تنذر مؤشّرات المناخ في هذا الفصل بمواجهة قطاع الفلاحة لهاجس جفاف يلوح مبكّرا بمخاطر على نسبة النمو الزراعي، التي يراهن عليها في إرساء اقتصاد إنتاجي ومتنوع بديل للمحروقات التي يتأكد في كل يوم أنها لم تعد ضمانة أبدية لتمويل الخزينة العمومية. وتمثّل الأراضي الفلاحية مصدرا لا ينضب ليتأكد مرة أخرى طابعها المتميز كأولوية اقتصادية بامتياز رصدت لها الدولة برامج وإجراءات قد لا تحقق الأهداف المسطّرة في غياب بدائل الري المختلفة، التي تسمح باستغلال عقلاني للاحتياطيات المائية المخزّنة على مستوى منظومة السدود والآبار الجوفية. تفاديا لأن يضيع الموسم الفلاحي خاصة بالنسبة للمزروعات ذات الطابع الاستراتيجي مثل الحبوب ومختلف الخضر والفواكه والأشجار المثمرة التي أظهرت الاستثمارات نجاحا ملحوظا، بات لزاما الانتقال إلى درجة متقدّمة في الدفع ببرامج السقي التكميلي، وتحويل مياه السدود إلى المحيطات المستصلحة واسعة النطاق، وترشيد استغلال المياه الجوفية. وفي الوقت الذي تشير فيه دراسات عديدة منذ سنوات إلى أن بلدان منطقة المتوسط، ومن بينها الجزائر سوف تشهد حقبة جفاف تجعل من مصادر المياه أحد التحديات التنموية والإستراتيجية بات أكثر من ضرورة المبادرة بتنمية مسار حديث ومتكامل للري الفلاحي بما يوفر هذا العنصر الحيوي وتفادي انقطاعه، خاصة في بداية الموسم الزراعي وخلال مراحل نمو المحاصيل. لقد أصبح السقي بمختلف أنواعه الخيار الأمثل والوحيد في الظرف الراهن من خلال توسيع أنظمة الرش المحوري وبالتقطير، واستغلال المياه المعالجة المطابقة للمعايير، علما أنّ السقي بالتقطير يمتاز بطابع النجاعة (مردوديته تتعدى السقي التقليدي بثلاث مرات)، وهو اقتصادي ممّا يؤهّله لأن يتبوّأ منظومة الري الفلاحي خاصة في بعض الفروع من المزروعات مثل الأشجار المثمرة والكروم والخضراوات، وحتى النخيل الذي يمثل إنتاجه من التمور ذات الجودة أحد الفروع الأساسية للرفع من قدرات التصدير خارج المحروقات. غير أنّ أبرز المعوقات مثلما يسجّل في عالم الفلاحة أن المزارع عموما لا يزال يمتنع عن استعمال الوسائل الحديثة للري أو يتردد في التعاطي معها، مفضلا السقي التقليدي وانتظار ما تدره الأمطار الموسمية (التي أصبحت شحيحية في السنوات الأخيرة)، ممّا يضع الفلاحة كقطاع يتصدّر المشهد الاقتصادي الجديد أمام الخطر من حيث المردودية والنمو، خاصة وأنّ محيطات واسعة تمّت تهيئتها فأصبحت جاهزة لإطلاق استثمارات زراعية واسعة النطاق، خاصة تلك المدرجة في إطار الشراكة الأجنبية. ولتجاوز المنعرج المناخي الطبيعي، يمكن الشروع في تجهيز بدائل الري وترسيخ ثقافة اقتصاد المياه الجوفية وعقلنة استعمال مياه السدود، مع الرفع من درجة جودة التطهير ضمن رؤية متكاملة ومنسجمة تنخرط فيها كافة القطاعات المرتبطة بالفلاحة، مع إقحام المزارع الصغير خاصة في الديناميكية الجديدة لري الفلاحي من خلال توسيع استعمال العتاد الصناعي الملائم، وإدخال التكنولوجيات الجديدة بما في ذلك محور الرقمنة. إلاّ أنّ جانب الكلفة المالية التي تتطلبها مثل هذه التحوّلات في إستراتيجية الري الفلاحي قد يشكل أحد المشاكل أو الصعوبات التي تعترض المسار ممّا يستدعي إعادة صياغة ورقة الطريق المتعلقة بالتمويل ومنح القروض، وتوسيع إجراءات الدعم للتجهيزات المتعلقة بالري الزراعي من أجل الحرص على توفيرها وجودتها ومردوديتها. ويعتبر التمويل الزراعي من حيث القدرات التي تخصّصها الدولة للقطاع وضرورة بلوغ الموارد للمتعاملين الحقيقيين ضمن خارطة استعمال واضحة الأهداف وشفافة المسالك أحد التحديات التي تلقي بظلالها على الساحة في الوقت الراهن، بحيث ينبغي أن يتم التركيز على متابعة مدى التزام المتعاملين الصناعيين في مجال الري وتجهيزاته بقواعد الموضوعية والعقلانية، خاصة على صعيد هوامش الربح مقارنة بالكلفة مع مرافقة الابتكارات المحلية التي تصبّ في مجال اقتصاد النفقات المالية أو اقتصاد الموارد المائية الطبيعية. وفي انتظار إقلاع من هذا الحجم، توفر المادة الحيوية (المياه) لقطاع أظهر نتائج إيجابية على مستوى المحاصيل في السنوات الماضية بفضل انخراط الدولة في برامج ضخمة للنهوض بالفلاحة من خلال استغلال كافة الموارد الطبيعية، وتحرير المبادرة ضمن رؤية واسعة للتنمية الريفية والجبلية، واستصلاح أراضي الجنوب، أصبح في حكم الأمر الحتمي التوجه إلى إرساء نظام التعاونيات الزراعية ذات الطابع الاحترافي من أجل تجميع القدرات، وحشد الطاقات بما فيها الموارد المائية من آبار وتجهيزات تحويل وعتاد السقي وإقحامها بقوة في المشاريع الإنتاجية ذات الأبعاد الاقتصادية الوطنية والمحلية التي تندرج في سياق تعزيز النمو. ولعل موجة الجفاف - التي تنذر إلى درجة تشغل الرأي العام بنفس حجم الانشغال الذي يلقي بظلاله على عالم الفلاحة والفلاحين - تمثل ناقوس إنذار يشير إلى الخطر الذي يحوم بالقطاع، ومن ثمة بالاقتصاد الوطني، في وقت انخرطت فيه البلاد في مسار الحد من الاستيراد الغذائي خاصة بالنسبة للمواد والمنتجات التي توفرها المستثمرات الفردية والجماعية والمزارع الخاصة عبر التراب الوطني. ولا يمكن أن تستمر وضعية تبعثر وتشتت الإمكانيات في قطاع الفلاحة الذي فقد الكثير من فضاءاته العقارية في انتظار ما تسفر عنه عملية استرجاعها أو البعض منها، ولذلك حان الوقت لأن يشعر العاملون في الفلاحة من منتجين وصناعيين متدخلين بأهمية التحدي وفقا لرؤية وطنية تتعدى إطار القطاع الذي لا يعزل عن الديناميكية الاستثمارية والتنموية المستدامة التي تراهن عليها الجزائر في المديين القريب والمتوسط كحتمية مصيرية تعني كافة القطاعات الاقتصادية.