شيعت بمقبرة سيدي يحيى بأعالي حيدرة، ظهر الجمعة، جنازة المجاهد العقيد محمد الصالح يحياوي، وسط جو مهيب، مفعم بالحزن والأسى على فقدان أحد رجالات الثورة العظماء، والإطارات التي أفنت عمرها في سبيل خدمة هذا الوطن المفدى، وسط حضور مسؤولين سامين في الدولة على غرار وزراء الداخلية والمجاهدين والثقافة والنقل والاتصال والمدير العام للأمن الوطني مصطفى لهبيري. وحظيت جنازة العقيد يحياوي، بحضور إطارات سامية في الدولة، حيث غصت مقبرة سيدي يحيى قبيل أداء الصلاة بعشرات المسؤولين البارزين في الدولة الجزائرية، وكأنها أرادت تكريم رجل عظيم أفنى عمره في سبيل محاربة المستدمر الفرنسي، مع العمل على خدمة الوطن غداة الاستقلال، وهو الرجل الذي عرف بمواقفه الثابتة بشهادة كافة من عرفه من سياسيين وإطارات سابقين، فضلا عن خصاله والأخلاق الحميدة وسط جيرانه وكل من يعرفونه. واصطفت قبيل أداة صلاة الجمعة العشرات من السيارات الفخمة لوزراء سابقين وحاليين، الأمر الذي أوحى أن جنازة الفقيد ستكون رسمية، حيث أدى وزير الثقافة عز الدين ميهوبي صلاة الجمعة وسط المواطنين، ومباشرة بعد الصلاة حتى وصل عشرات المسؤولين يتقدمهم وزير الداخلية والجماعات المحلية نور الدين بدوي ووزير المجاهدين الطيب زيتوني، ليصل فيما بعد وزير الشؤون الدينية والتكوين المهني ووزير الاتصال، فضلا عن المدير العام للأمن الوطني العقيد مصطفى لهبيري الذي تخلى عن كافة البروتوكولات خلال حضوره لجنازة رفيق الدرب والسلاح، إلى جانب الأمين العام برئاسة الجمهورية حبة العقبي. كما حضر الجنازة مسؤولون سياسيون على غرار الأمين العام لحزب الأفلان وبلعيد عبد العزيز رئيس جبهة المستقبل ورؤساء حكومات ووزراء سابقين، عايشوا الفقيد وعملوا معه في فترة من فترات الجزائر المستقلة، على غرار رئيس حزب طلائع الحريات علي بن فليس ورئيس الحكومة الأسبق مولود حمروش، إضافة إلى وزير الداخلية الأسبق يزيد زرهوني، والوزير الأسبق محيي الدين عميمور. وقد أجمع الحضور على التأكيد أن الرجل قامة ثورية وسياسية بفضل مواقفه التي قل نظيرها، خسرت الجزائر بفقدانه رجلا عظيما، راجين من جيل المستقبل أن يستلهموا من أمثال هؤلاء الرجال العظماء. وردّدوا جميعهم أنّ الفقيد رحمه الله عاش عارفا قدر نفسه وخلف موته حزنا كبيرا وسط رفاق دربه وكل من حضر الجنازة، كيف لا وهو الرجل الثوري الذي قال مرارا إن شعب نوفمبر محكوم عليه ألا أن ينهزم وينكسر، ها قد ودع الجزائر بعدما كتب اسمه بأحرف من ذهب، بفضل تضحياته الكبيرة. الرئيس بوتفليقة: لا أحتمل وقع الرزء.. ويحياوي عاش على الكفاف بعث رئيس الجمهورية، عبد العزيز بوتفليقة برقية تعزية إلى كافة أفراد أسرة المجاهد محمد الصالح يحياوي، الذي وافته المنية أمس، عن عمر يناهز 81 سنة، قال فيها أن المرحوم من الذين "عاشوا على الكفاف حتى غدا الإيثار لديهم طبيعة والتضحية منهجا والشهادة مطلبا". وقال الرئيس بوتفليقة: "لا أحتمل وقع الرزء على النفس وأنا أعزي في أخ عزيز, رفيق سلاح شجاع, ومناضل صلب في دفاعه عن المبادئ السامية والمثل العليا، إنه المجاهد والمناضل والصديق الحميم، والخل الودود محمد الصالح يحياوي الذي ألفته ميادين النزال، وتماهت معه ساحات الوغى مع أولئك الذين استبسلوا سنين المعارك الكبرى على قمم الجبال وسفوحها وفي كل واد ومنحنى، ما لانوا يوما ولا بدلوا تبديلا، عاشوا على الكفاف حتى غدا الإيثار لديهم طبيعة والتضحية منهجا والشهادة مطلبا. وأضاف الرئيس "إن ابن مدرسة جمعية العلماء المسلمين الذي نهل في السلسبيل الصافي لذلك النبع المتدفق رحمة واستقامة وعزة وحبا للوطن، هذا الشبل، شبل الثورة لم يتخلف يوم حصحص الحق وهب نساء ورجال إلى حمل عبء ثقيل تتقاعس عنه الفحول وتتهيبه الأبطال، ومنازلة جحافل محتل ألقى سدوله الكثيفة على وطن عزيز وشعب أبي مدة قرن ونيف، ظن بعدها المحتل أن جذوة الحرية قد خمدت في النفوس، واستكان الشعب إلى سلطة البطش والقهر إلى أن انفجرت ثورة التحرير، وهب المجاهدون يدكون حصونه المتهاوية وعروشه الخاوية، ورغم انعدام التوازن في القدرة بين قوة الشر وقوة الخير، فإنّ المخلصين رجحوا بإيمانهم كفة الحق ليستأثروا بعون من الله وبأزر من شعبهم". واستطرد الرئيس قائلا: "وقد التحقت بالرفيق الأعلى قوافل تترى الواحدة اثر الأخرى لينعموا بما وعدهم الحق، وبقيت ثلة كان لها فضل الإسهام في بناء صرح الدولة الحديثة. وما الأخ محمد الصالح إلا واحد من هذا الرعيل الذي فرض بشمائله شرف الاقتداء وحق العرفان بالتضحيات الجسام…". الوزير عميمور: تصفية يحياوي خطيئة.. وأخطاؤه مفبركة قال الكاتب والوزير الأسبق محيي الدين عميمور إنّ "محمد الصالح يحياوي اختفى من الساحة السياسية منذ بداية الثمانينيات، إلى درجة أن هناك من كان يتصور أنه انتقل إلى رحمة الله قبل اليوم". وأكّد عميمور في تصريح ل"الشروق" أنّ الفقيد محمد الصالح يحياوي وقف معه شخصيا عندما رفضت وزارة الصحة الاعتراف بشهادته الطبية التي حصل عليها من القاهرة في 1963، وقال له المسؤول الطبي في العاصمة يومها إنه "لا يمكن تعيين طبيب لم يحصل إلا على البكالوريا". وأضاف عميمور: "وحاولت عبثا إفهامه بأن كل الشهادات العلمية الجامعية في المشرق تحمل اسم "بكالوريوس"، وهي شيء غير البكالوريا، ولم ينقذن ،نذاك إلا اتجاهي إلى القوات المسلحة، حيث التحقت بالبحرية، وعرفت فيما بعد أنه كان لوزير الدفاع أنذاك دور في ذلك". وأوضح المتحدث أنّ يحياوي وضع فيما بعد كل ثقله معه لانتزاع حقه في فتح عيادة خاصة بعد خروجه من البحرية، وانتقم منه المسؤول الطبي آنذاك بحرمانه من الحصول على عيادة من العيادات الشاغرة، وكان ليحياوى الفضل الكبير في تمكينه من إثبات وجوده الطبي في العاصمة الجزائر. ولم يخف عميمور أنّه عندما استدعاه الرئيس الراحل بومدين للعمل برئاسة الجمهورية، استشار محمد الصالح يحياوي وكانت شهادة محل اعتزاز عنده. وأشار المتحدث إلى أنّ يحياوي أصبح الرجل الثاني في الدولة بعد رحيل بومدين، وهو من دعاهم إلى الاصطفاف وراء الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، لكن لم يستمر ذلك طويلا وتم التخلص منه في بداية الثمانينيات إثر الدورة الثالثة للجنة المركزية. ولفت المتحدث إلى أنّ هذه الخطوة كانت بداية انزلاق النظام وانهيار حزب جبهة التحرير الوطني، الذي فقد مضمونه الديمقراطي الذي عُرِف به، وذلك في التصفيات التي عرفها في المؤتمر الخامس في ديسمبر 1983، وتم فيها التخلص نهائيا من يحياوي وعبد العزيز بوتفليقة وعبد السلام بلعيد وآخرين في مستويات أقل أهمية، من بينهم العبد الضعيف. واعتبر أنّ تصفية يحياوي كانت خطيئة سيدفع النظام ثمنها غاليا فيما بعد، لأن يحياوي كان بالنسبة إلى رئيس الجمهورية، والرئيس الشاذلي على وجه التحديد، مرآة صافية يرى فيها الحاكم حقائق الأوضاع. وفي السياق، أوضح عميمور أنّ بعض الأخطاء التي نسبت إلى يحياوي كانت مفبركة ونتجت عن تصرفات البعض في محيطه. بوجمعة صويلح: يحياوي رجل الحوار بين الجزائريين وبدوره، أشاد القيادي السابق في جبهة التحرير الوطني البروفيسور بوجمعة صويلح بخصال ومناقب المجاهد محمد الصالح يحياوي، معزّيا النفس والأهل والشعب الجزائري، بل الأمة العربية في فقدانه، باعتباره شخصية وطنية وقومية بارزة. وفي تصريح ل"الشروق" أكد بوجمعة صويلح أن الفقيد معروف بمواقفه الوطنية والقومية وباتجاهه العروبي، فهو مناضل كبير قدم للجزائر في أحلك مراحلها، إبان الكفاح والتحرير وخلال عهد التنمية والتعمير. وأضاف السيناتور السابق الذي رافق المرحوم في قيادة "الأفلان" بزعامة المرحوم عبد الحميد مهري، إنّ المجاهد يحياوي لعب دورا كبيرا في جبهة التحرير الوطني، سواء كمنسق في فترة الرئيس بومدين، أو كعضو للأمانة العامة بالمكتب السياسي في التسعينات، موضحا أنه كان عاملا قويّا في رأب الصدع وتضميد الجراح في زمن المحنة الوطنية. وبخصوص رؤيته لأوضاع البلاد، قبل وبعد أحداث أكتوبر 88، شدّد صويلح أن الفقيد يحياوي كان يسعى دومًا لامتصاص الغضب وبناء الحوار وتقريب الرؤى، حيث ظلّ محافظا على هدوئه ومحوريته في جمع الجزائريين. قالوا عن الفقيد: ولد عباس: يحياوي رجل عظيم ومناضل مثالي قال الأمين العام لجبهة التحرير الوطني جمال ولد عباس، إن المجاهد العقيد محمد صالح يحياوي كان رجلا ومناضلا مثاليا، ويعتبر نموذجا للأجيال، وأضاف أن المجاهد الفقيد معروف حين كان مسؤولا لحزب الأفلان أنه رجل ومناضل فذ، أعطى الكثير للحزب وللجزائر، وكان له دور في صنع رجال ومثقفين. بن فليس: الرجل أحب الجزائر وأفنى عمره من أجلها كما أثنى رئيس الحكومة السابق علي بن فليس، على خصال الرجل، مؤكدا أن الفقيد باديسي التكوين ووطني التوجه، أحب الجزائر كثيرا، وعمل بتفان وإخلاص، مشيرا أنه مثال تحتذي بها الأجيال القادمة في الوطنية والإخلاص جمال كعوان: يحياوي قامة ثورية اعتبر وزير الاتصال في تصريح للصحافة أن الرجل قامة ثورية وسياسية، ورجل قدم الكثير للوطن وهو من العظماء الذين أنجبتهم الجزائر وافتخرت بهم، حيث خدم وطنه بتفان وإخلاص كبيرين. خالفة مبارك: وبدوره أثنى الأمين العام للمنظمة الوطنية لأبناء المجاهدين خالفة مبارك كثيرا على خصال الفقيد، الذي اعتبره من الرجال العظماء، منوها بمواقفه الثابتة والجريئة، والتي ستبقى خالدة وراسخة وسط الأجيال المقبلة. زيتوني: يحياوي ظل "وفيا" لخصاله ولتضحيات الشهداء كما بعث وزير المجاهدين, الطيب زيتوني, برقية تعزية إلى أسرة المجاهد العقيد محمد الصالح يحياوي, أن المرحوم ظل "وفيا" لخصاله ولتضحيات الشهداء الأبرار، "متمسكا" بمبادئه و"ملتزما" بشرف الجهاد والنضال. وجاء في برقية الوزير أن الفقيد الذي "شارك في عديد المعارك وقدم النفس والنفيس في سبيل الحرية والاستقلال, ظل وفيا لخصاله ولتضحيات الشهداء الأبرار والمجاهدين الأخيار، متمسكا بمبادئه ملتزما بشرف الجهاد والنضال من أجل الحرية والانعتاق". وأوضح زيتوني أن الاستقلال الوطني كان بمثابة "محطة في مسيرته التي تواصلت بنفس الروح والالتزام لبناء مؤسسات الدولة الجزائرية المستقلة في كل المناصب والمسؤوليات التي تقلدها، سواء في مؤسسة الجيش الوطني الشعبي أو في الحياة المدنية مقدما بذلك للأجيال أروع الصور في حب الوطن والتفاني في خدمته". بورتري: محمد الصالح يحياوي.. مسيرة مناضل وثائر ولد محمد الصالح يحياوي، بعين الخضرة ولاية المسيلة في عام 1937، ينحدر من عائلة محافظة، عرف بذكائه الحاد وذاكرته القوية، تلقى تعليمه بالمدرسة الملتزمة "ابن بدايس"، كان والده إماما، وهو ما ساعده لأن يستلهم منه أكثر الثقافة الدينية. ويعتبر محمد الصالح يحياوي واحدا من كبار ضباط الثورة التحريرية، شغل منصب عضو مجلس الثورة في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين، يلقب ب"أكبر جريح في الثورة"، حيث تعرض للإصابة خلال عشر مواجهات مع العدو الفرنسي، بما لا يقل عن 18 إصابة، كما أصيب محمد الصالح يحياوي في 18 جانفي 1962 في معركة وقعت بالواد الأحمر ضواحي أريس، بينما كان قائدا للمنطقة الثانية. وبعد الاستقلال تقلّد عدّة مناصب منها تعيينه عضوا في قيادة الأركان ومجلس الثورة، رقّي إلى رتبة رائد في الجيش الوطني الشعبي في 1964، شغل عدة مناصب في الجناح العسكري فكان عضوا بالولاية التاريخية الأولى الأوراس، تولى قيادة الناحية العسكرية الثالثة في الفترة ما بين 1964-1969، وبين هاتين الفترتين كان مسؤولا للمنظمات الجماهيرية بالحزب، وعضوا في اللجنة المركزية بعد مؤتمر 1964. وعمل مساعدا لقائد الأكاديمية العسكرية بشرشال لمختلف الأسلحة، ثم عيّن قائدا للناحية العسكرية الثالثة ببشار، ثم سنة 1969 قائدا للأكاديمية العسكرية، إلى حين تعيينه سنة 1977 مسؤولا تنفيذيا للجهاز التنفيذي لحزب جبهة التحرير الوطني استعدادا للمؤتمر الرابع. في ماي 1980 يقرر أعضاء اللجنة المركزية للحزب سحب الثقة من منسق الحزب محمد الصالح يحياوي كخطوة أولى نحو القضاء على الرموز البومدينية، وتم إبعاده نهائيا من الحزب والدولة، ثم يقرر الابتعاد نهائيا عن الحياة السياسية، قبل العودة إلى الأمانة العامّة للأفلان في عهد المرحوم عبد الحميد مهري، مؤديًّا دورا بارزا في إخماد نار الفتنة من خلال الحوار والمصالحة الوطنية.