أعتبرُ "الشروقيين" زملاء (Collègues)، حيث يُفترض أننا نؤمن بمبادىء مشتركة، ونجادل عن منظومة فكرية واحدة، كلّ من موقعه، وكمل بما يُسّر له. ولهذا أعترف أنني أكتفي أحيانا بقراءة عناوين مقالات الشروق اليومي، مطمئنا إلى محتواها، لأن كتّابها "Collègues". وهذا ما فعلته يوم الخميس الماضي (6 - 3 - 2008)، حيث قرأت عنوان مقال "الزميل" عابد شارف "البحث عن العدو الجديد"، ولم أقرأ المقال، ظنا مني أنه يتحدث فيه عن المقولة التي راجت في الأدبيات الغربية بعد إفلاس الشيوعية، وانهيار الاتحاد السوفياتي؛ وهي إن على الغرب أن يبحث عن عدو جديد، فإن لم يجد عدوا، فعليه أن يختلقه، كي تبقى درجة الاستنفار مرتفعة، وطاقة التحشيد المادي كبيرة. ولم يبحث الغرب لا كثيرا ولا قليلا عن هذا العدو، لأنه -في مخياله العام- أقرب إليه من حبل الوريد، وما هذا العدو إلا الإسلام وأتباعه، حيث يرضع الغربي كراهية الإسلام والمسلمين، ولا ينفطم عنها من مهده إلى لحده إلا قليلا منهم.لقد صادف أنني كنت مدعوّا في ذلك اليوم للغداء عند أخ كريم هو الدكتور بشّار. ص، فأعطاني فكرة سريعة عنه، ودخلنا في "الأمر الإلهي الوحيد الذي لم يعصه إنسان، وهو "كلوا واشربوا"، كما يقول الإمام محمد البشير الإبراهيمي.فلما عدت إلى منزلي قرأت المقال، فوجدت فيه منا يستوجب الرد.لقد فهمت أن صاحب المقال يتبنى ما يعتبره أكبر مسؤولي الجالية المسيحية في الجزائر "إحراجا" من طرف الإدارة الجزائرية، وحاجزا بسيكولوجيا "تثيره حرب مفتعلة ضد المسيحيين".ويشمّ في المقال نوع من اللوم أو الاستنكار لما يعانيه رجال الدين النصارى من تضييق في الجزائر، تمثل في عدم منح تأشيرة دخول لبعض رجال الدين النصارى إلى الجزائر، وفي طرد الرئيس السابق للجالية البروتستانتية، الذي يقيم في الجزائر منذ خمس وأربعين سنة، وفي الحكم بالسجن على أحد رجال الدين النصارى أقام حفلا دينيا مع "مجموعة من المهاجرين الأفارقة غير الشرعيين"، وأكد صاحب المقال "أن الكنيسة الكاثوليكية ليست معروفة بعملية التنصير".وأشار صاحب المقال إلى أن الصحافة الجزائرية صنعت من "ظاهرة التنصير قضية ذات حجم عظيم"، ثم ثنّى في شبه لوم أو عتاب على من سمّاها "الشخصيات الروحية" الجزائرية، المكلفة بالشؤون الدينية، التي "تكلمت بلهجة متشددة"، وذكر من هذه الشخصيات "الروحية" وزير الشؤون الدينية، ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى "وحتى منظمة العلماء" -كما سماها- التي "لم تنج من الحملة ضد التنصير".كما أنحى صاحب المقال باللائمة على منشطي الحملة المضادة للتنصير لأنهم "لم يبالوا بالماضي ولا بالحاضر ولا بالمستقبل"، ولأنهم نسوا أن "منشطي ما يسمى باليسار المسيحي كان يشكل أهم فئة من الأصل الفرنسي التي ساندت القضية الجزائرية"، وهذا كله في رأي صاحب المقال "يشير في حقيقة الأمر إلى التراجع الفكري والسلوكي في الجزائر".إن ضيق الوقت وحجم المساحة لا يسمحان لي بالتوسع في الرد على مقولات صاحب المقال، وإيراد الشواهد على أن الأمر هو أخطر مما يراه، وأننا مقصرون في التصدي لهذه الحملة التنصيرية التي تستهدف أعز عزيز علينا، وهو ديننا الحنيف، ووطننا الشريف، وأكتفي بإشارات خاطفة، راجيا أن أعود إلى الموضوع في وقت آخر.كنت أودت أن يكون صاحب المقال منصفا، فيشير إلى ما يكابده الدعاة المسلمون في الغرب من تضييق، وعَدّ للأنفاس، وتجسس على هواتفهم الثابتة والنقالة، حيث ما يلفظون من قول إلا لديهم رقيب عتيد من العيون والآذان، وطرد لبعضهم شر طرد، وإلقاء بعضهم في غيابات السجون..وكنت أود أن يكون صاحب المقال منصفا فيذكر أن الدول الغربية تفرض إعطاء تأشيرات لكثير من الأئمة المسلمين الذين تعينهم وزارات الأوقاف- خاصة في رمضان- للذهاب إلى الدول الغربية، لا لدعوة النصارى إلى الإسلام؛ ولكن لتذكير إخوانهم المسلمين، وتعليمهم أمور دينهم. بل لقد رفضت بريطانيا "العظمى" إعطاء تأشيرة لرمز من رموز المسلمين، وهو فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي، للعلاج مما ألمّ به من داء، وكذلك فعلت الولاياتالمتحدةالأمريكية، التي لم تكتف بمنع فضيلة الشيخ من دخول أراضيها؛ بل ضغطت على بعض الدول لمنعه من دخولها بعدما أعطته تأشيرة الدخول.وإذا كانت الشخصيات "الروحية" لا تتدخل، ولا تنفر ضد هذه الحملة التنصيرية فمن يتحرك؟.إن هذه الشخصيات "الروحية" مكلفة من الدولة قانونا، ومكلفة قبل ذلك شرعا بحماية دين الأمة، والتصدي لكل من تحركه الأصابع من وراء البحر للعبث بمصير الأمة، وهل يجهل صاحب المقال الحملة التي يقودها كبير الكاثوليك، -بينديكت 16- ضد الإسلام، والتخويف منه، حيث روي عنه مؤخرا أنه يخشى على أوروبا ثلاثة قواصم هي:- تناقص النمو الديموغرافي في كثير من الدول الأوروبية، وذكر منها ألمانيا وإيطاليا.- تزايد عدد المهاجرين المسلمين إليها، ما يهدد -في المدى المنظور- وحدتها الدينية المسيحية، وانسجامها الاجتماعي.- تزايد اعتناق الإسلام من كثير من الأوروبيين.إن بعض المسيحيين يبدون أكثر إنصافا من صاحب المقال، وأدرى بمهمة المنصرين في العالم الإسلامي، ومنه الجزائر، فقد تابعت يوم السبت (8 - 3 - 2008) ندوة في قناة الحوار، شارك فيها قسيسان عربيان هما د. عودة قواس، عضو اللجنة المركزية لمجلس الكنائس العالمي في الأردن، و"الأب" شفيق، وهو لبناني مقيم في لندن، حيث قال أولهما تعقيبا على طرد الأردن بعض المنصرين، إن ما يقومون به هو -كما سماه- "اقتناص"، ووصف ثانيهما عملية التنصير في عالم الإسلامي بأنها "هجمة على الإسلام"، وسمى القائمين عليها "المسيحيين الكذبة".ويبدو صاحب المقال مصدِّقا لمقولة أن الكنيسة الكاثوليكية ليست معروفة بعملية التنصير، ولست أدري على من يقرأ زابوره، ناسيا، أو متانسيا، أن جرثومة التنصير ما دخلت الجزائر إلا في أرْدِية الكنيسة الكاثوليكية، فإن قال: إن ذلك مضى وانقضى، رددنا عليه بما شهد به "أبونا" تيسيي في حواره مع جريدة الشروق اليومي (11 - 2 - 2008) حيث قال: "هناك جماعة مسيحية تكونت خلال 30 سنة الأخيرة في الجزائر"، ولو كانت هذه الجماعة المسيحية من البروتستانت فقط لما جادل عنها، وبكى، واستبكى.وأما ما أشار إليه صاحب المقال من أن منشطي الحملة ضد التنصير لم يبالوا بالماضي، ولا بالحاضر، ولا بالمستقبل، فهو العكس تماما، فمعرفتنا بما قام به المنصرون الكاثوليك في الماضي هو الذي جعل أولئك المنشطين المخلصين ينفرون ويستنفرون غيرهم لمواجهة هذه الحملة التنصيرية خوفا على حاضرنا ومستقبلنا.ألم يعلم صاحب المقال أن تيمور الشرقية لم تنفصل عن تيمور الغربية وعن أمها اندونيسيا إلا بسبب الأعمال التنصيرية؟ألا يرى صاحب المقال ويسمع ما يجري في جنوب السودان، الذي سينفصل عما قريب عن السودان بسبب الأعمال التنصيرية؟ألم يقرأ ما قاله "أبونا" تيسيي من أنه سيطالب باستعادة الكنائس التي حولت إلى مساجد، وأنه سيطالب ببناء كنائس فيما سينشأ في الجزائر من مدن جديدة؟هل قرأ صاحب المقال أن مسلما في فرنسا استغل مدرسة، لنشر الإسلام واستغفال الأطفال الفرنسيين؟ في حين أن جزائريين مسيحيين خانوا أمانة الوظيفة، واستغلوا مدرسة جزائرية لتنصير أطفالنا الأبرياء، وعندما قامت الدولة الجزائرية بواجبها، وأوقفت هؤلاء الفتانين علت أصوات مسيحية منددة ومستنكرة..وأما من سماهم صاحب المقال منشطي اليسار المسيحي الذين ساندوا القضية الجزائرية، فنحن لم نتنكر لهم، وقد شكرناهم على ذلك، ولكننا نقول أيضا بأن ما فعلوه كان في البدء والختام دفاعا عن سمعة فرنسا التي اهتزت في العالم، وتجميلا لوجهها الذي تشوّه بسبب أعمالها الإجرامية ضد الأبرياء من النساء والأطفال والشيوخ طيلة مائة واثنتين وثلاثين سنة في الجزائر.إنني دائم التساول: لماذا يحاول المنصرون تنصير المسلمين؟هل يفعلون ذلك لكي نؤمن بالله عز وجل؟ إنهم يعلمون أننا أعمق وأصدق إيمانا بالله عز وجل، وأحرص على تنزيهه وتقديسه.هل يفعلون ذلك لكي نؤمن بعيسى -عليه السلام-؟ إنهم يعلمون علم اليقين أننا أشد إيمانا به، ونَفَيْنَا عنه القتل والصلب، بل إن إيماننا بمحمد -عليه الصلاة والسلام- مردود علينا حتى نؤمن بعيسى، وموسى، وسليمان، ويعقوب، وإبراهيم، وجميع الأنبياء والمرسلين، عليهم الصلاة والسلام، في حين أن هناك من المسيحيين من ينكر وجود عيسى -عليه السلام- ويعتبره شخصية أسطورية (1).لقد صدقت المفكرة الفرنسية إيفا دي فيتري مايروفيتش، التي قالت بعدما أسلمت وجهها لله، رب العالمين: "لما اعترفت بمحمد -صلى الله عليه وسلم- كرسول لم أشعر أنني تنكرت لأحد، ما زلت أؤمن بمهمة عيسى وعذرية مريم، شعرت -فقط- بأنني تركت ثرثرة رجال الدين (2)"، وتقصد بثرثرة رجال الدين مناقشاتهم عن الثالوث، الذي تستبشعه الفطرة السليمة، ويأباه العقل السليم.إن الأمر ليس هينا يا أخي عابد، وهو أخطر مما يظنه بعضنا، ويستقله بعضنا، وإذا كنا قد ذُعرنا من هذه الحملة التنصيرية فلأننا نعلم -يقينا- نتائجها الوخيمة على وطننا وشعبنا، ومن لدغة الثعبان يخاف الحبل، وقد لدغنا التنصير منذ پافي، وديبيش، ولافيجري، ودوفيالار، ودوفوكو، ودوڤيون، وآخرين يرضوننا بأفواههم، ويروغون كما يروغ الثعلب.وأذكرك يا أخي عابد بقوله تعالى: "ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا"، وبقوله عز وجل: "ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم". وأذكرك أخيرا، يا أخي عابد، بقول حكيمنا المتنبي: إذا رأيت نيوب الليث بارزة فلا تظنن أن الليث يبتسموبقول القائل:إن الأفاعي وإن لان ملمسهافي أنيابها السم الزعاف-----------1- انظر الدراسة القيمة المسماة "موقف اليهود والنصارى من المسيح عليه السلام" للدكتورة سارة بنت حامد العبادي.2- إيفا دي فيتري مايروفيتش: الطريق إلى الحق. الجزائر. دار الأمة ص74.