أنا هاربٌ من الأضواء والكاميرات إلى الحروف والكلمات.. أحيانا تتملك المرء رغبةٌ جامحةٌ في الهروب نحو حضن ما، ومنذ الصغر عودت نفسي عندما تقتضي الظروف الهروبَ إلى حضن الكلمة، فليس في الكون الفسيح ما يعْدل رحابة هذا الحضن الاستثنائي... حتى ذوات الأحضان اللائي تقع الجنة تحت أقدامهن، يهربن بأطفالهن إلى دفء الكلمة عندما يمضي الليل، وتضيق صدورهن وتعجز عن إقناعهم بالخلود إلى النوم.. وبعد قرابة نصف قرن من العمر، مازال صوت جدتي يرن في أذني وهي تفر بي كل ليلة إلى بساتين الكلمة، وحقول الزجل الشاوي القديم، فأنام هانئا هادئا مطمئنا، في انتظار موعد آخر جميل في الليلة المقبلة! الكاميرا مثل أية امرأة حسناء تشترط الكثير، فهي لا تقبل بك في حضنها إلا بعد أن تقلم لسانك قبل أن تقلم أظافرك، ثم ترتدي أحسن ما عندك من لباس قبل أن تمر إلزاما بغرفة الماكياج، وعندما تجد نفسك قد خضعت لكل شروطها تخل باتفاقها معك، وتفاجئك باشتراط حضور رقيب يقف على حافة لسانك وأنت تتكلم، وعندما يتعبه الوقوف يتخذ لنفسه مقعدا عند مدخل فمك! أما الكلمة فهي لا تشترط شيئا، شرطها الوحيد أن تكون صادقا معها ومع نفسك، ثم لا يهم بعد ذلك إن جئتها بلباس النوم أو بآخر بدلات "سمالتو".. وبخلاف الكاميرا، تمد الكلمة يدها إليك متى جئتها بتلقائيتك، لأنها ببساطة مع العفوية ضد التكلف، ومع الوجه الطبيعي ضد كل مساحيق التجميل، وعندما تدخل عليها بالتلقائية التي عجنت بها، وبالفطرة التي فطرك الله عليها، تفتح لك قلبها وتغلق الباب، ثم ترمي بالمفتاح في قاع البحر! تفتح "الشروق" ذراعيها لتستقبلني، وكم يؤسفني ألا أستطيع أن أقدم لها سوى نصف خبر وورد أقل، فقد تعود جمهور التلفزيون في بداياتي الإعلامية كمذيع أخبار، أن يسمع مني الخبر كاملا، ثم عودته عندما انصرفت إلى الإنتاج التلفزيوني أن أضع بين يديه من خلال البرامج التي أنتجها بدل وردة واحدة شجرة ورد، لكن رغبتي في إطالة المقام بينكم، في حضن الشروق الدافئ، يحتم علي أن أكتفي من الخبر بنصفه أو انقص منه قليلا، ومن شجرة الورد بورد أقل، ذلك أنني حفظت الدرس جيدا بعدما تبين لي أن القرصانَ الذي اختطف الكاميرا في الجزائر وطمس عينيها حتى لا تبصر إلا ما يبصره، يرى الأشياء مضخمة بحكم قصر نظره وقدم نظاراته، فيتوهم حجما ما من تأثير ما، تتركه أعمالي المتواضعة في نفوس المشاهدين، رغم حرصي الدائم على أن تكون إطلالتي على التلفزيون مثل إطلالة من تصومون لرؤيته، وبسبب هذا التوهم الخاطئ تسلل بسرعة بين اللحم والظفر، ودخل بيني وبين الكاميرا بمجرد أن عرف علاقتي الحميمية بها، وتمكن في الأخير من سرقة قلبها مني، وأقنعها بالاستغناء عني، وأصدر قرارا بالنيابة عنها محا بموجبه اسمي من مفكرتها ومن قائمة عشاقها! وعلى هذا الأساس، أقنعْت الزملاء في الشروق أن يكون اللقاء بكم مؤقتا كل يوم جمعة فقط، حيث مساحة التأثير الوهمي أقل، وحجم المقروئية الحقيقي أضيق، إلى أن يستعيد هذا القرصان نظره الطبيعي أو يذهب إلى الجحيم! ويتوجب عليّ في الأخير، وقد استعرت عنوان ديوان محمود درويش لهذا المقال الافتتاحي، أن أعتذر لورثة الشاعر الراحل عن استعمال عنوانه لسببين اثنين: الأول أنني أقدر الملكية الفكرية حق قدرها، باعتبار أن جميع الكتب السماوية والشرائع الأرضية تقرها وتحتفظ للمؤلف بحق التأليف، وليس أدل على ذلك من غضب الله على اليهود عندما حاولوا الاستيلاء على كلامه وتحريفه. وقد احتج بوذا على الهندوس عندما حاولوا سرقة وصاياه وتغييرها.. والثاني وهو المهم لاعتقادي أن درويش، رغم كل ما قدم وما أخر، رحل عنا ولم يترك خلفه في وسط هذه الأمة التي تعج بقراصنة الفكر والإبداع سوى نصف خبر عن وفاته وورد أقل لقرائه! ملحوظة: كل المعاني الواردة أعلاه من نسج الخيال، وأي تشابه في الأسماء أو الصفات أو الأفعال أو المهام أنا بريء منه! سليمان با خليلي