عندما اقتربت منا عائلة مغفور بولاية وهران لتروي لنا معاناتها مع مشكل السكن الوظيفي وتخطيط المسؤولين لطردها منه إلى الشارع عقب وفاة الوالد مصطفى، اعتقدنا في البداية أن الأمر يتعلّق بمشكلة عادية، كآلاف تلك المشاكل والرسائل المفتوحة التي تُطالعنا بها الصحف يوميا، والحاملة لاستغاثة المواطنين بهؤلاء المسؤولين لعل وعسى أن يتحرّك واحد منهم لإجابة السؤال، لكننا وبعدما تمعنّا جيدا في الصور القديمة والوثائق التي اصفر معظمها لتعاقب السنين، اكتشفنا أننا أمام تاريخ كامل صنعه هذا الرجل رغم أنه ظل رقما مجهولا في المعادلة التاريخية، لا يذكر حتى في المناسبات. ورغم أن معظم المسؤولين من "كبار القوم وأسياد البلد" مروا من هنا، بجانبه، درسوا معه ودرس معهم، جاوروه في السكن وأقاموا بجوارهم، بعضهم قضى نحبه وآخرون مازالوا على قيد الحياة في مناصبهم أو تقاعدوا منها، هناك في المغرب حيث درس، أو هنا في الجزائر التي وصل فيها أحد أعز أصدقائه ورفقائه في مقاعد الدراسة، بعد 50 سنة بالضبط، أي بعد نصف قرن، إلى أعلى المناصب " رئيس الجمهورية، القاضي الأول في البلاد". الحاج مصطفى تاريخ صامت يقول فرحات مغفور، وهو شاب وهراني يتمتّع بمحبة كبيرة لدى أصدقائه وجيرانه، إن والده كان يمثل خزانا لا ينضب من الذكريات ومرجعا مهما للتاريخ، ليس ذلك التاريخ المتعلق بالثورة وأحداثها، أو بالمقاومة ومعاركها فحسب، بل إنه يمثل ذاكرة حيّة للعلاقات الإنسانية، للصداقات البريئة والخيانات المتجددة، للوفاء إلى الأهل أو الغدر بهم، شاهد على انكسارات الداخل وانتصارات الخارج، إنه باختصار، يقول فرحات: "شاهد سبقنا الموت لخطفه قبل أن يقول شهادته، ويلفظ ما في داخله من ذكريات" الحاج مصطفى مغفور"رحمه الله" ومنذ أبصر النور في مدينة مسيردة التلمسانية عام 1936، أفاق على والده "امحمد" الذي كان من أكبر تجار المنطقة وقتها، كان يساعد الثوار بالمال ويحفظ لهم الأمانات، محلاته التجارية مثلت نجاحا خرافيا لكثير من الجزائريين الغارقين تحت رحمة الفقر والبؤس، لقد كان الوالد والجد "امحمد مغفور" رجل أعمال ناجح بمقاييس يومنا هذا، وشركة اقتصادية قوية". وفي ظل هذا الواقع المليء بالبطولات والممهّد لاندلاع الثورة المجيدة، فكّر الحاج "امحمد" في أن يتلقى أبناؤه أحسن تعليم، لإيمانه الشديد أن قوتهم في تحصيله، "وأن هذا الشعب ما كان ليستعمر أو يستعبد لو كان أكثر أفراده من العلماء"، لذلك قام الحاج "امحمد مغفور" بتسجيل إبنيه عبد المجيد ومصطفى في المدرسة الإسلامية بمدينة وجدة، حيث كان يملك عدة محلات... وقد اكتسبت هذه المدرسة سمعة جيدة وسط الأهالي نظرا لمستوى تعليمها لذلك كان حلم كل الآباء رؤية أبنائهم يجلسون على مقاعدها، أو حتى فوق أرضية ساحتها، وفعلا أظهر "الشاب مصطفى" قدرات كبيرة وسط زملائه، مما أهّله للحصول على البكالوريا سريعا في دورة 1956 / 1957، وهو ما كان يمثل تحديا لا يسهل اجتيازه من طرف الجميع. أبي صديق فخامة الرئيس كل شيء كان عاديا حتى أظهر لي فرحات صورة والده في المدرسة الإسلامية بوجدة، 32 تلميذا يقف بعضهم إلى جانب أستاذ فرنسي، في حين بقي النصف الآخر جالسا على المقاعد أو على الأرض، يقول فرحات إن هؤلاء الجالسين أو الواقفين في الصورة تحولوا بعد مرور نصف قرن أو أقل إلى أسياد قومهم "مثل ذلك الطفل الجالس على الأرض الثاني من اليمين إلى اليسار" طفل أبيض البشرة، بدلته بيضاء وقميصه الداخلي مخطط، أما تسريحة شعره فكانت كلاسيكية "على الموضة في ذلك الوقت" لرسم ابتسامة ظاهرة على ملامحه، فرحات قال لنا إن والده مصطفى أخبره أن هذا الطفل أصبح مهما يعني تسلّمه لوزارة الخارجية، ثم مقربا من بومدين وفعلا كان الأمر يتعلق بالرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي أصبح رئيسا بعد 50 عاما من الصورة "الملتقطة عام 1949، حيث كان عمره وقتها 12 سنة.. كان غريبا تصديق الأمر في البداية، ثم عدنا لنتساءل، هل غريب تصديقه حقا أو أننا لا نريد تصديقه في دولة ما يزال تاريخ زعمائها وحياتهم الشخصية تمثل "طابو" لا يجوز الاقتراب منه؟ وحسب ما نقله لنا فرحات ووالدته التي تعيش على ذكريات زوجها الراحل، فإن هذا الأخير كان يقرن دائما ذكره لاسم "عبد العزيز بوتفليقة" بالقول إنه " كان شابا ذكيا وطموحا يريد امتلاك كل شيء لأنه يعتقد باستحقاقه لامتلاكه"، كان حاد الذكاء، يعرف ماذا يريد في المدرسة ولا يبحث عن شيء آخر ماعدا النجاح والتفوق على أقرانه. لقد قال الحاج مصطفى هذا الكلام على "الرئيس" ولم يكن قد أصبح رئيسا للبلاد بعد، فالشاهد مات عام 1996، أي قبل اعتلء "سي عبد القادر" سدة الحكم في قصر المرادية بثلاث سنوات، لكنه كان إسما بارزا في أروقة السياسة، والخارجية منها على الخصوص، بعدما جعله الرئيس بومدين ساعده الأيمن ومنحه حقيبة الخارجية للسنوات الأولى بعد الاستقلال، ثم اختفى في صحرئه و"منفاه الاختياري" مجددا منتصف التسعينيات كبديل للمجلس الأعلى للدولة. ولا شك أن فخامته ما يزال يحتفظ بكثير من تلك الصفات التي أوردها الحاج مصطفى مغفور عن صديق طفولته، فهل ما يزال يذكرها هو عنه؟ أغثنا يا فخامة الرئيس تروي الحاجة سعدية، زوجة المدير السابق لمدرسة لخضر حفيز الحاج مصطفى، أنها لم تعد تستطيع تحمّل إشعارات الطرد التي تصلها في كل مرة إلى البيت لتطالبهم بإخلائه، "أين يريدون منا الرحيل؟...لا مكان لنا بعد هذا البيت سوى الشارع.. تقول الحاجة سعدية التي ناشدت جميع المسؤولين وفي مقدمتهم رئيس الجمهورية أن يتحرّكوا لتكريم زوجها من خلال إنقاذ عائلته من الشارع، وحفظ كرامة زوجته وأبنائه، وقبل كل ذلك حفظ ذاكرته... ويضيف على ذلك إبنه فرحات بالقول إن والده يعتبر من أوائل الجزائريين الذين حصلوا على ليسانس في التاريخ والجغرافيا والأدب "الفرنسي"، وقد اختار منذ البداية مهنة التعليم لتقديسه لها، ولإيمانه الشديد مثل جده أن "شعبا يتعلم ويحب العلم، هو شعب لا يستعمر ولا يستعبد.. ولذلك كان الحاج مصطفى معلما في الابتدائي ثم المتوسط، فمديرا لمتوسطة لخضر حفيز التي بقي فيها منذ 1981 وإلى غاية وفاته عام 1996، أي 15 سنة لم يفكّر فيها بأبنائه الأربعة بقدر ما فكر في جميع أبنائه من التلاميذ، و40 سنة من التعليم لم تشفع لعائلته من الحصول على أربعة جدران أو سكن لائق يحفظ كرامة أفرادها، لذلك لم تجد العائلة في نهاية المطاف سوى طرق أبواب الصديق القديم لوالدهم، واختاروا جريدة "الشروق اليومي" لإيمانهم أنها الأقرب لإسماع صوتهم لرئيس الجمهورية من أجل أن يتحرّك لحل مشكلتهم وإنقاذهم من الشارع.. ولعل في هذه الصورة المنشورة لأول مرة ما يبعث الحنين في نفس القاضي الأول للبلاد من أجل تكريم رجل وطني ومناضل مثل "مصطى مغفور" وحفظ كرامة عائلته في وهران. قادة بن عمار