولما علمنا أن هذه الملحمة محورها تاريخ (كورتا) أو (سيرتا) قسنطينة، حيث يتم عبرها تدشين الحدث بتاريخ 16 أفريل، غمرتنا البهجة، إذ أن ملحمة مدينتنا لا يمكن سردها وعرضها على الركح، دون الإشارة الى اللحظات والمحطات المشحونة بزخم التاريخ، والأحداث الكبيرة عبر العصور المتتالية على هذه القلعة العريقة. مع هذا يجب أن نبقى أوفياء إلى الحقيقة التاريخية التي تكون ماثلة في إطار الملحمة بالطريقة الفنية. كل هذا يسمح خاصة بتصحيح الفراغ الكبير الذي لاحظناه عند مواطنينا فيما يخص تاريخهم. لقد تألقت مدينة قسنطينة ليلة 16 أفريل. فامتلأت قاعة (حاج أحمد باي) التي تضاهي في رونقها أكبر القاعات بأوربا بمرتاديها. وتلاحقت اللوحات الفنية للملحمة على الركح الجميل، وأضفت عليه الأصوات والألوان الزاهية رونقا وجمالا، تخللتها التصفيقات المتتابعة للحضور، تعبيرا عن التفاعل الكبير للجمهور مع الفرق الفنية. إلا أن ثلة من الجمهور الذي له اطلاع على تاريخ المدينة، بقي متحفظا منذ بدء الملحمة، بسبب مصداقية الوقائع التاريخية للمدينة عبر العصور، فيما تفاقم لديه هذا الإحساس ليتحول مع نهاية إسدال الستار إلى صدمة حقيقية. قد نتفهم أن يتجه العمل الفني إلى إضفاء الشاعرية على الأحداث التاريخية، شريطة أن تحفظ حقائق الأحداث وألا يطالها التزوير. يمكن للإبداع الغور في تمجيد مرحلة من التاريخ، للإطراء والمدح في حقها، لكن دون التحريف. إن كتابة التاريخ قضية جادة لا يمكن إناطة مهمتها لأطراف يفتقرون إلى التركيز، وتحوم حول كفاءتهم الشبهات. مع أن التاريخ هو الذاكرة الجماعية للشعوب، فلا يمكن أن يُبْتَذَلَ ويميل حيث مالت به الأمزجة. وحتى لا أسهب في استعراض العجز الذي اعترى هذا العمل الفني، سأقتصر على بعض الملاحظات التالية: لم تكن (صريم باتيم Sarim Batim) التسمية البونيقية لسيرتا، حسب السيد عبد الكريم بجاجة 2 : لقد أُثِيرَ هذا الإسم (صريم باتيم) كفرضية لأول تسمية لسيرتا قسنطينة - وسرعان ما تم التخلي عنها من طرف من اقترحوها ودافعوا عنها ...». فالجدال حول هذه القضية لا يزال مطروحا لحد اليوم، و لم يحسم فيه بعد. أما تسمية ((قصر طينة)) المذكورة في الملحمة، فهي لا تستند إلى أي أساس، اللّهم إلا أن تكون محاولة غير موفقة لتعريب اسم قسنطينة. لا أود أن أتناول موضوع المفارقات التاريخية العديدة التي ساقتها الملحمة حول الصراعات بين (سيفاقس) و (ماسينيسا)، للتخفيف على القارئ. فيما يخص (سوفونيسب): عبر خطاب لاذع، دعت (ماسينيسا) للابتعاد عنها، مؤكدة وفاءها لزوجها (سيفاقس) الذي وقع أسيرا بأيدي الرومان، قبل أن تضع حدا لحياتها بطعنة خنجر. لكن الحقيقة التاريخية مختلفة تماما: لقد استقبلت (سوفونيسب) (ماسينيسا) كمنتصر تحت ردهة القصر، منحنية، مادحة إياه ومبايعته، طالبة منه بإلحاح أن لا يسلمها إلى الرومان. ولكن الرومان مصرون في طلبها كأسيرة حرب مخالفين في ذلك رأي (ماسينيسا). هذا الأخير الذي أخذ على عاتقه ملاقاتها سِرًّا قدم لها السم لتتخلص من ذل الأسر. فتجرعته وهي راضية، حتى لاتكون سبية للأعداء. وحسب روايات أخرى لمؤرخين، فإن الذي قدم لها السم هو خادم مبعوث من طرف (ماسينيسا) . 3 إن عرض هذه الملاحظات الثلاثة السالفة الذكر ( صريم باتيم ) ( قصر طينة ) و (سيفاقس ) (ماسينيسا) (سوفونيسب) لم تكن لشيء إلا لترسيخ الحقيقة التاريخية. وهي ملاحظات ليست بالتأثير الذي يَمَسُّ التخيلات التاريخية، بالنظر للأهمية النسبية للوقائع وبُعْدِهَا الزمني عن عصرنا. إلا أن المسائل التي سأشير إليها فيما سيأتي، وإن لم يتم تداركها وتصحيحها من طرف الجهات المعنية، ستكون لها آثارا سيئة جدا على الذاكرة الجماعية للجزائريين، بسبب المعلومات غير الصحيحة التي احتوتها الملحمة. هنا أسمح لنفسي أن لا أحترم التسلسل الزمني حين سردها، إذ سأتناول ابتداء، حالة (مريم بوعتورة) التي استشهدت في جوان 1960، وأترك للختام ما هو أخطر وأعني بذلك التحريف غير المقبول لمجرى الأحداث الخاص بمعركتي قسنطينة 1836-1837. 1 إن ظروف استشهاد (مريم بوعتورة) كما قدمتها (الملحمة) خاطئة تماما. إن التخلي عن السلاح في نظام جيش التحرير الوطني والتوجه نحو العدو، حتى ولو أن الراية الوطنية بالأيدي، يعتبر فعل استسلام حكمه الموت. وإذا أُخِذَتْ هذه الرواية الملفقة التي جاء بها هؤلاء المؤرخين المزعومين بعين الاعتبار، فهذا يكون بمثابة إهانة لروح الشهيدة، التي عرفتها شخصيا، وأشهد هنا على شجاعتها. الحقيقة هي أن الشهيدة البطلة ورفاقها في السلاح، جابهوا ببسالة وأياديهم على الزناد لَمْ تَحِدْ، متسببين في سقوط أعداد من العدو حتى الاستشهاد، بعد أن باشر الجيش الفرنسي بإطلاق قذائف الدبابات على المكان الذي احتموا فيه والذي يقع بقلب مدينة قسنطينة. 4 2 وقد بلغ هذا الصنف من المؤرخين قمة اللامبالاة والبلاهة عند روايتهم في سقوط مدينة قسنطينة. فحسب «الملحمة» وعند وصول (الجنرال كلوزال) الذي هو في الواقع الحاكم العام ومارشال فرنسا إلى مشارف المدينة، وجه رسالة إلى (أحمد باي) يأمره فيها بالاستسلام. هذا الأخير رفض الإنذار وبادر بمهاجمة ( كلوزال ) حيث اضطر هذا الأخير إلى الانسحاب والتراجع . وبعد 7 أيام ظهر (دام ريمون) و بالترهيب وبالترغيب، استطاع أن ينال من سكان قسنطينة ، وهذا يعني ببساطة، الاستسلام و الخضوع من دون أية مقاومة !!!.5 الحلقة 1